جزاء المتقين وأوصافهم
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ١٥ الى ٢٣]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩)
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣)
الاعراب:
آخِذِينَ حال من الضمير في حبر إِنَّ.
كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ قَلِيلًا إما صفة مصدر محذوف، أي يهجعون هجوعا قليلا، أو صفة لظرف محذوف، أي كانوا يهجعون وقتا قليلا، وما زائدة، ويجوز أن تكون ما مع ما بعدها مصدرا في موضع رفع على البدل من ضمير. كان وقَلِيلًا خبر كان، وتقديره: كان هجوعهم من الليل قليلا. وقال السيوطي: يهجعون: خبر كان، وقَلِيلًا ظرف.
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ آياتٌ مبتدأ، وَفِي الْأَرْضِ خبره.
ولا يجوز أن يتعلق فِي أَنْفُسِكُمْ بقوله تعالى: أَفَلا تُبْصِرُونَ على تقدير: أفلا تبصرون في أنفسكم، لأنه يؤدي إلى أن يتقدم ما في حيّز الاستفهام على حرف الاستفهام.
فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ مِثْلَ حال من الضمير في حَقٌّ وما زائدة، ويقرأ بالرفع على أنه صفة حَقٌّ لأنه نكرة: لأنه لا يكتسي التعريف بالإضافة إلى المعرفة وهي أَنَّكُمْ لأن وجوه التماثل بين الشيئين كثيرة غير محصورة.
البلاغة:
وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ مجاز مرسل، أطلق الرزق، وأراد المطر، لأنه سبب الأقوات.
فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ فيه تأكيد الخبر بالقسم وإنّ واللام، وهذا النوع من التأكيد الإنكاري، لأن المخاطب منكر لذلك.
المفردات اللغوية:
فِي جَنَّاتٍ بساتين وَعُيُونٍ ينابيع تجري فيها آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ قابلين لما أعطاهم، راضين به، وهو ما أعطاهم ربهم من الثواب، والمعنى: أن كل ما آتاهم ربهم حسن مرضي، متلقّى بالقبول إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ أي إنهم قبل دخولهم الجنة قد أحسنوا أعمالهم في الدنيا، وهو تعليل لاستحقاقهم ذلك.
كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ أي ينامون في زمن يسير من الليل، ويصلون أكثره، والهجوع: النوم، والهجعة: النومة الخفيفة. وَبِالْأَسْحارِ أواخر الليل، جمع سحر: وهو الجزء الأخير من الليل قبيل الفجر. يَسْتَغْفِرُونَ يقولون: اللهم اغفر لنا، أي إنهم مع قلة هجوعهم وكثرة تهجدهم إذا أسحروا، أخذوا في الاستغفار.
وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ نصيب يوجبونه على أنفسهم، تقربا إلى الله، وإشفاقا على الناس.
لِلسَّائِلِ المستعطي المستجدي. وَالْمَحْرُومِ الذي حرم من المال، والمراد به المتعفف الذي يظن كونه غنيا، فيحرم الصدقة.
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ أي في كرة الأرض من الجبال والبحار والأشجار والثمار والمعادن والنبات والإنس والجن والحيوان وغير ذلك دلائل على قدرة الله تعالى ووحدانيته. لِلْمُوقِنِينَ الموحّدين الذين أيقنوا بالله، وسلكوا الطريق الموصل إلى رضوان الله. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أي في تركيب أنفسكم وخلقكم من العجائب آيات أيضا. أَفَلا تُبْصِرُونَ تنظرون نظرة متأمل معتبر، يستدل بذلك على الصانع وقدرته. وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ أي في السحاب أسباب الرزق وهو المطر الذي ينشأ عنه النبات الذي هو رزق مسبب عن المطر. وَما تُوعَدُونَ أي والذي توعدونه من الخير والشر والثواب والعقاب. إِنَّهُ لَحَقٌّ أي ما توعدون حق ثابت. مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ أي مثل نطقكم، فكما أنه لا شك في أنكم تنطقون، لا شك في تحقق ذلك.
