إثبات البعث والأمر بالصبر
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥)
الإعراب:
بِقادِرٍ: دخلت الباء لدخول حرف النفي في أول الكلام، فهو في قوة أليس اللَّه بقادر، كما دخلت في قوله تعالى: ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة ٢/ ١٠٥] وقادر: خبر أَنَّ.
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا.. يَوْمَ: منصوب بتقدير فعل، أي واذكر يوم يعرض.
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ، بَلاغٌ فيه محذوف تقديره:
فإنهم لم يلبثوا يوم يرون ما يوعدون إلا ساعة من نهار، فيوم: منصوب ب يَلْبَثُوا.
وبَلاغٌ: خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هذا بلاغ، فحذف المبتدأ للعلم به، ويجوز فيه النصب لوجهين:
أحدهما- على أنه مصدر.
والثاني- على الوصف لساعة.
المفردات اللغوية:
أَوَلَمْ يَرَوْا يعلموا، أي يعلم منكرو البعث يَعْيَ يعجز عنه ويضعف بَلى هو قادر على إحياء الموتى، والفرق بين بلى ونعم أن بَلى جواب للنفي بإبطاله وتقرير نقيضه، أي فهي لإثبات النقيض، ونعم لتقرير ما قبلها. وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ بأن يعذبوا في النار أَلَيْسَ هذا أي يقال لهم: أليس هذا التعذيب أو العذاب؟.
فَاصْبِرْ على أذى قومك أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ أصحاب الثبات والحزم والجد والصبر، فإنك من جملتهم، ومِنَ في قوله مِنَ الرُّسُلِ للبيان، فكلهم ذوو عزم، وهم خمسة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات اللَّه وسلامه عليهم، فإنهم أصحاب الشرائع الكبرى الذين اجتهدوا في تأسيسها وتقريرها، وصبروا على تحمل مشاقها، ومعاداة الطاعنين فيها وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ لقومك نزول العذاب بهم، فإنه نازل بهم في وقته لا محالة كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ من العذاب في الآخرة، لطوله لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ لم يقيموا في الدنيا في ظنهم إلا مقدار ساعة، لشدة ما يرون من أهوال بَلاغٌ أي هذا القرآن أو السورة أو الذي وعظتهم به تبليغ من اللَّه إليكم فَهَلْ يُهْلَكُ أي لا يهلك عند رؤية العذاب إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ أي الكافرون الخارجون عن الاتعاظ أو الطاعة.
المناسبة:
بعد إثبات وجود الإله القادر الحكيم المختار في أول السورة، وإبطال قول عبدة الأصنام، وإثبات النبوة، ومناقشة المشركين في عقائدهم الباطلة ورد شبهاتهم، وتوبيخهم على عدم إيمانهم مع أن الجن آمنوا بالقرآن، بعد هذا أثبت اللَّه تعالى مسألة المعاد، لأن المشركين كانوا ينكرونها، فتكون أغراض السورة المكية قد تحققت، وهي إثبات التوحيد والنبوة والبعث، ثم ذكر بعض أحوال الكفار في الآخرة.
ثم سلّى اللَّه نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم بأمره بالصبر في دعوته، كصبر الأنبياء أولي العزم قبله، لتبليغ ما أمروا بأدائه، وعدم استعجال العذاب لهم، وذلك تعليم لنا ودرس وعظة بليغة.
التفسير والبيان:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟ بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي أو لم يتفكر ويعلم هؤلاء المنكرون للبعث يوم القيامة، المستبعدون لإعادة الحياة في الأجسام مرة أخرى، أن الذي خلق الكون من السموات والأرض في ابتداء الأمر، ولم يعجز عن ذلك ولم يضعف عن خلقهن، بل قال لها: كوني فكانت، بقادر على أن يحيي الموتى من قبورهم مرة أخرى، كما قال تعالى في آية أخرى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر ٤٠/ ٥٧].
وبما أن الجواب معروف بداهة، أجاب اللَّه تعالى عن ذلك بقوله: بلى أي بل هو قادر على ذلك كله، إنه سبحانه قادر على أي شيء أراد خلقه، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
وبعد إثبات البعث ذكر تعالى بعض أحوال الكفار يوم القيامة، فقال:
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ، أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ؟ قالُوا: بَلى وَرَبِّنا أي واذكر أيها الرسول لقومك يوم يعذب الكافرون بالله في النار، ويقال لهم توبيخا وتأنيبا: أليس هذا العذاب الذي تعذبونه حقا وعدلا وواقعا لا شك فيه؟ فيقولون معترفين حيث لا ينفعهم الاعتراف: بلى واللَّه ربنا إنه لحق، أي إنه لا يسعهم إلا الاعتراف.
