آيات من القرآن الكريم

فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
ﭷﭸﭹﭺ

وقوله تعالى في الأوليين: ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ﴾ مع ترك ذكر الظهارة لرفعة شأنها، وخروجها عن كونها مدركة بالعقول والأفهام. وفي الأخريين: ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ﴾ يعلم به تفاوت ما بينهما.
قال أبو عبد الله الحكيم الترمذي: روي لنا في حديث المعراج: أن رسول الله - ﷺ - لما بلغ سدرة المنتهى.. جاءه الرفرف، فتناوله من جبريل، وطار به إلى مستقر العرش، وذكر أنه قال: "طار بي يخفضني ويرفعني حتى وقف بين يدي ربي، ثم لما حان الانصراف.. تناوله فطار به خفضًا ورفعًا يهوي به، حتى أداه إلى جبريل صلوات الله علبهما، وجبريل يبكي، ويرفع صوته بالتحميد". والرفرف خادم من الخدم بين يدي الله تعالى، له خواص الأمور في محل الدنو والقرب، كما أن البراق دابة يركبها الأنبياء مخصوصة بذلك في أرضه، فهذا الرفرف الذي سخره الله لأهل الجنتين وهو متكأهم وفرشهم، يرفرف بالولي، ويطير به على حافات تلك الأنهار، وحيث يشاء من خيامه، وأزواجه، وتصوره. انتهى من "نوادر الأصول" في الأصل التاسع والثمانين.
وقال الترمذي الحكيم أيضًا: وبلغنا في الرواية: أن سحابة مطرت من العرش، فخلقت الحور من قطرات الرحمة، ثم ضرب على كل واحدة منهن خيمة على شاطىء الأنهار، سعتها أربعون ميلًا، وليس لها باب حتى إذا دخل ولي الله الجنة، انصدعت الخيمة عن باب، ليعلم ولي الله أن أبصار المخلوقين من الملائكة والخدام لم تأخذها، فهي مقصورة قد قصرها بها عن أبصار المخلوقين. وهو معنى قوله: ﴿حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (٧٢)﴾. والله أعلم. اهـ قرطبي.
٧٧ - ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧٧)﴾؛ أي (١): بأيَّ نعم ربكما المحسن الذي لا محسن غيره، ولا إحسان إلا منه تكذبان أبشيء من هذه النعم أم بغيرها، وقد هيأ لكم ما تتكئون عليه، فتستريحون، فإن كل واحد منها أجل أن يتطرق إليه التكذيب، وأعظم من أن يجحده جاحد أو ينكره منكر.
٧٨ - وقوله: ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ﴾؛ أي: تقدس، وتنزه عن كل ما لا يليق به تقديسٌ

(١) الخطيب.

صفحة رقم 328

وننزيهٌ له تعالى (١). فيه تقرير لما ذكر في السورة الكريمة من آلائه الفائضة على الأنام، أي: تعالى اسمه الجليل الذي من جملته ما صدرت به السورة من اسم الرحمن المنبىء عن إفاضة الآلاء المفصلة، وارتفع عما لا يليق بشأنه من الأمور التي من جملتها: جحود نعمائه، وتكذيبها. وإذا كان حال اسمه بملابسة دلالته عليه، كذلك فما ظنك ذاته الأقدس الأعلى؟ وقيل: الاسم بمعنى الصفة؛ أي: تنزهت، وتقدست صفات ربك عن النقائص، كالعلم من الجهل، والقدرة من العجز. وقيل: لفظ ﴿اسم﴾ مقحم كقوله:

إلى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السلامِ عليكُما وَمَن يَبْكِ حَوْلًا كاملًا فقَدِ اعْتَذَرْ
أي: ثم السلام عليكما.
والمعنى: تقدس، وتنزه، وتعالى ربك عن كل ما لا يليق به من جميع النقائص. وقال في "فتح الرحمن": وهذا الموضع مما أريد فيه بالاسم مسماه؛ أي: تبارك مسمى ربك، وذاته الأقدس عن النقائص. وفي "التأويلات النجمية": وهذا يدل على أن الاسم هو المسمى؛ لأن المتعالي هو المسمى في ذاته لا الاسم، وكذا الموصوف بالقهر، واللطف، والجلال، والإكرام هو المسمى فحسب، انتهى.
وقوله: ﴿ذِي الْجَلَالِ﴾؛ أي: ذي العظمة والكبرياء ﴿وَالْإِكْرَامِ﴾؛ أي: ذي الإفضال التام والإحسان العام. وصف به الرب عز وجل تكميلًا لما ذكر من التنزيه والتقرير.
قال الزروقي: من عرف أنه تعالى ذو الجلال والاكرام هابه لمكان الجلال، وأنس به لمكان الإكرام، فكان بين الخوف والرجاء. وهو اسم الله الأعظم. وقال بعضهم: أسماء الله تعالى كلها أعظم لدلالتها على العظيم، فإنه إذا عظم الذات والمسمى عظم الأسماء والصفات، ويا ذا الجلال والإكرام من الأسماء التي جاء في الحديث أن يدعى الله بها، فقد قال - ﷺ -: "أَلِظُّوا بيا ذا الجلال والإكرام". وقرأ الجمهور ﴿ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ على أنه صفة لربك، وابن عامر، وأهل الشام ﴿ذو﴾
(١) روح البيان.