سبب نزول الآية (١٩) :
وَفِي أَمْوالِهِمْ... : أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن بن محمد بن الحنفية أن رسول الله ﷺ بعث سرية، فأصابوا وغنموا، فجاء قوم بعد ما فرغوا- لم يشهدوا الغنيمة-، فنزلت: وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ.
قال ابن كثير: وهذا يقتضي أن هذه الآية مدنية، وليس كذلك، بل هي مكية
شاملة لما بعدها «١». قال ابن عباس: إنه حق سوى الزكاة يصل به رحما، أو يقري به ضيفا، أو يحمل به كلّا، أو يغني محروما. وقال ابن العربي: لأن السورة مكية، وفرضت الزكاة بالمدينة.
المناسبة:
بعد أن حكى الله تعالى حال الفجار الأشقياء الذين كذبوا بالبعث، وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وعبدوا مع الله إلها آخر من وثن أو صنم، أراد تعالى أن يبين حال المؤمنين الأتقياء وأوصافهم وجزاءهم في الآخرة.
التفسير والبيان:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ أي إن الذين اتقوا ربهم، وتجنبوا ما يعرضهم لعذاب الله، من التزام أوامره واجتناب نواهيه، هم يوم المعاد في بساتين فيها عيون جارية، قابلين قبول رضا لكل ما أعطاهم ربهم، راضين به، فرحين بعطائه وفضله، بخلاف ما يتعرض له أولئك الأشقياء من العذاب والنكال والحريق والأغلاق. فقوله: آخِذِينَ كما ذكر الزمخشري:
قابلين قبول راض، كما قال تعالى: وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ [التوبة ٩/ ١٠٤] أي يقبلها. وقيل: الأخذ بمعنى التملك، يقال: بكم أخذت هذا؟ كأنهم اشتروها بأنفسهم وأموالهم. وعلى كل: الأخذ في هذا المقام إشارة إلى كمال قبولهم للفيوض الإلهية، لما أسلفوا من حسن العبادة، ووفور الطاعة، ولهذا علله بقوله:
إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ أي، لأنهم كانوا في الدنيا محسنين في أعمالهم الصالحة، يراقبون الله فيها، كما قال تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ [الحاقة ٦٩/ ٢٤].
ثم أبان الله تعالى وجوه إحسانهم في العمل، فقال:
كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ أي كانوا ينامون زمنا قليلا من الليل، ويصلون أكثره، فتكون ما زائدة وهو القول المشهور، وقَلِيلًا ظرف، ويجوز أن تجعل ما صفة للمصدر، أي كانوا يهجعون هجوعا قليلا. وأنكر الزمخشري كون ما نافية، تقديره: كانوا قليلا من الليل لا يهجعونه، وقال: لا يجوز أن تكون نافية، لأن ما بعد ما لا يعمل فيما قبلها، تقول: زيدا لم أضرب «١».
وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أي يقولون في الجزء الأخير من الليل:
اللهم اغفر لنا وارحمنا. وصفهم بأنهم يحيون أكثر الليل متهجدين، فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار، وكأنهم باتوا في معصية، وهذا سيرة الكريم، يأتي بأبلغ وجوه الكرم، ثم يستقله ويعتذر، واللئيم بالعكس، يأتي بأقل شيء، ثم يمنّ به، ويستكثر. قال الحسن: مدّوا الصلاة إلى الأسحار، ثم أخذوا في الأسحار بالاستغفار.
ثبت في الصحاح وغيرها عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «إن الله تعالى ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، حتى يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول: هل من تائب، فأتوب عليه؟ هل من مستغفر، فأغفر له؟ هل من سائل، فيعطى سؤله؟ حتى يطلع الفجر».
