وادعى ابن سراقة أن النجوى مختصة بما كان بين أكثر من اثنين وأن ما يكون بين اثنين يسمى سرارا، وقال ابن عيسى: كل سرار نجوى، وفي الآية لطائف وأسرار لا يعقلها إلا العالمون فليتأمل.
وقرأ ابن أبي عبلة «ثلاثة» و «خمسة» بالنصب على الحال بإضمار يتناجون يدل عليه نجوى، أو على تأويل نجوى بمتناجين ونصبهما من المستكن فيه، وفي مصحف عبد الله- إلا الله رابعهم ولا أربعة إلا الله خامسهم ولا خمسة إلا الله سادسهم ولا أقل من ذلك ولا أكثر إلا الله معهم إذا انتجوا- وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق والأعمش وأبو حيوة وسلام ويعقوب «ولا أكثر» بالرفع قال الزمخشري: على أنه معطوف على محل- لا أدنى- كقولك: لا حول ولا قوة إلا بالله بفتح الحول ورفع القوة، ويجوز أن يعتبر «أدنى» مرفوعا على هذه القراءة ورفعهما على الابتداء، والجملة التي بعد إِلَّا هي الخبر، أو على العطف على محل مِنْ نَجْوى كأنه قيل: ما يكون أدنى ولا أكثر إلا هو معهم، وأَكْثَرَ على قراءة الجمهور يحتمل أن يكون مجرورا بالفتح معطوفا على لفظ نَجْوى كأنه قيل:
ما يكون من أدنى ولا أكثر إلا هو معهم، وأن يكون مفتوحا لأن لا لنفي الجنس، وقرأ كل من الحسن ويعقوب أيضا ومجاهد والخليل بن أحمد- ولا أكبر- بالباء الموحدة والرفع وهو على ما سمعت ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ تفضيحا لهم وإظهارا لما يوجب عذابهم.
وقرىء «ينبئهم» بالتخفيف والهمز، وقرأ زيد بن علي بالتخفيف وترك الهمز وكسر الهاء.
إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لأن نسبة ذاته المقتضي للعلم إلى الكل على السواء، وقد بدأ الله تعالى في هذه الآيات بالعلم حيث قال سبحانه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ إلخ، وختم جل وعلا بالعلم أيضا حيث قال الله تعالى:
أَنَّ اللَّهَ إلخ، ومن هنا قال معظم السلف فيما ذكر في البين من قوله عز وجل: رابِعُهُمْ وسادِسُهُمْ ومَعَهُمْ أن المراد به كونه تعالى كذلك بحسب العلم مع أنهم الذين لا يؤوّلون، وكأنهم لم يعدّوا ذلك تأويلا لغاية ظهوره واحتفافه بما يدل عليه دلالة لا خفاء فيها، ويعلم من هذا أن ما شاع من أن السلف لا يؤولون ليس على إطلاقه.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما:
نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون دون المؤمنين وينظرون إليهم ويتغامزون بأعينهم عليهم يوهمونهم عن أقاربهم أنهم أصابهم شر فلا يزالون كذلك حتى تقدم أقاربهم فلما كثر ذلك منهم شكا المؤمنون إلى الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم فنهاهم أن يتناجوا دون المؤمنين فعادوا لمثل فعلهم، وقال مجاهد: نزلت في اليهود.
وقال ابن السائب: في المنافقين، والخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام والهمزة للتعجيب من حالهم، وصيغة المضارع للدلالة على تكرر عودهم وتجدده واستحضار صورته العجيبة، وقوله تعالى: وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ عطف عليه داخل في حكمه أي ويتناجون بما هو إثم في نفسه ووبال عليهم وتعدّ على المؤمنين وتواص بمخالفة الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم، وذكره عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة بين الخطابين المتوجهين- وإليه صلّى الله عليه وسلم- لزيادة تشنيعهم واستعظام معصيتهم.
وقرأ حمزة وطلحة والأعمش ويحيى بن وثاب ودويس- وينتجون- بنون ساكنة بعد الياء وضم الجيم مضارع انتجى، وقرأ أبو حيوة- العدوان- بكسر العين حيث وقع، وقرىء- معصيات- بالجمع ونسبت فيما بعد إلى الضحاك وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ
صح من رواية البخاري ومسلم وغيرها عن عائشة «أن ناسا من اليهود دخلوا على رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم فقال عليه الصلاة والسلام:
وعليكم، قالت عائشة: وقلت: عليكم السام ولعنكم الله وغضب عليكم»
وفي رواية «عليكم السام والذام واللعنة، فقال عليه الصلاة والسلام: يا عائشة إن الله لا يحب الفاحش ولا المتفحش، فقلت: ألا تسمعهم يقولون: السام؟! فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: أو ما سمعت أقول: وعليكم؟! فأنزل الله تعالى وَإِذا جاؤُكَ» الآية.
وأخرج أحمد والبيهقي في شعب الإيمان بسند جيد عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم سام عليك يريدون بذلك شتمه ثم يقولون في أنفسهم: لولا يعذبنا الله بما نقول فنزلت هذه الآية وَإِذا جاؤُكَ إلخ، والسام قال ابن الأثير: المشهور فيه ترك الهمز ويعنون به الموت،
وجاء في رواية مهموزا ومعناه أنكم تسأمون دينكم، وصرح الخفاجي بأنه بمعنى الموت عبراني، ولم يذكر فيه الهمز وتركه.
وقال الطبرسي: من قال: السام الموت فهو من سأم الحياة بذهابها وهذا إرجاع له إلى المهموز، وجعل البيضاوي من التحية التي لم يحيه بها الله تعالى تحيتهم له عليه الصلاة والسلام بأنعم صباحا وهي تحية الجاهلية كعم صباحا ولم نقف على أثر في ذلك، وقوله تعالى: وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أي فيما بينهم، وجوّز إبقاؤه على ظاهره لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ أي هلا يعذبنا الله تعالى بسبب ذلك لو كان محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم نبيا- أي لو كان نبيا عذبنا الله تعالى بسبب ما نقول من التحية- أوفق بالأول لأن أنعم صباحا دعاء بخير والعدول إليه عن تحية الإسلام التي حيا الله تعالى بها رسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم، وأشير إليها بقوله تعالى: سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصافات: ١٨١] وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى [النمل: ٥٩] وما جاء في التشهد «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته» ليس فيه كثير إثم يتوقع معه التعذيب الدنيوي حتى أنهم يقولون ذلك إذا لم يعذبوا اللهم إلا إذا انضم إليه أنهم قصدوا بذلك تحقيرا وإعلانا بعدم الاكتراث، ولعل قائل ذلك هم المنافقون من المشركين وهو أظهر من كون قائله اليهود، وحكم التحية به اليوم أنها خلاف السنة، والقول بالكراهة غير بعيد.