صفحة رقم 329

صفة للاسم. وفي حرف عبد الله، وأبي ﴿ذِي الْجَلَالِ﴾ كقرائتهما في الموضع الأول.
والمعنى (١): أي تعالى ربك ذو الجلال والعظمة والتكريم على ما أنعم به، وتفضل من نعم غوال، ومنن عظام. وهذا تعليم منه لعباده بأن كل هذا من رحمته، فهو قد خلق السماء، والأرض، والجنة، والنار. وعذب العاصين، وأثاب المطيعين، وآتاهم من فضله ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
الإعراب
﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٧) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٩) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥١) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٥) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٩) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦١)﴾.
﴿وَلِمَنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿لِمَنْ﴾ جار ومجرور، خبر مقدم، ﴿خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾ فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة صلة الموصول. ﴿جَنَّتَانِ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ...﴾ إلخ تقدم إعرابه. ﴿ذَوَاتَا﴾ صفة لـ ﴿جَنَّتَانِ﴾، مرفوع بالألف؛ لأنه مثنى ذات، ﴿أَفْنَانٍ﴾ مضاف إليه. ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ تقدم إعرابه. ﴿فِيهِمَا﴾ خبر مقدم، ﴿عَيْنَانِ﴾ مبتدأ مؤخر، وجملة ﴿تَجْرِيَانِ﴾ صفة لـ ﴿عَيْنَانِ﴾. والجملة الاسمية صفة ثانية لـ ﴿جَنَّتَانِ﴾. ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ...﴾ إلخ، تقدّم إعرابه. ﴿فِيهِمَا﴾ خبر مقدم، ﴿مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ﴾ حال من ﴿زَوْجَانِ﴾؛ لأنّه صفة قدمت على النكرة، ﴿زَوْجَانِ﴾ مبتدأ مؤخر. والجملة الاسمية صفة لـ ﴿جَنَّتَانِ﴾. ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ...﴾ إلخ تقدم إعرابه. ﴿مُتَّكِئِينَ﴾ حال من ﴿مِنْ﴾ في قوله: ﴿وَلِمَنْ خَافَ﴾؛ لأنَّ ﴿مَنْ﴾ فيها معنى الجمع، وقيل: عاملها محذوف، دل عليه قوله: ﴿وَلِمَنْ خَافَ﴾؛ أي: يتنعمون فيهما حال كونهم متكئين؛ أي: مضطجعين

(١) المراغي.

