
ليعتبروا بهم. فإن قلت: أين ضرب الأمثال؟ قلت: في أن جعل اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار، واتباع الحق مثلا لعمل المؤمنين. أو في أن جعل الإضلال مثلا لخيبة الكفار، وتكفير السيئات مثلا لفوز المؤمنين.
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٤ الى ٦]
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦)
لَقِيتُمُ من اللقاء وهو الحرب فَضَرْبَ الرِّقابِ أصله: فاضربوا الرقاب ضربا، فحذف الفعل وقدّم المصدر فأنيب منابه مضافا إلى المفعول. وفيه اختصار مع إعطاء معنى التوكيد، لأنك تذكر المصدر وتدل على الفعل بالنصبة التي فيه. وضرب الرقاب عبارة عن القتل، لأنّ الواجب أن تضرب الرقاب خاصة دون غيرها من الأعضاء، وذلك أنهم كانوا يقولون:
ضرب الأمير رقبة فلان، وضرب عنقه وعلاوته، وضرب ما فيه عيناه «١» إذا قتله، وذلك أن قتل الإنسان أكثر ما يكون بضرب رقبته، فوقع عبارة عن القتل، وإن ضرب بغير رقبته من المقاتل كما ذكرنا في قوله فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ على أن في هذه العبارة من الغلظة والشدّة ما ليس في لفظ القتل، لما فيه «٢» من تصوير القتل بأشنع صورة وهو حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعلوه وأوجه أعضائه. ولقد زاد في هذه الغلظة في قوله تعالى فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ. أَثْخَنْتُمُوهُمْ أكثرتم قتلهم وأغلظتموه، من الشيء الثخين: وهو الغليظ. أو أثقلتموهم بالقتل والجراح حتى أذهبتم عنهم النهوض فَشُدُّوا الْوَثاقَ فأسروهم.
والوثاق بالفتح والكسر: - اسم ما يوثق به مَنًّا وفِداءً منصوبان بفعليهما مضمرين، أى: فإمّا تمنون منا، وإما تفدون فداء. والمعنى: التخيير بعد الأسر بين أن يمنوا عليهم فيطلقوهم، وبين أن يفادوهم. فإن قلت: كيف حكم أسارى المشركين؟ قلت: أمّا عند أبى حنيفة وأصحابه فأحد أمرين: إمّا قتلهم وإمّا استرقاقهم: أيهما رأى الإمام، ويقولون في المنّ والفداء المذكورين في الآية: نزل ذلك في يوم بدر ثم نسخ. وعن مجاهد: ليس اليوم منّ ولا فداء، وإنما هو الإسلام أو ضرب العنق. ويجوز أن يراد بالمنّ: أن يمنّ عليهم بترك القتل ويسترقوا.
(٢). قوله «لما فيه من تصوير القتل» لعله لما فيها. (ع)

أو يمنّ عليهم فيخلوا لقبولهم الجزية، وكونهم من أهل الذمّة. وبالفداء أن يفادى بأساراهم أسارى المشركين، فقد رواه الطحاوي مذهبا عن أبى حنيفة، والمشهور أنه لا يرى فداءهم لا بمال ولا بغيره، خيفة أن يعودوا حربا للمسلمين، وأما الشافعي فيقول: للإمام أن يختار أحد أربعة على حسب ما اقتضاه نظره للمسلمين، وهو: القتل، والاسترقاق «١»، والفداء بأسارى المسلمين، والمن. ويحتج بأن رسول الله ﷺ منّ على أبى عروة الحجبي «٢»، وعلى ثمامة بن أثال الحنفي، «٣» وفادى رجل برجلين من المشركين «٤» : وهذا كله منسوخ عند أصحاب الرأى. وقرئ: فدى، بالقصر مع فتح الفاء. أوزار الحرب: آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا بها كالسلاح والكراع. قال الأعشى:
وأعددت للحرب أوزارها... رماحا طوالا وخيلا ذكورا «٥»
وسميت أوزارها لأنه لما لم يكن لها بد من جرّها فكأنها تحملها وتستقل بها، فإذا انقضت فكأنها وضعتها. وقيل. أوزارها آثامها، يعنى: حتى يترك أهل الحرب. هم المشركون شركهم ومعاصيهم بأن يسلموا. فإن قلت: حَتَّى بم تعلقت؟ قلت: لا تخلو إما أن تتعلق بالضرب والشد: أو بالمن والفداء، فالمعنى على كلا المتعلقين عند الشافعي رضى الله عنه: أنهم لا يزالون على ذلك أبدا إلى أن لا يكون حرب مع المشركين. وذلك إذا لم يبق لهم شوكة. وقيل:
إذا نزل عيسى ابن مريم عليه السلام. وعند أبى حنيفة رحمه الله: إذا علق بالضرب والشد، فالمعنى: أنهم يقتلون ويؤسرون حتى تضع جنس الحرب الأوزار، وذلك حين لا تبقى شوكة للمشركين. وإذا علق بالمن والفداء، فالمعنى: أنه يمن عليهم ويفادون حتى تضع حرب بدر أوزارها
(٢). هو مذكور في المغازي لابن إسحاق وغيره «أنه أسر يوم بدر. فمن عليه رسول الله ﷺ بغير فداء ثم أسره يوم أحد فقتله صبرا» ورواه الواقدي عن ابن أخى الزهري عن عمه عن سعيد بن المسيب.
(٣). قوله «على ثمامة بن أثال الحنفي» هو في حديث أبى هريرة عند الشيخين مطولا
(٤). قوله «وفادى رجلا برجلين من المشركين» : هذا طرف من حديث أخرجه مسلم والترمذي وغيرهما من حديث عمران، ولكن فيه «أن أصحاب رسول الله ﷺ أسروا رجلا من بنى عقيل، وكانت ثقيف أسرت رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ففداه النبي ﷺ بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف» وروى البيهقي في المعرفة عن الشافعي من هذا الوجه مثل لفظ الكتاب. ثم قال: أظنه من الكاتب، والصحيح الأول.
(٥). للأعشى، واستعار الأوزار لآلات الحرب على طريق التصريحية، ويحتمل أنه شبيه الحرب بمطايا ذات أوزار، أى: أحمال ثقال على طريق المكنية، وإثبات الأوزار تخييل، ورماحا: بدل.