قالَ: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي قال اللَّه على سبيل الإهانة والتوبيخ: ذوقوا عذاب النار بسبب كفركم به في الدنيا وإنكاركم له.
وبعد تقرير التوحيد والنبوة والبعث والجواب عن شبهات المشركين، أمر اللَّه تعالى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم بالصبر على تكذيب قومه قائلا:
فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ أي فاصبر يا محمد على تكذيب قومك كصبر أولي الثبات والجد والعزيمة من الرسل وأنت من جملتهم، وهم أصحاب الشرائع: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، ولا تستعجل يا محمد العذاب لهم، أي للكفار، فإنه واقع بهم لا محالة. ومفعول الاستعجال محذوف، وهو العذاب.
روى ابن أبي حاتم والديلمي عن مسروق قال: قالت لي عائشة رضي اللَّه عنها: ظل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صائما، ثم طواه- أي ظل في يومه لا يأكل ولا يشرب- ثم ظل صائما ثم طواه، ثم ظل صائما، ثم قال: «يا عائشة، إن الدنيا لا تنبغي لمحمد، ولا لآل محمد، يا عائشة، إن اللَّه تعالى لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها، والصبر عن محبوبها، ثم لم يرض مني إلا أن يكلفني ما كلفهم، فقال: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وإني واللَّه لأصبرن كما صبروا، جهدي، ولا قوة إلا بالله».
ونظير لا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ قوله تعالى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ، وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمل ٧٣/ ١١] وقوله سبحانه: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطارق ٨٦/ ١٧].
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ، بَلاغٌ، فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ؟ أي كأن الكافرين حين يشاهدون ما أوعدهم اللَّه به من العذاب، لم يمكثوا في الدنيا إلا قدر ساعة من ساعات الأيام، لما يشاهدونه من الأهوال العظام، كما قال تعالى: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟ قالُوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ [المؤمنون ٢٣/ ١١٢- ١١٣] وقال عز وجل:
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها [النازعات ٧٩/ ٤٦].
وهذا القرآن الذي وعظهم به اللَّه تعالى والنبي: تبليغ كاف يقطع حجة
الكافرين، كما قال تعالى: هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ [إبراهيم ١٤/ ٥٢] وقال سبحانه إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ [الأنبياء ٢١/ ١٠٦]. والبلاغ:
بمعنى التبليغ.
ولا يهلك بعذاب اللَّه إلا القوم الخارجون عن الطاعة، والواقعون في معاصي اللَّه، فلا يهلك على اللَّه إلا هالك مشرك، وهذا من عدل اللَّه تعالى ألا يعذب إلا من يستحق العذاب. وهذه الآية أقوى آية في الرجاء.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- دلت الآية الأولى: أَوَلَمْ يَرَوْا على كونه تعالى قادرا على البعث، لأنه خلق السموات والأرض، ولا شك أن خلقها أعظم من إعادة الشخص حيا بعد أن صار ميتا، والقادر على الأقوى الأكمل، لا بد من أن يكون قادرا على الأقل والأضعف.
ثم إن اللَّه تعالى قادر على كل شيء، وتعلق الروح بالجسد أمر ممكن، إذ لو لم يكن ممكنا لما وقع أولا، واللَّه تعالى قادر على كل الممكنات، فوجب كونه قادرا على تلك الإعادة.
٢- ذكر اللَّه تعالى الكفار حين تعذيبهم بالنار، حيث يقال لهم توبيخا وتهكما على استهزائهم بوعد اللَّه ووعيده: أليس هذا العذاب حقا؟ فذوقوا العذاب بكفركم.
٣- أمر اللَّه نبيه والمؤمنين بالصبر في تبليغ الدعوة ومشاق الحياة، كصبر أصحاب الشرائع الكبرى: وهم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، على نبينا وعليهم الصلاة والسلام. وسبب هذا الأمر: أن الكفار كانوا يؤذون النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم،
ويضايقونه ويوغرون صدره الشريف، فتكون كلمة من للتبعيض.
وفي قول آخر: إن كل الرسل أولو عزم، ولم يبعث اللَّه رسولا إلا إذا كان ذا عزم وحزم، ورأي وكمال وعقل، فتكون كلمة من للتبيين لا للتبعيض.
وفي قول: كل الأنبياء أولو عزم إلا يونس بن متّى، لأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم نهي أن يكون مثله، لخفة وعجلة ظهرت منه حين ولّى مغاضبا لقومه.