صفحة رقم 330

أو متربعين. ﴿عَلَى فُرُشٍ﴾ متعلق بـ ﴿مُتَّكِئِينَ﴾، ﴿بَطَائِنُهَا﴾ مبتدأ، ﴿مِنْ إِسْتَبْرَقٍ﴾ خبر. والجملة الاسمية صفة لـ ﴿فُرُشٍ﴾. ﴿وَجَنَى﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة أو حالية، ﴿جنى الجنتين﴾ مبتدأ ومضاف إليه، ﴿دَانٍ﴾ خبر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (٥٢)﴾، أو حال من الضمير المستكن في الخبر من الجملة المذكورة. ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ...﴾ إلخ تقدم إعرابه. ﴿فِيهِنَّ﴾ خبر مقدم، والضمير إلى ﴿الْجَنَّتَيْنِ﴾ لأنه بمعنى الجنان، كما مر. ﴿قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل الرفع صفة لـ ﴿جَنَّتَانِ﴾. ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ﴾ جازم، وفعل مضارع، ومفعول به، ﴿إِنْسٌ﴾ فاعل، ﴿قَبْلَهُمْ﴾ متعلق بـ ﴿يَطْمِثْهُنَّ﴾، ﴿وَلَا جَانٌّ﴾ معطوف على ﴿إِنْسٌ﴾ والجملة صفة لـ ﴿قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ﴾؛ لأنَّ إضافته لفظية أو حال منه؛ لأنه تخصص بالإضافة. ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ...﴾ إلخ تقدم إعرابه. ﴿كَأَنَّهُنَّ﴾ ناصب واسمه، ﴿الْيَاقُوتُ﴾ خبره، ﴿وَالْمَرْجَانُ﴾ معطوف على ﴿الْيَاقُوتُ﴾. والجملة صفة ثانية لـ ﴿قَاصِرَاتُ﴾. ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ...﴾ إلخ تقدم إعرابه. ﴿هَلْ﴾ حرف استفهام للاستفهام الإنكاري؛ لأنّه بمعنى النفي، ﴿جَزَاءُ الْإِحْسَانِ﴾ مبتدأ، ﴿إِلَّا﴾ أداة حصر، ﴿الْإِحْسَانُ﴾ خبره. والجملة مستأنفة. ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ...﴾ إلخ، تقدم إعرابه.
﴿وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٣) مُدْهَامَّتَانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٥) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٧) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧٧) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (٧٨)﴾.
﴿وَمِنْ دُونِهِمَا﴾ الواو: عاطفة، ﴿من دونهما﴾ خبر مقدم، ﴿جَنَّتَانِ﴾ مبتدأ مؤخّر. والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾. ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ...﴾ إلخ تقدم إعرابها. ﴿مُدْهَامَّتَانِ (٦٤)﴾ صفة لـ ﴿جَنَّتَانِ﴾، ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ...﴾ إلخ تقدم إعرابها. ﴿فِيهِمَا﴾ خبر مقدم، ﴿عَيْنَانِ﴾ مبتدأ مؤخر، ﴿نَضَّاخَتَانِ﴾ صفة ﴿عَيْنَانِ﴾. والجملة صفة ثانية لـ ﴿جَنَّتَانِ﴾، ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ...﴾ إلخ تقدم إعرابها. ﴿فِيهِمَا﴾ خبر مقدم، ﴿فَاكِهَةٌ﴾ مبتدأ مؤخر، ﴿وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ معطوفان على ﴿فَاكِهَةٌ﴾ عطف خاص

صفحة رقم 331

على عام، والجملة صفة أخرى لـ ﴿جَنَّتَانِ﴾. ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ...﴾ إلخ تقدم إعرابه. ﴿فِيهِنَّ﴾ خبر مقدم ﴿خَيْرَاتٌ﴾ مبتدأ مؤخر، ﴿حِسَانٌ﴾ صفة ﴿خَيْرَاتٌ﴾. والجملة صفة أخرى لـ ﴿جَنَّتَانِ﴾ لأنَّ الجنتين بمعنى الجنان. ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ...﴾ إلخ تقدم إعرابه. ﴿حُورٌ﴾ بدل من ﴿خَيْرَاتٌ﴾، ويجوز لك أن تعرب حورًا خبرًا لمبتدأ محذوف؛ أي: هن حور، ﴿مَقْصُورَاتٌ﴾ صفة ﴿حُورٌ﴾، ﴿في الْخِيَامِ﴾ متعلق بـ ﴿مَقْصُورَاتٌ﴾. ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ...﴾ إلخ تقدم إعرابه. ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ﴾ فعل، ومفعول، ﴿إِنْسٌ﴾ فاعل، ﴿قَبْلَهُمْ﴾ متعلق بـ ﴿يَطْمِثْهُنَّ﴾، ﴿وَلَا جَانٌّ﴾ معطوف على ﴿إِنْسٌ﴾. والجملة الفعلية في محل الرفع، صفة أخرى لـ ﴿حُورٌ﴾. ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ...﴾ إلخ تقدم إعرابه. ﴿مُتَّكِئِينَ﴾ حال، عامله محذوف يدلّ عليه قوله: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾، تقديره: يتنعمون فيها حال كونهم ﴿مُتَّكِئِينَ﴾. ﴿عَلَى رَفْرَفٍ﴾ متعلق بـ ﴿مُتَّكِئِينَ﴾، ﴿خُضْرٍ﴾ نعت لـ ﴿رَفْرَفٍ﴾. لأنه جمع رفرفة، ﴿وَعَبْقَرِيٍّ﴾ معطوف على ﴿رَفْرَفٍ﴾، ﴿حِسَانٍ﴾ صفة ﴿عَبْقَرِيٍّ﴾. لأنّه جمع عبقرية. ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ...﴾ إلخ تقدّم إعرابه. ﴿تَبَارَكَ﴾ فعل ماض، ﴿اسْمُ رَبِّكَ﴾ فاعل. والجملة مستأنفة. ﴿ذِي﴾ صفة لـ ﴿رَبِّكَ﴾، ﴿الْجَلَالِ﴾ مضاف إليه، ﴿وَالْإِكْرَامِ﴾ معطوف على الجلال. وقيل: اسم مقحم. والمعنى: تبارك ربّك؛ أي: تزايد خيره وإحسانه. والله أعلم بأسرار كتابه.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾ الخوف في الأصل: توقع المكروه عند ظهور أمارة مظنونة أو محققة. وضده الأمن. ويراد به هنا: الكف عن المعاصي مع فعل الطاعات. و ﴿مَقَامَ رَبِّهِ﴾ قيامه عليه، وإطلاعه على أعماله.
وفي تفسير المقام ثلاث احتمالات:
الأوّل: أنه اسم مكان بمعنى موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب، كما قال: ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٦)﴾.
والثاني: أنه مصدر بمعنى قيامه تعالى، وإطلاعه على أعمال عباده.
والثالث: أنه مصدر بمعنى قيام الخلائق بين يديه تعالى.
﴿جَنَّتَانِ﴾؛ أي: جنة روحية لقلبه، وجنة جسمانية على شاكلة ما عمل في