وفي تحفة المحتاج لا يستحق مبتدى بنحو صبحك الله بالخير أو قواك الله جوابا ودعاؤه له في نظيره حسن إلا أن يقصد بإهماله له تأديبه لتركه سنة السلام انتهى، وأنعم صباحا نحو صبحك الله بالخير، غاية ما في الباب أنه مجلسه صلّى الله تعالى عليه وسلم، والجمع لتعدده باعتبار من يجلس معه عليه الصلاة والسلام فإن لكل أجد منهم مجلسا، وفي أخبار سبب النزول ما يؤيد كلا،
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان «كان صلّى الله عليه وسلم يوم جمعة في الصفة وفي المكان ضيق وكان عليه الصلاة والسلام يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار فجاء ناس من أهل بدر منهم ثابت بن قيس بن شماس وقد سبقوا إلى المجالس فقاموا حيال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالوا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته فرد النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم ثم سلموا على القوم فردوا عليهم فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فلم يفسحوا لهم فشق ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال لبعض من حوله: قم يا فلان ويا فلان فأقام نفرا مقدار من قدم فشق ذلك عليهم وعرفت كراهيته في وجوههم، وقال المنافقون: ما عدل بإقامة من أخذ مجلسه وأحب قربه لمن تأخر عن الحضور فأنزل الله تعالى هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا»
إلخ، وكان ذلك ممن لم يفسح تنافسا في القرب من رسول الله صلّى الله عليه وسلم ورغبة فيه ولا تكاد نفس تؤثر غيرها بذلك.
وقال الحسن ويزيد بن أبي حبيب: كان الصحابة يتشاحون في مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في الشهادة فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ، والأكثرون على أنها نزلت لما كان عليه المؤمنون من التضام في مجلسه صلّى الله تعالى عليه وسلم والضنة بالقرب منه وترك التفسح لمقبل وأيا ما كان فالحكم مطرد في مجلسه عليه الصلاة والسلام ومصاف القتال وغير ذلك، وقرىء في- المجلس- بفتح اللام، فإما أن يراد به ما أريد بالمكسور والفتح شاذ في الاستعمال، وإما أن يراد به المصدر، والجار متعلق- بتفسحوا- أي إذا قيل لكم توسعوا في جلوسكم ولا تضايقوا فيه فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ أي في رحمته أو في منازلكم في الجنة أو في قبوركم أو في صدوركم أو في رزقكم أقوال.
وقال بعضهم: المراد يفسح سبحانه لكم في كل ما تريدون الفسح فيه أي مما ذكر وغيره، وأنت تعلم أن الفسح يختلف المراد منه باختلاف متعلقاته كالمنازل والرزق والصدر فلا تغفل وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا أي انهضوا
للتوسعة على المقبلين فَانْشُزُوا فانهضوا ولا تتثبطوا، وأصله من النشز وهو المرتفع من الأرض فإن مريد التوسعة على المقبل يرتفع إلى فوق فيتسع الموضع، أو لأن النهوض نفسه ارتفاع قال الحسن وقتادة والضحاك: المعنى إذا دعيتم إلى قتال أو صلاة أو طاعة فأجيبوا، وقيل: إذا دعيتم إلى القيام عن مجلس النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فقوموا، وهذا لأنه عليه الصلاة والسلام كان يؤثر أحيانا الانفراد في أمر الإسلام أو لأداء وظائف تخصه صلّى الله تعلى عليه وسلم لا تتأتى أو لا تكمل بدون الانفراد، وعمم الحكم فقيل: إذا قال صاحب مجلس لمن في مجلسه: قوموا ينبغي أن يجاب، وفعل ذلك لحاجة إذا لم يترتب عليه مفسدة أعظم منها مما لا نزاع في جوازه، نعم لا ينبغي لقادم أن يقيم أحدا ليجلس في مجلسه،
فقد أخرج مالك والبخاري ومسلم والترمذي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قال: «لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ولكن تفسحوا وتوسعوا».
وقرأ الحسن والأعمش وطلحة وجمع من السبعة- انشزوا فانشزوا- بكسر الشين منهما.
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ جواب الأمر كأنه قيل: إن تنشزوا يرفع عز وجل المؤمنين منكم في الآخرة دعاء كان يستعمل تحية في الجاهلية، نعم تحيتهم به له عليه الصلاة والسلام على الوجه الذي قصدوه حرام بلا خلاف حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ عذابا يَصْلَوْنَها يدخلونها أو يقاسون حرها أو يصطلون بها.
فَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي جهنم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ في أنديتكم وفي خلواتكم.
فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ كما يفعله المنافقون، فالخطاب للخلّص تعريضا بالمنافقين، وجوز جعله لهم وسموا مؤمنين باعتبار ظاهر أحوالهم.
وقرأ الكوفيون والأعمش وأبو حيوة ورويس- فلا تنتجوا- مضارع انتجى، وقرأ ابن محيصن- فلا تناجوا- بإدغام التاء في التاء، وقرىء بحذف إحداهما وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى بما يتضمن خبر المؤمنين والاتقاء عن معصية الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم وَاتَّقُوا فيما تأتون وما تذرون اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ وحده لا إلى غيره سبحانه استقلالا أو اشتراكا تُحْشَرُونَ فيجازيكم على ذلك إِنَّمَا النَّجْوى المعهودة التي هي التناجي بالإثم والعدوان والمعصية مِنَ الشَّيْطانِ لا من غيره باعتبار أنه هو المزين لها والحامل عليها، وقوله تعالى: لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا خبر آخر أي إنما هي ليحزن المؤمنين بتوهمهم أنها في نكبة أصابتهم، وقرىء «ليحزن» بفتح الياء والزاي- فالذين- فاعل وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ أي ليس الشيطان أو التناجي بضار المؤمنين شَيْئاً من الأشياء أو شيئا من الضرر إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي إلا بإرادته ومشيئته عز وجل، وذلك بأن يقضي سبحانه الموت أو الغلبة على أقاربهم وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ولا يبالوا بنجواهم.