وقال كثير من المفسرين في قوله تعالى إخبارا عن يعقوب أنه قال لبنيه:
سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [يوسف ١٢/ ٩٨] : أخرهم إلى وقت السحر.
وبعد أن وصفهم تعالى بكثرة الصلاة التي هي عبادة بدنية، وصفهم بأداء العبادة المالية، فقال:
وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ أي وجعلوا في أموالهم جزءا مقسوما معينا للفقراء والمحتاجين على سبيل البرّ والصلة، والسائل: هو الفقير الذي يبتدئ بالسؤال، والمحروم: هو الذي يتعفف عن السؤال، فيحسبه الناس غنيا، فلا يتصدّقون عليه.
أخرج الشيخان (البخاري ومسلم) في صحيحيهما عن رسول الله ﷺ قال: «ليس المسكين بالطواف الذي تردّه اللّقمة واللقمتان، والتّمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له، فيتصدق عليه»
وفي لفظ آخر أخرجه ابن جرير وابن حبان وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس المسكين الذي تردّه التمرة والتمرتان، والأكلة والأكلتان، قيل: فمن المسكين؟ قال: الذي ليس له ما يغنيه، ولا يعلم مكانه، فيتصدق عليه، فذلك المحروم».
وللسائل حق،
أخرج الإمام أحمد وأبو داود عن الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «للسائل حق، وإن جاء على فرس».
والمشهور في الحق: أنه هو القدر الذي علم شرعا، وهو الزكاة، وهذا ما رجحه ابن العربي والجصاص الرازي وغيرهما أخذا بقول ابن عباس: نسخت الزكاة كل صدقة. وقال محمد بن سيرين وقتادة: الحق هنا: الزكاة المفروضة.
قال القرطبي: والأقوى في هذه الآية أنها الزكاة، لقوله تعالى في سورة المعارج:
وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [٢٤- ٢٥] والحق المعلوم:
هو الزكاة التي بيّن الشرع قدرها وجنسها ووقتها، فأما غيرها لمن يقول به، فليس بمعلوم، لأنه غير مقدّر ولا مجنّس ولا موقّت «١».
٢٨/ ٢٠٥، تفسير القرطبي: ١٧/ ٣٨
ويؤيد ذلك
ما رواه أبو هريرة عن النبي ﷺ قال: «إذا أدّيت زكاة مالك، فقد قضيت ما عليك فيه».
وروى أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أديت زكاة مالك، فقد قضيت الحق الذي يجب عليك»
قال الجصاص «١» : فهذه الأخبار يحتج بها من تأول حقا معلوما على الزكاة، وأنه لا حق على صاحب المال وغيرها.
وقال منذر بن سعيد: هذا الحق: هو الزكاة المفروضة.
وبالرغم من أن هذا صحيح، وأنه قول الجمهور، فإن السورة مكية، وفرض الزكاة بالمدينة، وإذا فسر الحق بأنه الزكاة لم يكن صفة مدح، لأن كل مسلم كذلك يؤدي زكاة ماله، فالظاهر أن المراد بالآية هنا صدقات التطوع غير الزكاة، وهي أي الصدقات التي تعطى على سبيل البر والصلة، عن ابن عمر: أن رجلا سأله عن هذا الحق، فقال: الزكاة، وسوى ذلك حقوق، فعمم.
واحتج من أوجب في المال حقا سوى الزكاة بما
روى الشعبي عن فاطمة بنت قيس قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفي المال حق سوى الزكاة؟ فتلا: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ... الآية [البقرة ٢/ ١٧٧] فذكر الزكاة في نسق التلاوة بعد قوله: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ «٢».
ثم أكد الله تعالى وقوع الحشر والدلالة على قدرته بالأدلة الأرضية، فقال:
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ أي وفي معالم الأرض من جبال ووديان وقفار وأنهار وبحار وأصناف نبات وحيوان وناس مع اختلاف ألسنتهم وألوانهم وما جبلوا عليه من الإرادات والقوى وتفاوت المعقول والفهوم وما في تركيب أجسادهم
(٢) الجصاص، المرجع والمكان السابق.
