آيات من القرآن الكريم

فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ
ﯽﯾﯿﰀﰁ ﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋ ﰍﰎﰏﰐﰑ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖ ﭘﭙﭚﭛﭜﭝ ﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨ ﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵ

ثم بين أن هذا عذاب الدنيا وسيلاقون يوم القيامة ما هو أشد منه نكالا فقال:
(بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) أي إن ما سيلاقونه من العذاب فى الدنيا من الهزيمة والقتل والأسر- هيّن إذا قيس على ما سيلاقونه من العذاب فى الآخرة، فإن ذا أشد وآلم، فهو عذاب خالد دائم، وسيأتى بعد وصف ما فيه من فظاعة ونكر.
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٤٧ الى ٥٥]
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١)
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥)
تفسير المفردات
المراد بالمجرمين: المشركون كما جاء فى قوله: «يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ».
فى ضلال: أي فى الدنيا عن الحق، وسعر: أي نيران واحدها سعير، يسحبون: أي يجرّون، سقر: اسم لجهنم، ومسها: حرها، بقدر: أي مقدر مكتوب فى اللوح المحفوظ، أمرنا: أي شأننا، واحدة: أي كلمة واحدة وهى قوله (كن) كلمح البصر: أي فى اليسر والسرعة، أشياعكم: أي أشباهكم فى الكفر من الأمم السالفة، واحدهم شيعة، وهم من يتقوى بهم المرء من الأتباع، مدكر: أي متعظ، فى الزبر: أي فى كتب الحفظة،

صفحة رقم 99

مستطر: أي مسطور مكتوب فى اللوح بتفاصيله، نهر: أي أنهار، فى مقعد صدق:
أي فى مكان مرضى، عند مليك مقتدر: أي عند ملك عظيم القدرة واسع السلطان.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر تكذيب الأمم الماضية لرسلها كما كذبت قريش نبيها، وأعقبه بذكر ما أصابهم فى الدنيا من العذاب والهوان- أردف ذلك ذكر ما سينالهم من النكال والوبال فى الآخرة، فبين أنهم سيساقون على وجوههم إلى جهنم سوقا، إهانة وتحقيرا لهم، ويقال لهم حينئذ توبيخا وتعنيفا: ذوقوا عذاب النار وشديد حرها. ثم أعقبه ببيان أن كل شىء فهو بقضاء الله وقدره، وإذا أراد الله أمرا فإنما يقول له كن فيكون، ثم نبههم إلى ما كان يجب عليهم أن يتنبهوا له من هلاك أمثالهم من الأمم التي كذبت رسلها من قبل، وفعلت فعلها فأخذها أخذ عزيز مقتدر ثم ختم السورة بذكر ما يتمتع به المتقون فى جنات النعيم، من إجلال وتعظيم، ويرون ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
الإيضاح
(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) أي إن المشركين بالله المكذبين لرسله- فى ضلال عن الصراط المستقيم، وعماية عن الهدى فى الدنيا، وعذاب أليم فى نار جهنم يوم القيامة.
ثم بين ما يلحقهم من الإهانة والإذلال حينئذ فقال:
(يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) أي يعذبون ويهانون يوم يجرّون على وجوههم فى النار، ويقال لهم إيلاما وتعنيفا: ذوقوا حر النار وآلامها جزاء وفاقا لتكذيبكم رسل ربكم فى كل ما جاءوا به من الإنذار بهذا اليوم، والتحذير مما يقع فيه للكافرين من العذاب، والتبشير بما للمتقين فيه من ثواب.

صفحة رقم 100

ثم بين أن كل ما يوجد فى هذه الحياة فهو لا يحدث اتفاقا، وإنما يحصل بقضاء الله وقدره فقال:
(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) أي إن كل كائن فى هذه الحياة، فهو بتقدير الله وتكوينه على مقتضى الحكمة البالغة والنظام الشامل، وبحسب السنن التي وضعها فى الخليقة.
ونحو الآية قوله: «وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً» وقوله: «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى»
وفى الحديث الصحيح «استعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك أمر فقل: قدر الله وما شاء فعل، ولا تقل لو أنى فعلت لكان كذا، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان»
وفى حديث ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له: «... واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشىء لم يكتبه الله لك لم ينفعوك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشىء لم يكتبه الله عليك لم يضروك، جفت الأقلام، وطويت الصحف».
وبعد أن بين نفاذ قدره فى خلقه بين نفاذ مشيئته فيهم فقال:
(وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) أي إنا إذا أردنا أمرا قلنا له كن فإذا هو كائن ولا يحتاج إلى تأكيد الأمر بثانية ولا ثالثة، ولله در القائل:
إذا أراد الله أمرا فإنما... يقول له (كن) قولة فيكون
وهذا تمثيل لسرعة نفاذ المشيئة فى إيجاد الخلق، فهى كلمح البصر أو هى أقرب.
وجماع القول- ما أمرنا للشىء إذا أردنا إيجاده إلا قولة واحدة (كن) فيكون لا مراجعة فيها ولا ردّ، فهى فى السرعة كلمح البصر لا إبطاء ولا تأخير.
ثم أنبهم على ما هم فيه من غفلة وعماية عن الحق بعد وضوحه فقال:
(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟) أي ولقد أهلكنا أشباهكم يا معشر قريش من المكذبين لأنبيائهم من الأمم الخالية، واستأصلنا شأفتهم بحسب سنتنا فى أمثالهم، بشتى العقوبات، ومختلف الوسائل «وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ.