وحاصله أن ما يتناجى المنافقون به مما يحزن المؤمنين إن وقع فبإرادة الله تعالى ومشيئته لا دخل لهم فيه فلا يكترث المؤمنون بتناجيهم وليتوكلوا على الله عز وجل ولا يحزنوا منه، فهذا الكلام لإزالة حزنهم، ومنه ضعف ما أشار إليه الزمخشري من جواز أن يرجع ضمير- ليس بضارهم- للحزن، وأجيب بأن المقصود يحصل عليه أيضا فإنه إذا قيل: إن هذا الحزن لا يضرهم إلا بإرادة الله تعالى اندفع حزنهم، هذا ومن الغريب ما قيل: إن الآية نازلة في المنامات التي يراها المؤمن في النوم تسوؤه ويحزن منها فكأنها نجوى يناجى بها، وهذا على ما فيه لا يناسب السباق والسياق كما لا يخفى، ثم إن التناجي بين المؤمنين قد يكون منهيا عنه،
فقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس من أجل أن ذلك يحزنه»
ومثل التناجي في ذلك أن يتكلم اثنان بحضور ثالث بلغة لا يفهمها الثالث إن كان يحزنه ذلك، ولما نهى
سبحانه عن التناجي والسرار علم منه الجلوس مع الملأ فذكر جل وعلا آدابه بعده بقوله عز من قائل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ إلخ ولما نهى عز وجل عما هو سبب للتباغض والتنافر أمر سبحانه بما هو سبب للتواد والتوافق أي إذا قال لكم قائل كائنا من كان: توسعوا فليفسح بعضكم عن بعض في المجالس ولا تتضاموا فيها، من قولهم: افسح عني أي تنح، والظاهر تعلق فِي الْمَجالِسِ بتفسحوا، وقيل: متعلق- بقيل..
وقرأ الحسن وداود بن أبي هند وقتادة وعيسى- تفاسحوا- وقرأ الأخيران وعاصم في المجالس، والجمهور في- المجلس- بالإفراد، فقيل: على إرادة الجنس لقراءة الجمع، وقيل: على إرادة العهد، والمراد به جزاء للامتثال وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الشرعي دَرَجاتٍ أي كثيرة جليلة كما يشعر به المقام، وعطف- الذين أوتوا العلم- على الَّذِينَ آمَنُوا من عطف الخاص على العام تعظيما لهم بعدّهم كأنهم جنس آخر، ولذا أعيد الموصول في النظم الكريم،
وقد أخرج الترمذي وأبو داود والدارمي عن أبي الدرداء مرفوعا «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب».
وأخرج الدارمي عن عمر بن كثير عن الحسن قال: قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام فبينه وبين النبيين درجة»
وعنه صلّى الله تعالى عليه وسلم «بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة»
وعنه عليه الصلاة والسلام «يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء»
، فأعظم بمرتبة بين النبوة والشهادة بشهادة الصادق المصدوق صلّى الله تعالى عليه وسلم، وعن ابن عباس «خيّر سليمان عليه السلام بين العلم والملك والمال فاختار العلم فأعطاه الله تعالى الملك والمال تبعا له».
وعن الأحنف «كاد العلماء يكونون أربابا» وكل عز لم يوطد بعلم فإلى ذل ما يصير، وعن بعض الحكماء: ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم؟ وأي شيء فاته من أدرك العلم؟ والدال على فضل العلم والعلماء أكثر من أن يحصى، وأرجى حديث عندي في فضلهم ما
رواه الإمام أبو حنيفة في مسنده عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «يجمع الله العلماء يوم القيامة فيقول: إني لم أجعل حكمتي في قلوبكم إلا وأنا أريد بكم الخير اذهبوا إلى الجنة فقد غفرت لكم على ما كان منكم».
وذكر العارف الياس الكوراني أنه أحد الأحاديث المسلسلة بالأولية، ودلالة الآية على فضلهم ظاهرة بل أخرج ابن المنذر عن ابن مسعود أنه قال: ما خص الله تعالى العلماء في شيء من القرآن ما خصهم في هذه الآية- فضل الله الذين آمنوا وأوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم بدرجات- وجعل بعضهم العطف عليه للتغاير بالذات بحمل الَّذِينَ آمَنُوا على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم، وفي رواية أخرى عنه يا أيها الذين آمنوا افهموا معنى هذه الآية ولترغبكم في العلم فإن الله تعالى يرفع المؤمن العالم فوق الذي لا يعلم.
وادعى بعضهم أن في كلامه رضي الله تعالى عنه إشارة إلى أن- الذين أوتوا- معمول لفعل محذوف والعطف من عطف الجمل أي ويرفع الله تعالى الذين أوتوا العلم خاصة درجات، ونحوه كلام ابن عباس فقد أخرج عنه ابن المنذر والبيهقي في المدخل والحاكم وصححه أنه قال في الآية: يرفع الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤتوا العلم درجات.
وقال بعض المحققين: لا حاجة إلى تقدير العامل، والمعنى على ذلك من غير تقدير، واختار الطيبي التقدير وجعل الدرجات معمولا لذلك المقدر، وقال: يضمر للمذكور أحط منه مما يناسب المقام نحو أن يقال: يرفع الله
الذين آمنوا في الدنيا بالنصر وحسن الذكر أو يرفعهم في الآخرة بالإيواء إلى ما يليق بهم من غرف الجنات، ويرفع الذين أوتوا العلم درجات تعظيما لهم، وجوز كون المراد بالموصولين واحدا والعطف لتنزيل تغاير الصفات بمنزلة تغاير الذات، فالمعنى يرفع الله المؤمنين العالمين درجات، وكون العطف من عطف الخاص على العام هو الأظهر، وفي الانتصاف في الجزاء برفع الدرجات مناسبة للعمل المأمور به وهو التفسيح في المجالس وترك ما تنافسوا فيه من الجلوس في أرفعها وأقربها من النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فلما كان الممتثل لذلك يخفض نفسه عما يتنافس فيه من الرفعة امتثالا وتواضعا جوزي على تواضعه برفع الدرجات كقوله: من تواضع لله تعالى رفعه الله تعالى، ثم لما علم سبحانه أن أهل العلم بحيث يستوجبون عند أنفسهم وعند الناس ارتفاع مجالسهم خصهم بالذكر عند الجزاء ليسهل عليهم ترك ما لهم من الرفعة في المجلس تواضعا لله عز وجل.
وقيل: إنه تعالى خص أهل العلم ليسهل عليهم ترك ما عرفوا بالحرص عليه من رفعة المجالس وحبهم للتصدير، وهذا من مغيبات القرآن لما ظهر من هؤلاء في سائر الأعصار من التنافس في ذلك.