صفحة رقم 332

الدنيا. وقيل: إنهما منزلان، يتنقل بينهما لتتوفر دواعي لذته، وتظهر آثار كرامته.
﴿ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (٤٨)﴾ وذوات مثنى ذات بمعنى صاحبة، وأصل ذات: ذوية، قلبت ﴿الواو﴾ ألفًا لتحركها بعد فتح. وفي تثنيتها لغتان. الرد على الأصل، فإن أصلها ذوية؛ لأنها مؤنثة ذوي. والتثنية على اللفظ بأن يقال: ذاتا، والأفنان: جمع فن بمعنى نوع؛ أي: ذواتا أنواع من الأشجار والثمار. يقال: افتن فلان في حديثه إذا أخذ في فنون منه، وضروب مختلفة، أو جمع فنن بمعنى غصن؛ أي: ذواتا أغصان دقيقة التي تتفرع من فروع الشجر، وخصت بالذكر؛ لأنها التي تورق، وتثمر، وتمد الظل.
﴿زَوْجَانِ﴾؛ أي: صنفان، رطب ويابس. ولا يقصر يابسه عن رطبه في الفضل والطيب. ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ﴾ جمع فراش. وهو البساط ﴿بَطَائِنُهَا﴾ جمع بطانة ضد الظهارة، ولكن المراد هنا: ما يلي الأرض، كما مرّ. والهمزة فيه بدلة عن الألف الواقعة حرف مد ثالثًا زائدًا في اسم مؤنث جمع على فعائل.
﴿مِنْ إِسْتَبْرَقٍ﴾ والإستبرق: ما غلظ من الحرير. قيل: استفعل من البريق. وهو الإضاءة. وقيل: من البرقة. وهو اجتماع ألوان، وجعل اسمًا وأعرب إعرابه.
﴿وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ﴾ والجنى: الثمرة التي قد أدركت على الشجرة. وهو اسم بمعنى المجني، كالقبض بمعنى المقبوض. وفيه إعلال بالقلب، أصله: جني قلبت الياه ألفًا لتحركها بعد فتح. وقوله: ﴿دَانٍ﴾ من الدنو بمعنى القرب، أصله: دانوا، مثل: غازو، فوزنه فاع لأعلاله إعلال غاز.
﴿قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ﴾ وهو من إضافة اسم الفاعل إلى منصوبه تخفيفًا، ومتعلق القصر محذوف، كما مر؛ أي: نساء يقصرن أبصارهن على أزواجهن، لا ينظرن إلى غيرهم. والطرف: أصله مصدر، فلذلك وحد. وقيل: الطرف طرف غيرهن؛ أي: قصرن عيني من ينظر إليهن عن النظر إلى غيرهن.
﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ﴾؛ أي: لم يفتضهن. يقال: طمث المرأة من باب ضرب إذا افتضها بالتدمية؛ أي: أزال بكارتها. فالطمث: الجماع المؤدي إلى خروج دم البكر، ثم أطلق على كل جماع طمث، وإن لم يكن معه. وفي "المصباح" طمث