صفحة رقم 101

وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟»
أفما كان لكم فى ذلك مزدجر تعتبرون به، فتنيبوا إلى ربكم وتسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون؟
ونحو الآية قوله: «وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ» ثم بين لهم أن كل أعمالهم محصاة عليهم وسيحاسبون على النقير والقطمير فقال:
(وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ. وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) أي وكل شىء يفعلونه، فيدسون به أنفسهم من الكفر والمعاصي، ويدنسونها به من الأرجاس والآثام فهو مقيّد لدى الكرام الكاتبين كما قال: «ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» فما من صغيرة ولا كبيرة إلا وهى مسطورة فى دواوينهم، وصحائف أعمالهم، فليحذروا ما هم عليه قادمون من الحساب العسير على الجليل والحقير، يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
روى الإمام أحمد عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «يا عائشة إياك ومحقّرات الذنوب، فإن لها من الله طالبا».
وقيل:

لا تحقرنّ من الذنوب صغيرا إن الصغير غدا يعود كبيرا
إن الصغير وإن تقادم عهده عند الإله مسطّر تسطيرا
فاسأل هدايتك الإله فتتئد فكفى بربك هاديا ونصيرا
وبعد أن ألمع إلى ما يصيب الكافرين من الإهانة فى ذلك اليوم- أردفه ما يناله المتقون من الكرامة عند ربهم، وما يحظون به من الشرف والزلفى، بحسب سنة القرآن من ذكر الثواب إثر العقاب والعكس بالعكس فقال:
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) أي إن الذين اتقوا عقاب ربهم فأطاعوه، وأدوا فرائضه واجتنبوا معاصيه، وأخلصوا له العمل فى السر والعلن، يثبهم بما عملوا جنات تجرى من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور

صفحة رقم 102

من ذهب، ويجلسون على فرش بطائنها من إستبرق، ويجدون فيها من النعيم ما لا يخطر على قلب بشر، كفاء ما بذلوا من الصبر على شاقّ الطاعات، وحرموا منه أنفسهم من اللذات، كما قيل للربيع بن خيثم وقد صلّى حتى ورمت قدماه، وتهجد حتى غارت عيناه: أتعبت نفسك، فقال: راحتها أطلب.
كما ينالون الزلفى عند ربهم القادر على جزائهم بإحسانه وجوده، وفضله ومنته فكل شىء تحت قبضته وسلطانه، لا يمانع ولا يغالب، وهو العزيز الحكيم.
اللهم احشرنا فى زمرتهم واجعلنا ممن يسمعون القول فيتبعون أحسنه، إنك أنت السميع المجيب، ذو الطّول العظيم.
خلاصة موضوعات هذه السورة الكريمة
(١) الإخبار بقرب مجىء الساعة.
(٢) تكذيب المشركين للرسول وقولهم فى معجزاته: إنها سحر مفترى.
(٣) غفلتهم عما فى القرآن من الزواجر.
(٤) أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالإعراض عنهم حتى يأتى قضاء الله فيهم.
(٥) إنذارهم بأنهم سيحشرون أذلاء ناكسى الرءوس مسرعين كأنهم جراد منتشر.
(٦) قصص المكذبين من سالفى الأمم كقوم نوح وعاد وثمود وقوم فرعون، وما لا قوه من الجزاء على تكذيبهم.
(٧) توبيخ المشركين على ما هم فيه من الغفلة عن الاعتبار بهذه النذر.
(٨) ما يلاقونه من الجزاء فى الآخرة إهانة وتحقيرا لهم.
(٩) بيان أن كل ما فى الوجود فهو بقضاء الله وقدره.
(١٠) نفاذ مشيئة الله وسلطانه فى الكون.
(١١) بيان أنّ كل أعمال المرء فى كتاب قد خطه الكرام الكاتبون.
(١٢) ما أوتيه المتقون من الكرامة عند ربهم وما لهم من الزلفى لديه.

صفحة رقم 103
تفسير المراغي
عرض الكتاب
المؤلف
أحمد بن مصطفى المراغي
الناشر
شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبي وأولاده بمصر
الطبعة
الأولى، 1365 ه - 1946 م
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية