
في ميزانه وفي هذه الآية بشارة بأن الله تعالى يري المؤمن أعماله الصالحة ليفرح بها والكافر أعماله الطالحة ليحزن
«ثُمَّ يُجْزاهُ» أي يجزى الإنسان بفعله «الْجَزاءَ الْأَوْفى ٤١» الأتم الأكمل ان خيرا فخير كثير وان شرا فشر مثله، راجع الآية ١٦٠ من سورة الانعام من ج ٢ «وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى ٤٢» المرجع والمصير بعد هذه الدنيا إذ ينتهي كل شيء يوم القيامة اليه لا لأحد غيره، كما أن الأفكار لا تزال تسير في بدء حقائق الأمور وما هيأتها فتنتقل من بحث إلى بحث ومن برزخ إلى برزخ حتى إذا وصلت الى الله انتهت ووقفت وتعطل سيرها في بحر غيبه، لأن الغيب ما غاب عن الناس وتفرد به ربهم عز وجل إذ لا غيب عليه، ومن قال ان الله لا يعلم الغيب أراد هذا المعنى يعني لا غيب عليه لأن كل شيء عنده معلوم، غير. أنه لا ينبغي أن يقال لما فيه من نسبة النفي عليه تعالى وتنزه عنه، حتى ان الإمام الرباني لما عرضت عليه هذه المسألة اغتاظ جدا لما فيها من النقص عليه، تنزه عنه، وعليه فإن من يقدم على هكذا أسئلة فإنه في غاية من الفتنة ونهاية من الجهل، وأفظع من هذا من يقول ان الله لا يقدر على أن يخرجني من ملكه في معرض سماعه ان الله على كل شيء قدير، لأنه وإن كان من حيث المعنى صحيح لأنه أينما قذفته فهو في ملكه، إلا أنه لا يقال لما في ظاهره من إيقاع الشك للجاهل، تدبر، وإياك أن تقدم على مثله.
مطلب في الغيب وأنه قسمان:
واعلم أن الغيب قسمان غيب حقيقي لا يعلمه إلا الله، وغيب اضافي قد يعلمه بعض الخلق بأسباب تختلف باختلاف الاستعداد الفطري والعمل الكسبي، ومن أظهره الله على بعض الغيب الحقيقي من رسله فليس لهم كسب فيه لأنه من خصائص النبوة، والنبوة غير مكتسبة لأحد ولو رقى في العلم أعلى رتبة، راجع ص ٤٢١ إلى ص ٤٦٩ من الجزء السابع وص ٥١٣ من الجزء التاسع في تفسير الأستاذ محمد رشيد رضا المنسوب إلى الإمام محمد عبده. هذا ومن دون الأنبياء خواص قد أوتوا نصيبا من الإشراف على العالم باكتشاف للحجاب وإدراك ما بشيء من تلك

الأنوار قال صلّى الله عليه وسلم لو كشف الحجاب وفي رواية الغطاء ما ازددت يقينا، وذلك لأن الله تعالى شرح صدره فكان على نور من ربه بلغ به مقام الاطمئنان، ووقع لمن دونه في العرفان، رواية النور العيني عيانا ورأوا الملائكة، عدا أن جبريل كانت رؤيته في صورة دحية الكلبي ووقع لمن دون الآخرين ممن لهم سلامة فطرة أو معالجة النفس بالرياضة، أو طروء مرض يصرف قوى النفس عن الاهتمام بشهوات الجسد، أو من سلطان إرادة قوية على إرادة ضعيفة تصرفها عن حسها وتوجه قواها النفسية إلى ما شاءت أن تدركه لقوتها الخاصة بها، فقد يكون لبعض هؤلاء في بعض الأحوال من قوّة الروح ما يلمحون به بعض الأشياء أو الأشخاص البعيدة عنهم. وتتمثل لهم بعض الأمور قبل وقوعها في عالم الشهادة، فترتسم بخيالهم فيخبرون بها فنقع كما أخبروا، وقد ثبت هذا وذاك عند بعض الماديين في هذا الزمن مما يسمونه قراءة الأفكار، أو مراسلتها، ومن هذا ما ذكرت جريدة المقطّم في ١ صفر سنة ١٣٥٤ (الموافق مايو سنة ١٩٣٥) عن العرافة (مدام ترفران ليلى) أنّها قالت للوزراء والملوك والرؤساء بأنه سيقتل رئيس جمهورية فرنسا. ويعود كارول ملك رومانيا المنفي إلى بلاده، ويصير أحمد زوغو ملكا على ألبانيا، وبصير انقلاب في ألمانيا، ثم وقع ما قالت على علم من قبل الملأ. هذا وإن الأمور التي تكون على غير السنن المعروفة، والعادات المألوفة الخارقة للعادة، نقلتها جميع الأمم في كل العصور نقلا متواترا جنسا لا نوعا. فهذه ليست كلها خوارق حقيقية لأن منها ماله أسباب مجهولة، ومنها ما هو صناعي بتعليم خاص، ومنها ما هو من خصائص قوى النفس في توجهها لمطالبها. وفي تأثير قوى الإرادة على ضعيفها، ويدخل فيها المكاشفة والتنويم المغناطيسي وشفاء بعض المرضى بالأمراض العصبية التي يؤثر فيها الإعتقاد والوهم وبعض أنواع العمى والفالج. ومنه انخداع البصر بالتخيل الذي يحذقه المشعوذون، ومن هذا سحرة فرعون. ومنه انخداع السمع لمن يدعى استخدام الجن ويسمع الناس أصواتا غريبة، أو يتكلمون في بطونهم. فيظن الناس أنه صوت الجن، وقد انفضح كثير من أمثال هؤلاء بالاطلاع على حيلهم، فهذا كله لا يوثق
صفحة رقم 205
به، لأنهم لو كانوا صادقين لتنافس فيهم الملوك، ولما كانوا سائلين، راجع المجلد ٢ و ٦ من المنار تجد ما تتبعته وتبتغيه.
واعلم أن الذين يخضعون لهؤلاء الدّجالين ويجهلون ما كشفه العلماء من حيلهم فيسلبون أموالهم، ويهتكون أعراضهم، لا سيما الذين يدعون أنها كرامات وهم مشهورون بالجهل واللهو، والذين يدعون معرفة علم الكيمياء من قلب الصفر ذهبا والرصاص فضة، وغير ذلك من هذه الترهات المنشورة في الغرب أكثر منها في الشرق، فيجب على أولي الأمر تنويرهم وتفهيمهم.
مطلب الكرامة ومصدرها والشعرى ومن يعبدها:
أما المشهورون بالصلاح والفقه والعلم فقد تظهر على أيديهم كرامات، لكن لا كسب لهم بها، كما ان المعجزات لا كسب للأنبياء بها، لأنها قد تكون عفوا من الله. والقاعدة أن كل ما جاز أن يكون معجزة للنبي، جاز أن يكون كرامة للولي. ولو كانت بكسب البشر لما خاف موسى من عصاه حينما تحولت حية، تأمل قوله تعالى «وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى» الآية ١٧ من الأنفال في ج ٣، وقوله تعالى «قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا» الآية ٩٢ من الإسراء الآتية، وقوله جل قوله (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ) الآية ١٠٩ من الانعام في ج ٢، وقد أخبر عمر رضي الله رجل بأنه رأى رجلا يعلم الغيب فقال له: لا يعلم الغيب إلا الله. وقال له: اقبض قبضة من شيء لا تعلم عدده واسأله عنها ليظهر لك كذبه، فذهب اليه وفعل ما أمره به عمر وسأله فلم يعرف عدده ولا نوعه، فرجع إلى عمر وأخبره الخبر فقال له: إذا كنت تعرف شيئا هو راسخ في قلبك، فيمكن أن يعرفه أمثال هؤلاء، إذ يوشك أن ينقله وسواسك إلى وسواسه في قلبه فيخربه. ومن هذا ما يسمونه بقراءة الافكار، ومن أراد أن يطلع على بعض حيل المشعوذين، فليراجع كتاب كشف أسرار المحتالين يجد فيه العجاب طهر الله قلوبنا من الزيغ ووفقنا لمعرفة عيوبنا. قال تعالى: «وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ» العبد بخلق ما يسره ويبهره «وَأَبْكى ٤٣» عبده بخلق ما يسوءه ويحزنه، فأفرح

المؤمن في الجنة بثواب عمله الصالح في الدنيا، وأحزن الكافر في النار بعقاب عمله الطالح في الآخرة. روى البخاري ومسلم عن النبي قال: خطب النبي صلّى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط، فقال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، فغطّى أصحاب رسول الله وجوههم لهم خنين بكاء مع صوت يخرج من الأنف- «وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ» خلقه في الدنيا بعد انتهاء آجالهم فيها «وَأَحْيا ٤٤» من أماته في الآخرة بعد انقضاء أجلهم في البرزخ. وجاء بلفظ الماضي لتحقق وقوعه مثل أتى أمر الله بمعنى يأتي وأعقبه بالجملة قبله، لأن الموت يعقبه البكاء، والولادة أي الإحياء يعقبها الضحك، وقيل في هذا المعنى:
ولدتك أمك يا ابن آدم باكيا... والناس حولك يضحكون سرورا
فاجهد لنفسك أن تكون إذا بكوا... في يوم موتك ضاحكا مسرورا
أي عند ربك بما قدمت من عمل صالح، راجع الآية ١١ من سورة غافر في ج ٢. قال تعالى: «وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ» راجع تفسيرها في الآية ٣ من سورة الليل المارة، وكذلك ما يتعلق في قوله: «الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ٤٥» المخلوقين «مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى ٤٦» تقذف وتنصب في الرحم (أما النبات فبالاختلاط والتلقيح... ) وفي هذا تنبيه عظيم على قدرة القادر وعظمها وكمالها، لأن النطفة واحدة ويكون فيها أنثى وذكر بتقديره، وهذا مما لم يصل إليه الفهم ولم يتصوره العقل بعد، لأنهم حتى بعد تكوينه ووجوده في الرحم لم يعرفوا ما في الرحم هل هو ذكر أم أنثى؟ حتى ولا بعد تمام خلقه، لذلك كان في الخمس التي لا يعلمهن على الحقيقة إلا الله «وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى ٤٧» الإحياء بعد الإماتة للحساب والجزاء كما كان عليه النشأة الأولى للعمل والثواب «وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى» عباده من الذهب والفضة والجواهر، وصنوف الأموال، وإضراب الأعيان، مما يدخر ومما لا «وَأَقْنى ٤٨» خلقه المذكورين من الإبل والبقر والغنم والخيل والحمير والبغال وسائر أصناف النعم والمواشي «وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى ٤٩» هي نجمتان الأولى شامية والأخرى يمانية وتفصل بينهما المجرة، فالأول كوكب يضيء خلف الجوزاء