صفحة رقم 333

الرجل امرأته طمثًا من بابر ضرب وقتل افتضها، وافترعها. ولا يكون الطمث نكاحًا إلا بالتدمية. وعليه قوله تعالى: ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ﴾، اهـ. وفي "القاموس": الطمث: المس. والمعنى: لم يمس الإنسيّات أحد من الإنس، ولا الجنيّات أحد من الجن.
﴿كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ﴾ الياقوت: جوهر نفيس أحمر اللون. يقال: إن النار لا تؤثر فيه، من خواصه: أنه يقطع جميع الحجارة إلا الماس. فإنه يقطعه لصلابته، وقلة مائه، وشدة الشعاع، والثقل، والصبر على النار. قال بعضهم في مليح: اسمه ياقوتٌ:

يَاقُوتُ يَا قُوتَ قَلْبِ المُسْتَهَامِ بِهِ مِنَ الْمُرُوءَةِ أنْ لَا يُمْنَعَ الْقُوتُ
سَكَنْتَ قَلْبِيْ وَمَا تَخْشَى تَلَهُّبَهُ وَكَيْفَ يَخْشَى لَهِيْبَ النَّارِ يَاقُوْتُ
﴿وَالْمَرْجَانُ﴾ صغار اللؤلؤ. وهو أشد بياضًا، أي: كأنهن الياقوت في الصفاء، والمرجان في البياض.
﴿مُدْهَامَّتَانِ (٦٤)﴾ مثنى مدهامة. وهي مؤنث مدهام، وصف من ادهام السداسي اسم فاعل. والأصل: مدهاممتان، أدغمت الميم الأولى في الثانية. يقال: ادهام الشيء يدهام ادهيامًا فهو مدهام، ذكره في "تاج المصادر" في باب الإفعيلال. وفي "المختار": دهمهم الأمر غشيهم، وبابه فهم، وكذا دهمتهم الخيل، ودهمهم بفتح الهاء لغة. والدهمة: السواد يقال: فرس أدهم، وبعير أدهم، وناقة دهماء. وادهام ادهيامًا؛ أي: اسود قال الله تعالى: ﴿مُدْهَامَّتَانِ (٦٤)﴾؛ أي: سوداوان من شدة الخضرة من الري. والعرب تقول لكل شيء أخضر: أسود. وسميت قرى العراق سوادًا لكثرة خضرتها. والشاة الدهماء الحمراء الخالصة الحمرة. ويقال للقيد: أدهم. وفي "القاموس": حديقه دهماء، ومدهامة خضراء تضرب إلى السواد نعمةً وريًّا. ومنه: ﴿مُدْهَامَّتَانِ﴾.
﴿نَضَّاخَتَانِ﴾؛ أي: فوارتان بالماء لا تنقطعان. والنضخ أكثر من النضح؛ لأن النضح بالحاء المهملة: الرش، وبالخاء المعجمة كالبزل والنضاخة: الفوارة التي ترمي بالماء صعدًا.
﴿حُورٌ﴾ واحدتهن حوراء؛ أي: بيضاء. قال ابن الأثير: الحوراء: هي

صفحة رقم 334

الشديدة بياض العين، والشديدة سوادها. ﴿مَقْصُورَاتٌ﴾ قصرن، وحبسن في خدورهن، يقال: امرأة قصيرة، وقصورة، ومقصورة؛ أي: مخدرة. ﴿فِي الْخِيَامِ﴾ في "القاموس": والخيمة: أكمة فوق أبانين، وكل بيت مستدير، أو ثلاثة أعواد، أو أربعة يلقى عليها الثمام، ويستظل بها في الحر أو كل بيت يبني من عيدان الشجر. والجمع خيمات، وخيام، وخيم، وخَيَم بالفتح، وكعنب. يقال: أخامها وأخيمها بناها، وخيموا دخلوا فيها، وبالمكان أقاموا. وخيم الشيء غطاه بشيء كي يعبق، وخام عنه يخيم خيمًا وخيمانًا وخيومًا وخيومة وخيامًا نكص، وجبن. وكاد كيدًا فرجع عليه. وفي "القرطبي": قال عمر رضي الله عنه: الخيمة: درة مجوفة.
﴿عَلَى رَفْرَفٍ﴾ والرفرف: اسم جمع أو اسم جنس جمعي، وكذا يقال: في ﴿عبقري﴾. وعبارة "السمين": الرفرف اسم جنس. وقيل: اسم جمع نقلهما مكي. والواحدة رفرفة. وهي ما تدلى من الأسرة من غالي الثياب. واشتقاقه من رفرف الطائر؛ أي: ارتفع في الهواء، انتهت. وقال غيره: الرفرف: بسط أو وسائد "مخدات". ﴿وَعَبْقَرِيٍّ﴾ والعبقري: العجيب النادر الموشى من البسط، منسوب إلى عبقر. وتزعم العرب أنه اسم لبلد الجن، فينبون إليه كل شيء عجيب.
﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ﴾؛ أي: تقدس، وتنزه ربنا الذي أفاض على عباده نعمه الجليلة والحقيرة.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإضافة في قوله: ﴿مَقَامَ رَبِّهِ﴾ للدلالة على الاختصاص الملكي؛ إذ لا ملك يومئذٍ إلا لله تعالى.
ومنها: الجناس الناقص في قوله: ﴿وجنى الجنتين﴾ لتغير الشكل، والحروف.
ومنها: الإيجاز بالحذت في قوله: ﴿فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ﴾ فإنَّ فيه حذف الموصوف، وإبقاء الصفة؛ أي: نساء قصرن أبصارهن على أزواجهن. وفيه أيضًا

