وكذلك يصدر إفكهم عن القول المختلف. وقرأ سعيد بن جبير: يؤفك عنه من أفك، على البناء للفاعل. أى: من أفك الناس عنه وهم قريش، وذلك أنّ الحي كانوا يبعثون الرجل ذا العقل والرأى ليسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون له: احذره، فيرجع فيخبرهم.
وعن زيد بن على: يأفك عنه من أفك، أى: يصرف الناس عنه من هو مأفوك في نفسه. وعنه أيضا: يأفك عنه من أفك، أى: يصرف الناس عنه من هو أفاك كذاب. وقرئ: يؤفن عنه من أفن، أى: يحرمه من حرم، من أفن الضرع إذا نهكه حلبا.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ١٠ الى ١٤]
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤)
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ دعاء عليهم، كقوله تعالى قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ وأصله الدعاء بالقتل والهلاك، ثم جرى مجرى: لعن وقبح. والخرّاصون: الكذابون المقدرون ما لا يصح، وهم أصحاب القول المختلف، واللام إشارة إليهم، كأنه قيل: قتل هؤلاء الخراصون. وقرئ:
قتل الخراصين، أى: قتل الله فِي غَمْرَةٍ في جهل يغمرهم ساهُونَ غافلون عما أمروا به يَسْئَلُونَ فيقولون أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ أى متى يوم الجزاء. وقرئ بكسر الهمزة وهي لغة.
فإن قلت: كيف وقع أيان ظرفا لليوم، وإنما تقع الأحيان ظروفا للحدثان؟ قلت: معناه:
أيان وقوع يوم الدين. فإن قلت: فبم انتصب اليوم الواقع في الجواب؟ قلت: بفعل مضمر دل عليه السؤال، أى: يقع يوم هم على النار يفتنون. ويجوز أن يكون مفتوحا لإضافته إلى غير متمكن وهي الجملة. فإن قلت: فما محله مفتوحا؟ قلت: يجوز أن يكون محله نصبا بالمضمر الذي هو يقع، ورفعا على هو يوم هم على النار يفتنون. وقرأ ابن أبى عيلة بالرفع يُفْتَنُونَ يحرقون ويعذبون. ومنه الفتين: وهي الحرّة، لأن حجارتها كأنها محرقة ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ في محل الحال، أى: مقولا لهم هذا القول هذَا مبتدأ، والَّذِي خبره، أى: هذا العذاب هو الذي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ويجوز أن يكون هذا بدلا من فتنتكم، أى: ذوقوا هذا العذاب.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ١٥ الى ١٩]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩)
آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ قابلين لكل ما أعطاهم راضين به، يعنى أنه ليس فيما آتاهم إلا ما هو متلقى بالقبول مرضى غير مسخوط، لأن جميعه حسن طيب. ومنه قوله تعالى وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ أى يقبلها ويرضاها مُحْسِنِينَ قد أحسنوا أعمالهم، وتفسير إحسانهم ما بعده ما مزيدة. والمعنى: كانوا يهجعون في طائفة قليلة من الليل إن جعلت قليلا ظرفا، ولك أن تجعله صفة للمصدر، أى: كانوا يهجعون هجوعا قليلا. ويجوز أن تكون ما مصدرية أو موصولة، على: كانوا قليلا من الليل هجوعهم، أو ما يهجعون فيه. وارتفاعه بقليلا على الفاعلية «١». وفيه مبالغات لفظ الهجوع، وهو الفرار من النوم «٢». قال:
| قد حصت البيضة رأسى فما | أطعم نوما غير تهجاع «٣» |
قال: وقوله: قَلِيلًا وقوله مِنَ اللَّيْلِ لأنه وقت السبات. قال: ومنها زيادة ما في بعض الوجوه. قلت: وفي عدها من المبالغة نظر، فإنها تؤكد الهجوع وتحققه، إلا أن يجعلها بمعنى القلة فيحتمل.
(٢). قوله «وهو الفرار من النوم» في الصحاح: الفرار بالكسر: النوم القليل اه. (ع)
(٣).
| قد حصت البيضة رأسى فما | أطعم نوما غير تهجاع |
| أسعى على جل بنى مالك | كل امرئ في شأنه ساع |
وروى: على حبل بنى مالك، وعليه فشبه العهد بالحبل للتوثق والتوصل بكل على طريق التصريحية، أى: أسعى في شأنى متمسكا بعهدهم، وعلى الأول فقوله «كل امرى في شأنه ساع» فيه دلالة على إلزام نفسه بشأنهم، وأنه شأنه