
حال المتقين ونعيمهم
في آيات سابقة في سورة الذاريات ذكر الله تعالى حال الكفرة، وما يلقون من عذاب الله تعالى، ثم أعقب ذلك بيان حال المتقين، وما يلقون من النعيم في الآيات الآتية، ليبين الفرق ويتبع الناس طريق الهدى. وهذا لون بياني رائع للمقارنة أو الموازنة، فيظهر الحق من الباطل، قال الله تعالى:
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ١٥ الى ٢٣]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩)
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣)
«١» «٢» «٣» [الذاريات:
٥١/ ١٥- ٢٣].
إن الذين اتقوا ربهم بالتزام أوامره واجتناب نواهيه باتقاء الكفر والمعاصي، هم في الآخرة في جنات (بساتين) فيها عيون جارية، آخذين في دنياهم ما آتاهم ربهم من أوامره ونواهيه وفرائضه وشرعه.
إنهم كانوا في الدنيا محسنين في أعمالهم الصالحة، يراقبون الله تعالى فيها، كما جاء في آية أخرى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤) [الحاقة: ٦٩/ ٢٤].
ومن إحسانهم في العمل: أنهم كانوا ينامون زمنا قليلا من الليل، ويصلون أكثره، أي إن نومهم كان قليلا لاشتغالهم بالصلاة والعبادة، من كل ليلة.
وقوله: ما يَهْجَعُونَ ما عند جمهور النحويين: مصدرية، وقَلِيلًا خبر كان، والمعنى: كانوا قليلا من الليل هجوعهم، والهجوع فاعل (قليلا).
(٢) جمع سحر وهو الجزء الأخير من الليل.
(٣) الذي حرم المال وهو المتعفف عن السؤال.

وكانوا في الجزء الأخير من الليل يطلبون من الله تعالى المغفرة، قائلين: اللهم اغفر لنا وارحمنا، أي إنهم كانوا يحيون أكثر الليل متهجدين، فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار، كأنّهم باتوا في معصية.
وجعلوا في أموالهم جزءا مقسوما معينا للفقراء والمحتاجين، على سبيل البر والصلة، والسائل: هو الفقير الذي يسأل. والمحروم: هو الذي حرم المال ويتعفف عن السؤال. وهذا الجزء الذي جعلوه للفقراء: هو على وجه الندب، لا على وجه الفرض، ومعلوم: يراد به متعارف. وكذلك قيام الليل الذي مدحوا به ليس من الفرائض، وأكثر ما تقع الفضيلة بفعل المندوبات.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن الحسن بن محمد بن الحنفية: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث سرية، فأصابوا وغنموا، فجاء قوم بعد ما فرغوا- لم يشهدوا الغنيمة- فنزلت الآية: وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩).
وبعد هذا البيان، يوجد كلام مقدّر تقديره. فكونوا مثلهم أيها الناس، وعلى طريقتهم، فإن النظر المؤدي لهذا التقدير له وجه جيد.
ثم ذكر الله تعالى بعض الأدلة على قدرته الدالة على وقوع الحشر، فقال: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) أي وفي معالم الأرض من جبال ووديان وقفار ومعادن، وعيون وأنهار وبحار، وأنواع مختلفة من النبات والحيوان والناس، مع اختلاف ألسنتهم وألوانهم، وقدراتهم الفكرية والجسدية وغير ذلك، من عجائب الصنع الإلهي، في ذلك دلائل واضحة، وعلامات ظاهرة على عظمة الخالق وقدرته الباهرة، للذين يوقنون بالله تعالى، لأنهم الذين يعترفون بذلك، ويتدبرون فيه، فينتفعون به.
ومن أدلة قدرة الله وتوحيده: خلق النفوس البشرية، أفلا تنظرون نظرة متأمل

معتبر، ناظر بعين البصيرة. ففي تركيب الجسم بأجهزته المختلفة من جهاز هضم ودم وتنفس، وإحساس في الأعصاب ولمس وذوق، وفي تركيب الدماغ وما يشتمل عليه من عشرات ملايين الخلايا، في ذلك دلالة على الخالق المبدع. والله ضامن الرزق لعباده، ففي السماء تقدير الأرزاق وتعيينها، وفيها ما توعدون من خير وشر، وجنة ونار، وثواب وعقاب، ففي السحاب (السماء) المطر، وفي السماء عوامل الرزق من شمس وقمر وكواكب ومطالع ومغارب تختلف بها الفصول، ويكون تغيرها مناسبا لأنواع النباتات المختلفة التي تسقى بماء المطر، وتسوقها الرياح، وتغذيها الشمس بحرارتها، ويمنحها ضوء القمر قوة ونموا.
ثم أقسم الله تعالى على أحقية البعث وضمان الرزق فقال: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣) أي فو رب العزة والجلال إن ما أخبرتكم به في هذه الآيات، وما وعدتكم به من أمر القيامة والبعث والجزاء، وتيسير الرزق وضمانه:
حق لا مرية فيه، كائن لا محالة، فلا تشكّوا فيه، كما لا تشكّوا في نطقكم وتيسيره حين نطقكم، فهو كمثل نطقكم، شبّه هذا القول والخبر في التيقن به بالنطق من الإنسان، وهو في غاية الوضوح، ولا لبس فيه، خلافا للرؤية والسمع، قد يقع فيهما اللّبس.
قصة ضيف إبراهيم عليه السّلام
تكررت قصة إبراهيم الخليل في القرآن بمناسبات مختلفة لكونه شيخ المرسلين، ولأنها ذات موضوعات متنوعة، منها حوارة من غير معرفة مع الملائكة الضيوف الذين أرسلهم الله لإهلاك قوم لوط، حتى ينزجر كفار قريش وأمثالهم ما دام هذا القرآن يتلى، وتبين من القصة: مدى كرم إبراهيم، وبشارته من الملائكة بغلام هو