صفحة رقم 335

إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله طلبًا للتخفيف اللفظي.
ومنها: الإرداف في قوله: ﴿قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ﴾ وهو أن يريد المتكلم معنى فلا يعبر عنه بلفظه الموضرع له، بل بلفظ هو ردف المعنى الخاص، وتابعه قريب من لفظ المعنى الخاص قرب الرديف من الردف.
والمعنى في الآية: فيهن عفيفات قد قصرف عفتهن طرفهن على بعولتهن. وعدل عن المعنى الخاص إلى لفظ الأرداف؛ لأن كل من عف غض الطرف عن الطموح. فقد يمتد نظر الإنسان إلى شيء، وتشتهيه نفسه، ويعف عنه مع القدرة عليه لأمر آخر. وقصر طرف المرأة على بعلها أو قصر طرفها حياء وخفرًا، أو قصر عيني من ينظر إليهن عن النظر إلى غيرهن أمر رائد على العفة؛ لأنَّ من لا يطمح طرفها لغير بعلها، أو لا يطمح حياء وخفرًا: فإنها ضرورة تكون عفيفة. فكل قاصرة الطرف عفيفة، وليست كل عفيفة قاصرة الطرف. فلذلك عدل عن اللفظ الخاص إلى لفظ الإرداف.
ومنها: التنبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (٥٨)﴾ لذكر الأداة، وحذف وجه الشبه. وهو الصفاء والبياض.
ومنها: عطف الخاص على العام في قوله: ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨)﴾ إظهارًا لفضله، وميزته. فإن في فصلهما بالواو عن الفاكهة بيانًا لفضلها على سائر الفواكه، كما مرَّ. حتى كأنهما من المزيّة جنسان آخران، كقوله تعالى: ﴿وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾. ولكن اختلف هل هو من عطف الخاص على العام أو عطف ما تضمنه الأول عليه. والظاهر: أن الآية ليست من عطف الخاص على العام؛ لأن النكرة في سياق الإثبات لا تعم عمومًا شموليًّا.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *

صفحة رقم 336

خلاصة ما تضمنته هذه السورة
١ - ذكر تعليم القرآن، وخلق الإنسان، وتعليمه البيان.
٢ - ذكر جريان الشمس والقمر بحسبان، وسجود النجم والشجر خضوعًا له تعالى.
٣ - وضع الميزان، والأمر بإقامته، وعدم الإخسار فيه.
٤ - بسط الأرض للأنام مع خلق ضروب الفواكه، وأنواع الزروع فيها لهم.
٥ - بيان مادة خلق الإنسان، ومادة خلق الجان.
٦ - ذكر ما يتعلق بالبحرين.
٧ - ذكر فناء المخلوق، وبقاء الخالق.
٨ - ذكر احتياج من في السموات والأرض إليه وكونه سبحانه في تدبير شؤونهم.
٩ - أمر الثقلين بخروجهم من أقطار السموات والأرض أمر تعجيز.
١٠ - ذكر أحوال يرم القيامة، وبيان أحوال المجرمين فيه.
١١ - ذكر ما أعده للمقربين والأبرار من الثقلين مطعمًا، وملبسًا، ومنكحًا إلى آخر السورة. اللهم يا ذا الجلال والإكرام صل وسلم على من أرسلته رحمة للأنام سيدنا محمد، وآله، وصحبه الكرام ما تعاقبت الليالي والأيام صلاة وسلامًا متلازمين دائمًا بلا انصرام (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *

(١) وقع الفراغ من تفسير هذه السورة في اليوم السابع والعشرين من شهر الله الفرد رجب، منتصف الساعة التاسعة في تاريخ ٢٧/ ٧/ ١٤١٥ ألف وأربع مئة وخمس عشرة سنة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلوات، وأزى التحيّات. آمين يا رب آمين.