والخفاجي أدرج هذا في نقل كلام صاحب الانتصاف وكلامه على ما سمعته أوفق بالأدب مع أهل العلم، ولا أظن- بالذين أوتوا العلم- المذكورين في الآية أنهم كالعلماء الذين عرّض بهم الخفاجي، نعم إنه عليه الرحمة صادق فيما قال بالنسبة إلى كثير من علماء آخر الزمان كعلماء زمانه وكعلماء زماننا- لكن كثير من هؤلاء- إطلاق اسم العالم على أحدهم مجاز لا تعرف علاقته، ومع ذلك قد امتلأ قلبه من حب الصدر وجعل يزاحم العلماء حقيقة عليه ولم يدر أن محله لو أنصف العجز، هذا واستدل غير واحد بالآية على تقديم العلم ولو باهليا شابا على الجاهل ولو هاشميا شيخا، وهو بناء على ما تقدم من معناها لدلالتها على فضل العالم على غيره من المؤمنين وأن الله تعالى يرفعه يوم القيامة عليه، ويجعل منزلته فوق منزلته فينبغي أن يكون محله في مجالس الدنيا فوق محل الجاهل.
وقال الجلال السيوطي في كتاب الأحكام قال قوم: معنى الآية يرفع الله تعالى المؤمنين العلماء منكم درجات على غيرهم فلذلك أمر بالتفسح من أجلهم، ففيه دليل على رفع العلماء في المجالس والتفسح لهم عن المجالس الرفيعة انتهى.
وهذا المعنى الذي نقله ظاهر في أن المتعاطفين متحدان بالذات والعطف لجعل تغاير الصفات بمنزلة تغاير الذات وهو احتمال بعيد، ويظهر منه أيضا أنه ظن رفع يرفع على أن الجملة استئناف وقع جوابا عن السؤال عن علة الأمر السابق مع أن الأمر ليس كذلك، ويحتمل أنه علم أنه مجزوم في جواب الأمر لكن لم يعتبر كون الرفع درجات جزاءه الامتثال على نحو كون الفسح قبله جزاءه فتأمله وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ تهديد لمن لم يمتثل بالأمر واستكره، وقرىء بما- يعملون- بالياء التحتانية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ أي إذا أردتم المناجاة معه عليه الصلاة والسلام لأمر ما من الأمور فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً أي فتصدقوا قبلها، وفي الكلام استعارة تمثيلية، وأصل التركيب يستعمل فيمن له يدان أو مكنية بتشبيه النجوى بالإنسان، وإثبات اليدين تخييل، وفي بَيْنَ ترشيح على ما قيل، ومعناه قبل، وفي هذا الأمر تعظيم الرسول صلّى الله عليه وسلم ونفع للفقراء وتمييز بين المخلص والمنافق ومحب الآخرة ومحب الدنيا ودفع للتكاثر عليه صلّى الله تعالى عليه وسلم من غير حاجة مهمة،
فقد روي عن ابن عباس وقتادة أن قوما من المسلمين كثرت مناجاتهم للرسول عليه الصلاة والسلام في غير حاجة إلا لتظهر منزلتهم وكان صلّى الله عليه وسلم سمحا لا يرد أحدا فنزلت هذه الآية.
وعن مقاتل أن الأغنياء كانوا يأتون النبي صلّى الله عليه وسلم فيكثرون مناجاته ويغلبون الفقراء على المجالس حتى كره عليه
الصلاة والسلام طول جلوسهم ومناجاتهم فنزلت
، واختلف في أن الأمر للندب أو للجواب لكنه نسخ بقوله تعالى:
أَأَشْفَقْتُمْ إلخ، وهو وإن كان متصلا به تلاوة لكنه غير متصل به نزولا، وقيل: نسخ بآية الزكاة والمعول عليه الاول، ولم يعين مقدار الصدقة ليجزي الكثير والقليل،
أخرج الترمذي وحسنه وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: لما نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ إلخ قال لي النبي صلّى الله عليه وسلم: «ما ترى في دينار؟ قلت: لا يطيقونه، قال:
نصف دينار؟ قلت: لا يطيقونه، قال: فكم؟ قلت: شعيرة، قال: فإنك لزهيد» فلما نزلت أَأَشْفَقْتُمْ الآية قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «خفف الله عن هذه الأمة»
ولم يعمل بها على المشهور غيره كرم الله تعالى وجهه،
أخرج الحاكم وصححه وابن المنذر وعبد بن حميد وغيرهم عنه كرم الله تعالى وجهه أنه قال: إن في كتاب الله تعالى لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي آية النجوى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ إلخ كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم فكنت كلما ناجيت النبي صلّى الله عليه وسلم قدمت بين يدي نجواي درهما ثم نسخت فلم يعمل بها أحد، فنزلت أَأَشْفَقْتُمْ الآية
، قيل: وهذا على القول بالوجوب محمول على أنه لم يتفق للأغنياء مناجاة في مدة بقاء الحكم، واختلف في مدة بقائه، فعن مقاتل أنها عشرة ليال، وقال قتادة: ساعة من نهار، وقيل: إنه نسخ قبل العمل به ولا يصح لما صح أنفا.
وقرىء- صدقات- بالجمع لجمع المخاطبين ذلِكَ أي تقديم الصدقات خَيْرٌ لَكُمْ لما فيه من الثواب وَأَطْهَرُ وأزكى لأنفسكم لما فيه من تعويدها على عدم الاكتراث بالمال وإضعاف علاقة حبه المدنس لها، وفيه إشارة إلى أن في ذلك إعداد النفس لمزيد الاستفاضة من رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم عند المناجاة.
وفي الكلام إشعار بندب تقديم الصدقة لكن قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي لمن لم يجد حيث رخص سبحانه له في المناجاة بلا تقديم صدقة أظهر إشعارا بالوجوب.
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ أي أخفتم الفقر لأجل تقديم الصدقات فمفعول أَشْفَقْتُمْ محذوف، وأَنْ على إضمار حرف التعليل، ويجوز أن يكون المفعول أَنْ تُقَدِّمُوا فلا حذف أي أخفتم تقديم الصدقات لتوهم ترتيب الفقر عليه، وجمع الصدقات لما أن الخوف لم يكن في الحقيقة من تقديم صدقة واحدة لأنه ليس مظنة الفقر بل من استمرار الأمر، وتقديم صَدَقاتٍ وهذا أولى مما قيل: إن الجمع لجمع المخاطبين إذ يعلم منه وجه إفراد الصدقة فيما تقدم على قراءة الجمهور فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا ما أمرتم به وشق عليكم ذلك وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بأن رخص لكم المناجاة من غير تقديم صدقة، وفيه على ما قيل: إشعار بأن إشفاقهم ذنب تجاوز الله تعالى عنه لما رؤي منهم من الانقياد وعدم خوف الفقر بعد ما قام مقام نوبتهم و (إذ) على بابها أعني أنها ظرف لما مضى، وقيل: إنها بمعنى- إذ- الظرفية للمستقبل كما قوله تعالى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ [غافر: ٧١].