من عجائب الصنع، دلائل واضحة وعلامات ظاهرة على عظمة الخالق وقدرته الباهرة، للموقنين بالله، لأنهم الذين يعترفون بذلك، ويتدبرون فيه، فينتفعون به.
وَفِي أَنْفُسِكُمْ، أَفَلا تُبْصِرُونَ أي وفي أنفسكم آيات تدل على توحيد الله، وصدق ما جاءت به الرسل، أفلا تنظرون نظرة متأمل معتبر ناظر بعين البصيرة، فتستدلون بذلك على الخالق الرازق، المتفرد بالألوهية، فليست نفوسكم مخلوقة بالصدفة ولا بالطبيعة، وإنما خالقها الله القادر على كل شيء، وعلى البعث وإعادة الحياة.
ففي النفس والدماغ ذي الملايين من الخلايا، وحواس السمع والبصر والإحساس واللمس والذوق، ودورة الدم، وأجهزة التنفس والهضم والبول، كل ذلك أدلة مقنعة لمن يعقلها، ولا يعقلها حقيقة إلا المؤمنون المتقون الله، أما غيرهم فيفسرها على أنها حقائق طبيعية مادية فقط.
ثم ذكر الله تعالى ضمانه الرزق للأنفس والعباد كلهم فقال:
وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ أي، وفي السماء تقدير الأرزاق وتعيينها، وفيها ما توعدون من خير أو شر، وجنة ونار، وثواب وعقاب، ففي السماء التي هي السحاب المطر، وفي السماء أسباب الرزق من الشمس والقمر والكواكب والمطالع والمغارب التي تختلف بها الفصول، التي يكون تغيرها مناسبا لأنواع النباتات المختلفة التي تسقى بماء الأمطار، وتسوقها الرياح، وتغذيها الشمس بحرارتها، ويمنحها نور القمر قوة ونموا ونضجا.
ثم أقسم الله تعالى بذاته المقدسة على أحقية البعث وضمان الرزق، فقال:
فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ أي فورب العزة والجلال، إن ما أخبرتكم به في هذه الآيات، وما وعدتكم به من أمر القيامة
والبعث والجزاء، وتيسير الرزق وضمانه، حق لا مرية فيه، كائن لا محالة، فلا تشكّوا فيه، كما لا تشكّوا في نطقكم حين تنطقون، فهو كمثل نطقكم، فكما أنكم لا تشكون في نطقكم فكذلك هذا، كما تقول: إنه لحق، كما أنك تتكلم وترى وتسمع. وكان معاذ رضي الله عنه إذا حدث بالشيء يقول لصاحبه: إن هذا لحق كما أنك هاهنا.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن أبي عدي عن الحسن البصري أنه قال:
بلغني أن رسول الله ﷺ قال: «قاتل الله أقواما أقسم لهم ربهم، ثم لم يصدقوا».
قال الأصمعي: أقبلت خارجا من البصرة، فطلع أعرابي على قعود، فقال:
من الرجل؟ قلت: من بني أصمع، قال: من أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن، فقال: اتل عليّ، فتلوت وَالذَّارِياتِ فلما بلغت قوله: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ فقال: حسبك، فقام إلى ناقته فنحرها، ووزعها على الناس، وعمد إلى سيفه وقوسه، فكسرهما وولّى. فلما حججت مع الرشيد، طفقت أطوف، فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق، فالتفت، فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر، فسلّم علي، واستقرأ السورة، فلما بلغت الآية صاح، وقال: وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، ثم قال: فهل غير هذا؟ فقرأت: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ فصاح، فقال: يا سبحان الله، من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف؟! لم يصدقوه بقوله، حتى ألجؤوه إلى اليمين؟! قالها ثلاثا، وخرجت معها نفسه «١».
