
يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ (١٠)
شرح الكلمات:
يبتغون فضلا من الله ورضوانا: أي هاجروا حال كونهم طالبين من الله رزقاً يكفيهم ورضا منه تعالى.
أولئك هم الصادقون: أي في إيمانهم حيث تركوا ديارهم وأموالهم وهاجروا ينصرون الله ورسوله.
والذين تبوءوا الدار والإيمان: أي والأنصار الذين نزلوا المدينة وألفوا الإيمان بعدما اختاروه على الكفر.
من قبلهم: أي من قبل المهاجرين.
ولا يجدون في صدورهم حاجة: أي حسداً ولا غيظاً.
مما أوتوا: أي مما أوتي إخوانهم المهاجرون من فيء بني النضير.
ويؤثرون على أنفسهم: أي في كل شيء حتى إن الرجل منهم تكون تحته المرأتان فيطلق أحداهما ليزوجها مهاجراً.
ولو كان بهم خصاصة: أي حاجة شديدة وخلة كبيرة لا يجدون ما يسدونها به.
ومن يوق شح نفسه: أي ومن يقه الله تعالى حرص نفسه على المال والبخل به.
والذين جاءوا من بعدهم: أي من بعد المهاجرين والأنصار من التابعين إلى يومنا هذا فما بعد.
ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين: أي حقداً أي انطواء على العداوة والبغضاء.
آمنوا

معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحديث عن فيء بني النضير وتوزيع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له فقال تعالى ﴿لِلْفُقَرَاءِ﴾ أي أعجبوا١ أن يعطى فيء بني النضير للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون أي حال كونهم في خروجهم يطلبون فضلا من الله أي رزقاً يكف وجوههم عن المسألة ورضواناً من ربهم أي رضاً عنهم لا يعقبه سخط. إذ كان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطى فيء بني النضير للمهاجرين ولم يعط للأنصار إلا ما كان من أبي دجانة وسهل بن حنيف فقد ذكروا لرسوله الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حاجة فأعطاهما. فتكلم المنافقون للفتنة وعابوا صنيع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنزل الله تعالى هذه الآية يعجب منهم الرسول والمؤمنون في إنكارهم على عطاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المهاجرين دون الأنصار، وهو قوله تعالى ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا٢ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ أي في إيمانهم إذ صدقوا القول بالعمل، وما كان معتقداً باطناً أصبح عملاً ظاهراً بهذه الأوصاف التي ذكر تعالى للمهاجرين أعطاهم الرسول من فيء بني النضير. وأما الأنصار الذين لم يعطهم المال الزائل وهم في غير حاجة إليه فقد أعطاهم ما هو خير من المال. واسمع ثناؤه تعالى عليهم: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ﴾ ٣ أي المدينة النبوية والإيمان أي بوأوه قلوبهم وأحبوه وألفوه. من قبلهم أي من قبل نزول المهاجرين٤ إلى المدينة يحبون من هاجر إليهم من سائر المؤمنين الذين يأتون فراراً بدينهم، ولا يجدون في صدورهم حاجة أي حسداً ولا غيظاً مما أوتوا أي مما أعطوا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المهاجرين. ويؤثرون على أنفسهم٥ غيرهم من المهاجرين ولو كان بهم خصاصة أي حاجة شديدة وخلة كبيرة لا يجدون ما يسدونها به، وفي السيرة من عجيب إيثارهم العجب العجاب في أن الرجل يكون تحته امرأتان فيطلق إحداهما فإذا انتهت عدتها زوجها أخاه المهاجر فهل بعد هذا الإيثار من إيثار؟.
(أخرجوا) : أي: أحوجهم المشركون إلى الخروج وكانوا مائة رجل كذا قال القرطبي.
(تبوءوا الدار والإيمان) لما كان التبوء يكون في الأماكن كان لابد من تقدير لكلمة الإيمان نحو: تبوءوا الدار والتزموا الإيمان أو ألفوا الإيمان على حد قولهم: علفتها تبناً وماءً بارداً. أي: وسقيتها ماءً.
٤ في العبارة تجوز أي: من قبل نزول أكثر المهاجرين أو من قبل نزول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة وهو سيد المهاجرين وسيد جميع العالمين.
٥ أخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة "أن رجلا بات به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه فقال لامرأته: نومي الصبيان وأطفئي السراج وقربي للضيف ما عندك" فنزلت هذه الآية: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾.

وقوله تعالى ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ﴾ ١أي من يقيه الله تعالى مرض الشح وهو البخل بالمال والحرص على جمعه ومنعه فهو في عداد المفلحين وقد وقى الأنصار من هذا الخطر فهم مفلحون فهذا أيضاً ثناءٌ عليهم وبشرى لهم.
وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ أي من بعد المهاجرين الأولين والأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان يقولون في دعائهم الدائم لهم ﴿رَبَّنَا﴾ أي يا ربنا ﴿اغْفِرْ لَنَا﴾ أي ذنوبنا واغفر ﴿وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ﴾ وهم المهاجرون والأنصار، ﴿وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ بك وبرسولك ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ أي ذو رأفة بعبادك ورحمة بالمؤمنين بك فاستجب دعاءنا فاغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا في الإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً لهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- بيان فضل المهاجرين والأنصار، وأن حبهم إيمان وبغضهم كفران.
٢- فضيلة الإيثار على النفس.
٣- فضيلة إيواء المهاجرين ومساعدتهم على العيش في دار الهجرة المهاجرين الذين هاجروا في سبيل الله تعالى فراراً بدينهم ونصرة لإخوانهم المجاهدين والمرابطين.
٤- خطر الشح وهو البخل بما وجب إخراجه من المال والحرص على جمعه من الحلال والحرام.
٥- بيان طبقات المسلمين ودرجاتهم وهي ثلاثة بالإجمال:
١- المهاجرون الأولون.
٢- الأنصار الذين تبوءوا الدار "المدينة" وألفوا الإيمان.
٣- من جاء بعدهم من التابعين وتابعي التابعين إلى قيام الساعة من أهل الإيمان والتقوى.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