صفحة رقم 337

سورة الواقعة
سورة الواقعة مكية، نزلت بعد طه في قول الحسن (١)، وعكرمة، وجابر، وعطاء، وقال ابن عباس، وقتادة: مكية إلا آية منها نزلت بالمدينة. وهي قوله تعالى: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢)﴾. وقال الكلبيّ: إنها مكيّة، إلّا أربع آيات منها: ﴿أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢)﴾، وقوله: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠)﴾.
وآيها: ست أو سبع وتسعون آية (٢). وكلماتها: ثلاث مئة وثمان وسبعون كلمة. وحروفها: ألف وسبع مئة وثلاثة أحرف.
مناسبتها لما تجلها من ثلاثة أوجه (٣):
١ - إنّ في كل منهما وصف القيامة، والجنة، والنار.
٢ - إنه ذكر في السورة السابقة عذاب المجرمين، ونعيم المتقين، وفاضل بين جنتي بعض المؤمنين، وجنتي بعض آخر منهم، وبين هنا انقسام المكلفين إذ ذاك إلى أصحاب ميمنة، وأصحاب مشئمة، وسابقين.
٣ - إنه ذكر في سورة الرحمن انشقاق السماء، وذكر هنا رج الأرض. فكأن السورتين لتلازمهما، واتحادهما موضوعًا سورة واحدة مع عكس في الترتيب. فقد ذكر في أول هذه ما في آخر تلك، وفي آخر هذه ما في أول تلك. وعبارة أبي حيان: مناسبة هذه السورة لما قبلها (٤): أنَّ ما قبلها تتضمن العذاب للمجرمين، والنعيم للمؤمنين، وفاضل بين جنتي بعض المؤمنين، وجنتي

(١) الشوكاني.
(٢) الخازن.
(٣) المراغي.
(٤) البحر المحيط.

صفحة رقم 338

بعض بقوله: ﴿وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (٦٢)﴾. فانقسم العالم بذلك إلى كافر ومؤمن مفضول ومؤمن فاضل. وهكذا جاء ابتداء هذا السورة من كونهم أصحاب ميمنة وأصحاب مشئمة وسباق. وهم المقربون وأصحاب اليمين، والمكذبون المختتم بهم آخر هذه السورة.
الناسخ والمنسوخ منها: أجمع (١) المفسّرون على أن لا ناسخ فيها، ولا منسوخ إلا قول مقاتل بن سليمان، فإنه قال نسخ منها قوله تعالى: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤)﴾، الآية (١٤) من الواقعة، نسخ بقوله تعالى: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠)﴾ الآية (٤٠) من الواقعة.
واسمها: سورة الواقعة، سميت بها لذكر الواقعة فيها. وهو اسم من أسماء القيامة.
ومن فضائلها: ما أخرجه أبو يعلى، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "من قرأ سورة الواقعة كل لية لم تصبه فاقة أبدًا". ومنها: ما أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله - ﷺ - قال: "سورة الواقعة سورة الغنى فاقرؤوها، وعلموها أولادكم". وأخرج الديلمي عن أن قال: قال رسول الله - ﷺ -: "علموا نساؤكم سورة الواقعة، فإنها سورة الغنى".
ومنها: ما روى هلال بن يساف عن مسروق قال: من أراد أن يعلم نبأ الأولين والأخرين، ونبأ أهل الجنة، ونبأ أهل النار، ونبأ أهل الدنيا، ونبأ أهل الآخرة فليقرأ سورة الواقعة.
ومنها: ما ذكر أبو عمر ابن عبد البر في "التمهيد" و"التعليق"، والثعلبيُّ أيضًا: أن عثمان دخل على ابن مسعود يعوده في مرضه الذي مات منه، فقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي، قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي، قال: أفلا ندعو لك طبيبًا؟ قال: الطبيب أمرضني، قال: أفلا نأمر لك بعطائك؟ قال: لا حاجة لي فيه، حبسته عني في حياتي، وتدفعه عند مماتي. قال: يكون لبناتك من بعدك، قال: أتخشى على

(١) ابن حزم.