وفي هذا المعنى قصة الأشعريين حين أرسلوا رسولهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع
قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود ١١/ ٦] فرجع ولم يكلم النبي ﷺ وقال: «ليس الأشعريون بأهون على الله من الدواب».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- إن مآل المتقين في بساتين فيها عيون جارية، على نهاية ما يتنزه به، قابلين قبول رضا، قريرة أعينهم بما أعطاهم ربهم من الثواب وأنواع الكرامات.
وهذا في مقابل مآل الكفار في نار جهنم في الآيات السابقة.
٢- أوصاف المتقين المذكورة في هذه الآيات تنحصر في هذه الآيات تنحصر في هذه إحسانهم العمل وأداء الفرائض قبل دخولهم الجنة في الدنيا، ومظاهر إحسانهم العمل وأداء الفرائض قبل دخولهم الجنة في الدنيا، ومظاهر إحسانهم ثلاثة أشياء: تهجدهم بالليل بعد نومهم زمنا قليلا، واستغفارهم من ذنوبهم بالأسحار (أواخر الليل قبيل الفجر) وأداء حقوق أموالهم من الزكاة المفروضة وصدقات التطوع على سبيل البر والصلة. وإنما أضاف المال إليهم، وفي مواضع أخرى قال: أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [يس ٣٦/ ٢٧] لأن هذه الآية للحث على الإنفاق، وأما الآية التي في هذه السورة فهي مدح على ما فعلوا، مما يدل على أنهم في غير حاجة إلى التذكير بالحرص المانع من النفقة.
٣- من أدلة قدرة الله على البعث والنشور: خلق الأرض والسماء والأنفس، ففي الأرض علامات على با هر قدرته، منها عود النبات بعد أن صار هشيما، ومنها أنه قدّر الأقوات فيها قواما للحيوانات، ومنها سيرهم في البلدان التي يشاهدون فيها آثار الهلاك النازل بالأمم المكذبة، ولا ينتفع بتلك العلامات ولا يتدبر بها إلا الموقنون، وهم العارفون ربهم الموحّدون إلههم، المصدّقون بنبوة نبيهم.
وفي الأنفس البشرية آيات أيضا للمتأملين المؤمنين الموقنين، من تركيب الجسم العجيب، وتلازم الروح والجسد، والعقل والفؤاد، والقوى والإرادات، لذا عقبه تعالى بقوله: أَفَلا تُبْصِرُونَ يعني بصر القلب ليعرفوا كمال قدرة الله تعالى. وهذا إشارة إلى دليل الأنفس، وهو كقوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت ٤١/ ٥٣].
وفي السماء أسباب الرزق من مطر وثلج ينبت به الزرع، ويحيا به الخلق، وفيها تقدير ما يوعد به البشر من خير وشر، وجنة ونار، وثواب وعقاب. وفي الآيات الثلاث ترتيب حسن، فذكر الأرض وهي المكان، ثم عمرها وآنسها بالإنسان، ثم ذكر ما به بقاؤه وهو الرزق.
٤- أكد رب العزة ما أخبر به من البعث، وما خلق في السماء من الرزق، وما قدّر من أقوات الحيوانات والنفوس البشرية، فأقسم عليه بأنه لحق، ثم أكده بقوله: مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ أي مثل نطقكم، أي إن ذلك ثابت حسّا، كما يدرك الإنسان يسر نطقه وكلامه. وخص النطق من بين سائر الحواس: لأن ما سواه من الحواس يحدث فيه اللبس والتشبيه.
وهذا قسم ثالث: فبعد أن أقسم تعالى بالأمور الأرضية وهي الرياح، ثم أقسم بالسماء في قوله: وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ أقسم هنا بالذات العلية، وهذا ترتيب منطقي سليم، يقسم المتكلم أولا بالأدنى، فإن لم يصدق به، يرتقي إلى الأعلى.