وقيل: بمعنى إن الشرطية كأنه قيل: فإن لم تفعلوا فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ والمعنى على الأول إنكم تركتم ذلك فيما مضى فتداركوه بالمثابرة على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، واعتبرت المثابرة لأن المأمورين مقيمون للصلاة ومؤتون للزكاة، وعدل عن فصلوا إلى فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ليكون المراد المثابرة على توفية حقوق الصلاة ورعاية ما فيه كما لها لا على أصل فعلها فقط، ولما عدل عن ذلك لما ذكر جيء بما بعده على وزانه ولم يقل وزكوا لئلا يتوهم أن المراد الأمر بتزكية النفس كذا قيل فتدبر وَأَطِيعُوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ
أي في سائر الأوامر، ومنها ما تقدم في ضمن قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا الآيات وغير ذلك. وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ظاهرا وباطنا.
وعن أبي عمرو و «يعملون» بالتحتية أَلَمْ تَرَ تعجيب من حال المنافقين الذين كانوا يتخذون اليهود أولياء ويناصحونهم وينقلون إليهم أسرار المؤمنين، وفيه على ما قال الخفاجي: تلوين للخطاب بصرفه عن المؤمنين إلى الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم أي ألم تنظر إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا أي والوا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وهم اليهود ما هُمْ أي الذين تولوا مِنْكُمْ معشر المؤمنين وَلا مِنْهُمْ أي من أولئك القوم المغضوب عليهم أعني اليهود لأنهم منافقون مذبذبون بين ذلك،
وفي الحديث «مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين غنمين- أي المترددة بين قطيعين- لا تدري أيهما تتبع».
وجوز ابن عطية أن يكون هُمْ للقوم، وضمير مِنْهُمْ للذين تولوا، ثم قال: فيكون فعل المنافقين على هذا أخس لأنهم تولوا مغضوبا عليهم ليسوا من أنفسهم فيلزمهم ذمامهم ولا من القوم المحقين فتكون الموالاة صوابا:
والأول هو الظاهر والجملة عليه مستأنفة، وجوز كونها حالا من فاعل تَوَلَّوْا ورد بعدم الواو، وأجيب بأنهم صرحوا بأن الجملة الاسمية المثبتة أو المنفية إذا وقعت حالا تأتي بالواو فقط وبالضمير فقط وبهما معا، وما هاهنا أتت بالضمير أعني هم، وعلى ما قال ابن عطية: في موضع الصفة لقوم.
وذكر المولى سعد الله أن في مِنْكُمْ التفاتا، وتعقب بأنه إن غلب فيه خطاب الرسول صلّى الله عليه وسلم فظاهر أنه لا التفات فيه وإن لم يغلب فكذلك لا التفات فيه إذ ليس فيه مخالفة لمقتضى الظاهر لسبق خطابهم قبله، وفي جعله التفاتا على رأي السكاكي نظر وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ عطف على تَوَلَّوْا داخل في حيز التعجيب، وجوز عطفه على جملة ما هُمْ مِنْكُمْ وصيغة المضارع للدلالة على تكرر الحلف، وقوله تعالى: وَهُمْ يَعْلَمُونَ حال من فاعل- يحلفون- مفيدة لكمال شناعة ما فعلوا فإن الحلف على ما يعلم أنه كذب في غاية القبح، واستدل به على أن الكذب يعم ما يعلم المخبر مطابقته للواقع وما لا يعلم مطابقته له فيرد به على مذهبي النظام والجاحظ إذ عليهما لا حاجة اليه، وبحث فيه أنه يجوز أن يراد بالكذب ما خالف اعتقادهم وَهُمْ يَعْلَمُونَ بمعنى يعلمون خلافه فيكون جملة حالية مؤكدة لا مقيدة، نعم التأسيس هو الأصل لكنه غير متعين، والاحتمال يبطل الاستدلال والكذب الذي حلفوا عليه دعواهم الإسلام حقيقة، وقيل: إنهم ما شتموا النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم بناء على ما
روي «أنه كان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم جالسا في ظل حجرة من حجره وعنده نفر من المسلمين، فقال: إنكم سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان فإذا جاءكم فلا تكلموه فلم يلبثوا أن طلع عليهم رجل أزرق فقال عليه الصلاة والسلام حين رآه: علام تشتمني أنت وأصحابك فقال: ذرني آتك بهم فانطلق فدعاهم فحلفوا» فنزلت، وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن عباس إلا أن آخره «فأنزل الله يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ [المجادلة: ١٨] » الآية
والتي بعدها، ولعله يؤيد أيضا اعتبار كون الكذب دعواهم أنهم ما شتموا.
وفي البحر رواية نحو ذلك عن السدي ومقاتل، وهو- أنه عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه: يدخل عليكم رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق أسمر خفيف اللحية فقال صلّى الله عليه وسلم: علام تشتمني أنت وأصحابك فحلف بالله ما فعل فقال له: فعلت فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه- فنزلت
، والله تعالى أعلم بصحته.
وعبد الله هذا هو الرجل المبهم في الخبر الأول، وهو ابن نبتل بفتح النون وسكون الباء الموحدة وبعدها تاء مثناة من فوق ولام ابن الحارث بن قيس الأنصاري الأوسي ذكره ابن الكلبي والبلاذري في المنافقين، وذكره أبو عبيدة في الصحابة فيحتمل كما قال ابن حجر: إنه اطلع على أنه تاب، وأما قوله في القاموس: عبد الله بن نبيل- كأمير- من المنافقين فيحتمل أنه هو هذا، واختلف في ضبط اسم أبيه ويحتمل أنه غيره أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ بسبب ذلك عَذاباً شَدِيداً نوعا من العذاب متفاقما إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ما اعتادوا عمله وتمرنوا عليه اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ الفاجرة التي يحلفون بها عند الحاجة جُنَّةً وقاية وسترة عن المؤاخذة، وقرأ الحسن- إيمانهم- بكسر الهمزة أي إيمانهم الذي أظهروه للنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وخلص المؤمنين، قال في الإرشاد: والاتخاذ على هذا عبارة عن التستر بالفعل كأنه قيل: تستروا بما أظهروه من الإيمان عن أن تستباح دماؤهم وأموالهم، وعلى قراءة الجمهور عبارة عن إعدادهم لأيمانهم الكاذبة وتهيئتهم لها إلى وقت الحاجة ليحلفوا بها ويخلصوا عن المؤاخذة لا عن استعمالها بالفعل فإن ذلك متأخر عن المؤاخذة المسبوقة بوقوع الجناية، وعن سببها أيضا كما يعرب عنه الفاء في قوله تعالى: فَصَدُّوا أي الناس.