صفحة رقم 339

بناتي الفاقة من بعدي، إني أمرتهن أن يقرأن سورة الواقعة كل ليلة. فإنّي سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدًا"، اهـ قرطبيّ. وقد روى هذا الحديث البيهقيُّ، وغيره كما مرّ آنفًا، إنما أعدناه لهذه القصة. قال سعدي المفتي: هذا حديث صحيح.
وفي رواية أخرى: من داوم على قراءة سورة الواقعة لم يفتقر أبدًا. قال ابن عطية: فيها ذكر القيامة، وحظوظ الناس في الآخرة، وفهم ذلك غنى لا فقر معه، ومن فهمه يشتغل بالاستعداد للآخرة.
قال الغزالي رحمه الله تعالى في "منهاج العابدين": قراءة هذه السورة عند الشدّة في أمر الرزق والخصاصة شيء وردت به الأخبار المأثورة عن النبيّ - ﷺ -، وعن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، حتى ابن مسعود رضي الله عنه حين عوتب في أمر أولاده؛ إذ لم يترك لهم في الدنيا، قال: لقد خلفت لهم سورة الواقعة.
فإن قلت: إرادة متاع الدنيا بعمل الآخرة لا تصح.
قلت: مراده أن يرزقهم الله تعالى قناعة أو قوة يكون لهم عدة على عبادة الله تعالى، وقوّة على درس العلم. وهذا من جملة إرادة الخير دون الدنيا فلا رياء، انتهى كلامه.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *

صفحة رقم 340

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (٢) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (٣) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (٥) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (٧) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (٢٥) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (٢٦) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (٣٥) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (٣٦) عُرُبًا أَتْرَابًا (٣٧) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠) وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦)﴾.
المناسبة
بدأ سبحانه هذه السورة بأنه حين تقع الواقعة، ويجيء يوم القيامة لا تكذب نفس على الله، فتنكره. إذ تحقق بالمعاينة، وشهده كل احد. أمّا في الدنيا فما أكثر النفوس المكذّبة المنكرة له؛ لأنهم لم يذوقوا العذاب كما عاينه المعذبون في الآخرة.
ثم وصف هذه الواقعة بأنها تخفض أقوامًا، وترفع آخرين، وأن الأرض حينئذٍ

صفحة رقم 341

تزلزل، فيندك ما عليها من جبال وأبنية، وأنَّ الجبال تتفتت، وتصير كالغبار المنتشر في الجو، وأن الناس إذ ذاك ينقسمون أفواجًا ثلاثة: أصحاب الميمنة، وأصحاب المشئمة، والسابقون.
قوله تعالى: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه لما ذكر (١) أنَّ الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: سابقون، وأصحاب ميمنة، وأصحاب مشأمة.. أعقب ذلك بذكر ما يتمتع به السابقون من النعيم في فرشهم، وطعامهم، وشرابهم، ونسائهم، وأحاديثهم التي تدل على صفاء النفس، وأدب الخلق، وسمو العقل.
قوله تعالى: ﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (٢٧)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه لما ذكر حال السابقين، وبين ما لهم من نعيم مقيم في جنّات النعيم.. أردف ذلك بذكر حال أصحاب اليمين، فبين أنهم في جنات يتخللها السدر المخضود، والموز المنضد بعضه فوق بمعنى، والفاكهة الكثيرة التي لا تنقطع أبدًا، ولا تمتنع عنهم متى شاؤوا، وفيها فرش وثيرة مرتفعة عالية، ونساء حسان أبكار في سن واحدة.
قوله تعالى: ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه لما ذكر زوجين من الأزواج الثلاثة، وبين ما يلقاه كل منهم من عز مقيم وشرف عظيم في جنات ونعيم، في جملة شؤونهم في مآكلهم، ومشاربهم، وفرشهم، وأزواجهم.. أردف ذلك بذكر الزوج الثالث، وبين ما يلقاه من النكال، والوبال، وسوء الحال. فهو يتلظى في السموم، ويشرب ماء كالمهل يشوي الوجوه، ثم أعقبه بذكر السبب في هذا بأنهم كانوا في دنياهم مترفين غارقين في ذنوبهم، منكرين هذا اليوم يوم الجزاء. ثم أمره أن يخبرهم بأن هذا اليوم واقع حتمًا، وأن مأكلهم سيكون من شجر الزقوم، يملؤون منه البطون، ثم يشربون؛ ولا يرتوون كالإبل الهيم. وهذا ما أعد لهم من كرم وحسن وفادة في هذا اليوم.

(١) المراغي.

صفحة رقم 342
حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الأمين بن عبد الله بن يوسف بن حسن الأرمي العلوي الهرري الشافعي
راجعه
هاشم محمد علي مهدي
عدد الأجزاء
1