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ في خلال أمنهم بتثبيط من لقوا عن الدخول في الإسلام وتضعيف أمر المسلمين عندهم، وقيل: فصدوا المسلمين عن قتلهم فإنه سبيل الله تعالى فيهم، وقيل: (صدوا) لازم، والمراد فأعرضوا عن الإسلام حقيقة وهو كما ترى فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ وعيد ثان بوصف آخر لعذابهم، وقيل: الأول عذاب القبر وهذا عذاب الآخرة، ويشعر به وصفه بالإهانة المقتضية للظهور فلا تكرار.
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ قد سبق مثله في سورة آل عمران، وسبق الكلام فيه فمن أراده فليرجع إليه يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً تقدم الكلام في نظيره غير بعيد فَيَحْلِفُونَ لَهُ أي لله تعالى يومئذ قائلين: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: ٢٣] كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ في الدنيا أنهم مسلمون مثلكم، والتشبيه بمجرد الحلف لهم في الدنيا وإن اختلف المحلوف عليه بناء على ما قدمنا من سبب النزول وَيَحْسَبُونَ في الآخرة أَنَّهُمْ بتلك الأيمان الفاجرة عَلى شَيْءٍ من جلب منفعة أو دفع مضرة كما كانوا عليه في الدنيا حيث كانوا يدفعون بها عن أرواحهم وأموالهم ويستجرون بها فوائد دنيوية أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ البالغون في الكذب إلى غاية ليس وراءها غاية حيث تجاسروا على الكذب بين يدي علام الغيوب، وزعموا أن أيمانهم الفاجرة تروّج الكذب لديه عز وجل كما تروّجه عند المؤمنين اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ أي غلب على عقولهم بوسوسته وتزيينه حتى اتبعوه فكان مستوليا عليهم، وقال الراغب: الحوذ أن يتبع السائق حاذي البعير أي أدبار فخذيه فيعنف في سوقه يقال: حاذ الإبل يحوذها أي ساقها سوقا عنيفا، وقوله تعالى: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ أي استاقهم مستوليا عليهم، أو من قولهم: استحوذ العير على الأتان أي استولى على حاذيها أي جانبي ظهرها اه.
وصرح بعض الأجلة أن الحوذ في الأصل السوق والجمع، وفي القاموس تقييد السوق بالسريع ثم أطلق على الاستيلاء، ومثله الأحواذ والأحوذي، وهو كما قال الأصمعي: المشمر في الأمور القاهر لها الذي لا يشذ عنه منها شيء، ومنه قول عائشة في عمر رضي الله تعالى عنهما كان أحوذيا نسيج وحده مأخوذ من ذلك، واستحوذ مما جاء على الأصل في عدم إعلاله على القياس إذ قياسه استحاذ بقلب الواو ألفا كما سمع فيه قليلا، وقرأ به هنا أبو عمرو فجاء مخالفا للقياس- كاستنوق واستصوب- وإن وافق الاستعمال المشهور فيه، ولذا لم يخلّ استعماله بالفصاحة،
وفي استفعل هنا من المبالغة ما ليس في فعل فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ في معنى لم يمكنهم من ذكره عز وجل بما زين لهم من الشهوات فهم لا يذكرونه أصلا لا بقلوبهم ولا بألسنتهم أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر من القبائح حِزْبُ الشَّيْطانِ أي جنوده وأتباعه.
أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ أي الموصوفون بالخسران الذي لا غاية وراءه حيث فوّتوا على أنفسهم النعيم المقيم وأخذوا بدله العذاب الأليم، وفي تصدير الجملة بحرفي التنبيه والتحقيق وإظهار المتضايقين معا في موقع الإضمار بأحد الوجهين، وتوسيط ضمير الفصل من فنون التأكيد ما لا يخفى.
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ استئناف مسوق لتعليل ما قبله من خسران حزب الشيطان عبر عنهم بالموصول ذما لهم بما في حيز الصلة وإشعارا بعلة الحكم أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر فِي الْأَذَلِّينَ أي في جملة من هو أذل خلق الله عز وجل من الأولين والآخرين معدودون في عدادهم لأن ذلة أحد المتخاصمين على مقدار عزة الآخر وحيث كانت عزة الله عز وجل غير متناهية كانت ذلة من حادّه كذلك كَتَبَ اللَّهُ استئناف وارد لتعليل كونهم في الأذلين أي أثبت في اللوح المحفوظ أو قضى وحكم، وعن قتادة قال: وأيا ما كان فهو جار مجرى القسم فلذا قال سبحانه: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي أي بالحجة والسيف وما يجري مجراه أو بأحدهما، ويكفي في الغلبة بما عدا الحجة تحققها للرسل عليهم السلام في أزمنتهم غالبا فقد أهلك سبحانه الكثير من أعدائهم بأنواع العذاب كقوم نوح وقوم صالح وقوم لوط وغيرهم، والحرب بين نبينا صلّى الله تعالى عليه وسلم وبين المشركين وإن كان سجالا إلا أن العاقبة كانت له عليه الصلاة والسلام وكذا لأتباعهم بعدهم لكن إذا كان جهادهم لأعداء الدين على نحو جهاد الرسل لهم بأن يكون خالصا لله عز وجل لا لطلب ملك وسلطنة وأغراض دنيوية فلا تكاد تجد مجاهدا كذلك إلا منصورا غالبا، وخص بعضهم الغلبة بالحجة لا طرادها وهو خلاف الظاهر، ويبعده سبب النزول، فعن مقاتل لما فتح الله تعالى مكة للمؤمنين والطائف وخيبر وما حولها قالوا: نرجو أن يظهرنا الله تعالى على فارس والروم فقال عبد الله بن أبيّ: أتظنون الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها، والله إنهم لأكثر عددا وأشد بطشا من أن تظنوا فيهم ذلك فنزلت كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ على نصر رسله عَزِيزٌ لا يغلب على مراده عز وجل.
وقرأ نافع وابن عامر «ورسلي» بفتح الياء لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ خطاب للنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم أو لكل أحد يصلح له، وتَجِدُ إما متعد إلى اثنين فقوله تعالى: يُوادُّونَ إلخ مفعوله الثاني، وإما متعد إلى واحد فهو حال من مفعوله لتخصصه بالصفة، وقيل: صفة أخرى له أي قوما جامعين بين الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر وبين موادّة أعداء الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وليس بذاك، والكلام على ما في الكشاف من باب التخييل خيل أن من الممتنع المحال أن تجد قوما مؤمنين يوادّون المشركين. والغرض منه أنه لا ينبغي أن يكون ذلك وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته والتصلب في مجانبة أعداء الله تعالى، وحاصل هذا على ما في الكشف أنه من فرض غير الواقع واقعا محسوسا حيث نفى الوجدان على الصفة وأريد نفي انبغاء الوجدان على تلك الصفة فجعل الواقع نفي الوجدان، وإنما الواقع نفي الانبغاء فخيل أنه هو (١) فالتصوير في
جعل ما لا يمتنع ممتنعا، وقيل: المراد لا تجد قوما كاملي الإيمان على هذه الحال، فالنفي باق على حقيقته، والمراد بموادة المحادّين موالاتهم ومظاهرتهم، والمضارع قيل: لحكاية الحال الماضية، ومَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ظاهر في الكافر وبعض الآثار ظاهر في شموله للفاسق، والاخبار مصرحة بالنهي عن موالاة الفاسقين كالمشركين بل قال سفيان: يرون أن الآية المذكورة نزلت فيمن يخالط السلطان،
وفي حديث طويل أخرجه الطبراني والحاكم والترمذي عن واثلة بن الأسقع مرفوعا «يقول الله تبارك وتعالى: وعزتي لا ينال رحمتي من لم يوال أوليائي ويعاد أعدائي».
وأخرج أحمد وغيره عن البراء بن عازب مرفوعا، أوثق الإيمان الحب في الله والبغض في الله.
وأخرج الديلمي من طريق الحسن عن معاذ قال: قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «اللهم لا تجعل لفاجر- وفي رواية- ولا لفاسق علي يدا ولا نعمة فيودّه قلبي فإني وجدت فيما أوحيت إلي لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ»
وحكى الكواشي عن سهل أنه قال: من صحح إيمانه وأخلص توحيده فإنه لا يأنس إلى مبتدع ولا يجالسه ولا يؤاكله ولا يشاربه ولا يصاحبه ويظهر له من نفسه العداوة والبغضاء، ومن داهن مبتدعا سلبه الله تعالى حلاوة السنن، ومن تحبب إلى مبتدع يطلب عز الدنيا أو عرضا منها أذله الله تعالى بذلك العز وأفقره بذلك الغنى ومن ضحك إلى مبتدع نزع الله تعالى نور الإيمان من قلبه، ومن لم يصدق فليجرب انتهى.
ومن العجيب أن بعض المنتسبين إلى المتصوفة- وليس منهم ولا قلامة ظفر- يوالي الظلمة بل من لا علاقة له بالدين منهم وينصرهم بالباطل ويظهر من محبتهم ما يضيق عن شرحه صدر القرطاس، وإذا تليت عليه آيات الله تعالى وأحاديث رسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم الزاجرة عن مثل ذلك يقول: سأعالج قلبي بقراءة نحو ورقتين من كتاب المثنوي الشريف لمولانا جلال الدين القونوي قدس سره وأذهب ظلمته- إن كانت- بما يحصل لي من الأنوار حال قراءته، وهذا لعمري هو الضلال البعيد، وينبغي للمؤمنين اجتناب مثل هؤلاء وَلَوْ كانُوا أي من حادّ الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، والجمع باعتبار معنى من كما أن الإفراد فيما قبل باعتبار لفظها آباءَهُمْ أي الموادين أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ فإن قضية الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر الذي يحشر المرء فيه مع من أحب أن يهجروا الجميع بالمرة، وليس المراد بمن ذكر خصوصهم وإنما المراد الأقارب مطلقا، وقدم الآباء لأنه يجب على أبنائهم طاعتهم ومصاحبتهم في الدنيا بالمعروف، وثنى بالأبناء لأنهم أعلق بهم لكونهم أكبادهم، وثلث بالأخوان لأنهم الناصرون لهم:
أخاك أخاك إن من لا أخا له | كساع إلى الهيجا بغير سلاح |
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي | بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا |
إذا لقام بنصري معشر خشن | عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا |
لا يسألون أخاهم حين يندبهم | في النائبات على ما قال برهانا |
بالمنتهى للتأكيد والمبالغة، وفيه دليل على خروج العمل من مفهوم- الإيمان- فإن جزء الثابت في القلب ثابت فيه قطعا، ولا شيء من أعمال الجوارح يثبت فيه.
وقرأ أبو حيوة والمفضل عن عاصم «كتب» مبنيا للمفعول «الإيمان» بالرفع على النيابة عن الفاعل.
وَأَيَّدَهُمْ أي قواهم بِرُوحٍ مِنْهُ أي من عنده عز وجل على أن من ابتدائية، والمراد بالروح نور القلب وهو نور يقذفه الله تعالى في قلب من يشاء من عباده تحصل به الطمأنينة والعروج على معارج التحقيق، وتسميته روحا مجاز مرسل لأنه سبب للحياة الطيبة الأبدية، وجوز كونه استعارة، وقول بعض الأجلة: إن نور القلب ما سماه الأطباء روحا وهو الشعاع اللطيف المتكون من القلب- وبه الإدراك- فالروح على حقيقته ليس بشيء كما لا يخفى، أو المراد به القرآن على الاحتمالين السابقين، واختيرت الاستعارة أو جبريل عليه السلام وذلك يوم بدر، وإطلاق الروح عليه شائع أقوال.
وقيل: ضمير مِنْهُ للإيمان، والمراد بالروح الإيمان أيضا، والكلام على التجريد البديعي- فمن- بيانية أو ابتدائية على الخلاف فيها، وإطلاق الروح على الإيمان على ما مر وقوله تعالى: وَيُدْخِلُهُمْ إلخ بيان لآثار رحمته تعالى الأخروية إثر بيان ألطافه سبحانه الدنيوية أي ويدخلهم في الآخرة.
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أبد الآبدين، وقوله تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ استئناف جار مجرى التعليل لما أفاض سبحانه عليهم من آثار رحمته عز وجل العاجلة والآجلة، وقوله تعالى وَرَضُوا عَنْهُ بيان لابتهاجهم بما أوتوه عاجلا وآجلا، وقوله تعالى: أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ تشريف لهم ببيان اختصاصهم به تعالى وقوله سبحانه: أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ بيان لاختصاصهم بسعادة الدارين والكلام في تحلية الجملة- بإلا. وإن- على ما مر في أمثالها، والآية قيل: نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه.
أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: حدثت أن أبا قحافة سب النبي صلّى الله عليه وسلم فصكه أبو بكر صكة فسقط فذكر ذلك للنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال: أفعلت يا أبا بكر؟ قال: نعم، قال: لا تعد، قال: والله لو كان السيف قريبا مني لضربته- وفي رواية- لقتلته فنزلت لا تَجِدُ قَوْماً الآيات.
وقيل: في أبي عبيدة بن عبد الله بن الجراح، أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في سننه عن ابن عباس عن عبد الله بن شوذب قال: جعل والد أبي عبيدة يتصدى له يوم بدر وجعل أبو عبيدة يحيد عنه فلما أكثر قصده أبو عبيدة فقتله فنزلت لا تَجِدُ إلخ، وفي الكشاف أن أبا عبيدة قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد، وقال الواقدي في قصة قتله إياه: كذلك يقول أهل الشام، وقد سألت رجالا من بني فهر فقالوا: توفي أبوه قبل الإسلام أي في الجاهلية قبل ظهور الإسلام انتهى.
والحق أنه قتله في بدر، أخرج البخاري ومسلم عن أنس قال: كان- أي أبو عبيدة- قتل أباه وهو من جملة أسارى بدر بيده لما سمع منه في رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ما يكره ونهاه فلم ينته، وقيل: نزلت فيه حيث قتل أباه.
وفي أبي بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز، وقال لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: دعني أكون في الرعلة الأولى- وهي القطعة من الخيل- قال: «متعنا بنفسك يا أبا بكر ما تعلم أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري»
وفي معصب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد وفي عمر قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر. وفي علي كرم الله تعالى وجهه وحمزة وعبيدة بن الحارث قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر.
وتفصيل ذلك ما
رواه أبو داود عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: لما كان يوم بدر تقدم عتبة ابن ربيعة ومعه
ابنه وأخوه فنادى من يبارز- إلى قوله- فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «قم يا حمزة قم يا علي قم يا عبيدة بن الحارث»
فأقبل حمزة إلى عتبة وأقبلت إلى شيبة واختلفت بين عبيدة والوليد ضربتان فأثخن كل منهما صاحبه ثم ملنا على الوليد فقتلناه واحتملنا عبيدة.
هذا ورتب بعض المفسرين وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ على قصة أبي عبيدة وأبي بكر ومعصب وعلي كرم الله تعالى وجهه ومن معه، وقيل: إن قوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً إلخ نزل في حاطب ابن أبي بلتعة، والظاهر على ما قيل: إنه متصل بالآي التي في المنافقين الموالين لليهود، وأيا ما كان فحكم الآيات عام وإن نزلت في أناس مخصوصين كما لا يخفى، والله تعالى أعلم.
سورة الحشر
قال البقاعي: وتسمى سورة- بني النضير- وأخرج البخاري وغيره عن ابن جبير قال: قلت لابن عباس سورة الحشر، قال: قل: سورة بني النضير، قال ابن حجر: كأنه كره تسميتها بالحشر لئلا يظن أن المراد به يوم القيامة وإنما المراد هاهنا إخراج بني النضير.
وهي مدنية، وآيها أربع وعشرون بلا خلاف، ومناسبتها لما قبلها أن في آخر تلك كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: ٢١] وفي أول هذه فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [الحشر:
٢] وفي آخر تلك ذكر من حادّ الله ورسوله، وفي أول هذه ذكر من شاقّ الله ورسوله، وأن في الأولى ذكر حال المنافقين واليهود وتولي بعضهم بعضا، وفي هذه ذكر ما حل باليهود وعدم إغناء تولي المنافقين إياهم شيئا، فقد روي أن بني النضير كانوا قد صالحوا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له فلما ظهر يوم بدر قالوا: هو النبي الذي نعت في التوراة لا تردّ له راية فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة فخالفوا عليه قريشا عند الكعبة فأخبر جبريل عليه السلام الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم بذلك فأمر بقتل كعب فقتله محمد بن سلمة غيلة وهو عروس بعد أن أخذ بفود رأسه أخوه رضاعا أو نائلة سلكان بن سلامة أحد بني عبد الأشهل، وكان عليه الصلاة والسلام قد اطلع منهم على خيانة حين أتاهم يستعينهم في دية المسلمين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري عند منصرفه من بئر معونة فهموا بطرح الحجر عليه صلى الله تعالى عليه وسلم فعصمه الله تعالى، وبعد أن قتل كعب بأشهر على الصحيح لا على الأثر كما قيل: أمر صلى الله تعالى عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم وكان ذلك سنة أربع في شهر ربيع الأول وكانوا بقرية يقال لها: الزهرة فسار المسلمون معه عليه الصلاة والسلام وهو على حمار مخطوم بليف.
وقيل: على جمل واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم حتى إذا نزل صلّى الله تعالى عليه وسلم بهم وجدهم ينوحون على كعب، وقالوا: ذرنا نبكي شجونا ثم ائتمر أمرك فقال: اخرجوا من المدينة فقالوا: الموت أقرب لنا من ذلك فتنادوا بالحرب، وقيل: استمهلوه عليه الصلاة والسلام عشرة أيام ليتجهزوا للخروج ودس المنافقون عبد الله بن أبيّ وأضرابه إليهم أن لا يخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم ولننصرنكم وإن أخرجتم لنخرجن معكم فدربوا على الأزقة وحصنوها ثم أجمعوا على الغدر برسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فقالوا: اخرج في ثلاثين من أصحابك ويخرج منا ثلاثون ليسمعوا منك فإن صدقوك آمنا كلنا ففعل فقالوا: كيف نفهم ونحن ستون اخرج في ثلاثة ويخرج إليك ثلاثة من علمائنا ففعل عليه الصلاة والسلام فاشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك فأرسلت امرأة منهم ناصحة إلى أخيها وكان مسلما فأخبرته بما أرادوا فأسرع إلى الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم فسارّه بخبرهم قبل أن