وهل الأمر بالصبر منسوخ؟ قال بعض المفسرين: الآية منسوخة بآية السيف، وقيل: محكمة، قال القرطبي: والأظهر أنها منسوخة، لأن السورة مكية. وذكر مقاتل: أن هذه الآية نزلت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم أحد، فأمره اللَّه عز وجل أن يصبر على ما أصابه، كما صبر أولو العزم من الرسل، تسهيلا عليه وتثبيتا له.
والراجح لدي أنها غير منسوخة، لأن فضيلة الصبر ذات قيمة أدبية رفيعة، ومبدأ أخلاقي ضروري وسام في كل وقت، ومثل هذا لا يصلح للنسخ. والصبر لا يمنع الجهاد ورد العدوان وقتال الأعداء من المشركين وغيرهم، فهو أمر مطلوب في السلم والحرب.
٤- أمر اللَّه نبيه والمؤمنين أيضا من بعده بعدم الاستعجال في الدعاء على الكفار، فلكل شيء أو ان بعلم اللَّه وحكمته، والعذاب منهم قريب، وأنه نازل بهم لا محالة، وإن تأخر. والسنة في الدعاء طلب الوقاية من السوء والأذى،
أخرج الطبراني عن أنس أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يدعو: «اللهم إني أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل برّ، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، اللهم لا تدع لي ذنبا إلا غفرته، ولا همّا إلا فرّجته، ولا دينا إلا قضيته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها برحمتك يا أرحم الراحمين».
٥- إن أجل الدنيا قصير، والآخرة خالدة دائمة، ويحسب الكفار حين يرون أهوال عذاب الآخرة أنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا مقدار ساعة من ساعات النهار.
٦- في القرآن والسنة البلاغ والكفاية في إنذار الناس من العذاب، وتحذيرهم من العقاب بسبب الكفر والعصيان.
٧- من عدل اللَّه ورحمته ألا يعذب إلا من فسق بأن خرج من طاعة اللَّه تعالى، ولم يعمل بأمره ونهيه.
قال ابن عباس: إذا عسر على المرأة ولدها، تكتب هاتين الآيتين والكلمتين في صحيفة، ثم تغسل وتسقى منها، وهي: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، لا إله إلا العظيم: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها [النازعات ٧٩/ ٤٦].
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ، بَلاغٌ، فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ صدق اللَّه العظيم.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة محمّد عليه الصلاة والسلاممدنيّة، وهي ثمان وثلاثون آية.
تسميتها:
سميت سورة محمد، لبيان تنزيل القرآن فيها على محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم: وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ [٢]. ولم يذكر محمد باسمه في القرآن إلا أربع مرات، في سورة آل عمران: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ [١٤٤] وفي سورة الأحزاب: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ [٤٠] وهنا في هذه السورة، وفي سورة الفتح: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [٢٩]. وأما في غير هذه المواضع الأربعة فيذكر بصفة الرسول أو النبي.
وسميت أيضا سورة القتال، لبيان أحكام قتال الكفار فيها في أثناء المعارك وبعد انتهائها: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ [٤].
مناسبتها لما قبلها:
هذه السورة يرتبط أولها ارتباطا قويا بآخر سورة الأحقاف: فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ حتى إنه لو أسقطت البسملة بينهما، لكان الكلام متصلا مباشرة بما قبله اتصالا لا تنافر فيه، كالآية الواحدة.
ما اشتملت عليه السورة:
يمكن أن يوصف موضوع هذه السورة بأنه الجهاد في سبيل اللَّه، وبما أن صفحة رقم 75
السورة مدنية، فهي معنية بأحكام التشريع، لا سيما أحكام القتال والأسرى والغنائم ووصف الكافرين والمؤمنين وجزاء الفريقين في الدنيا والآخرة، وأحوال المنافقين والمرتدين ووعدهم ووعيدهم.
بدأت السورة مباشرة وبما يلفت النظر بالحديث عن الكفار أعداء اللَّه والرسول، وإظهار غضب اللَّه عليهم، وأردفت ذلك بوصف المؤمنين وبيان رضا اللَّه عليهم، لإظهار الفرق الواضح بين الفريقين: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ.
ثم أمرت المؤمنين بقتال الكافرين قتالا عنيفا لا هوادة فيه، لأنهم كفروا واتبعوا الباطل، وبشّرت المؤمنين بالنصر إن نصروا دين اللَّه وصبروا في مواجهة الأعداء، وأبانت خذلان الكافرين لكراهيتهم ما أنزل اللَّه، وفي هذا تعريف بجزاء المؤمنين والكافرين في الدنيا والآخرة.
ثم عنيت بضرب الأمثال لكفار مكة وأمثالهم بالطغاة السابقين وكيفية تدميرهم بسبب طغيانهم: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا...
ووصفت بعدئذ ألوان نعيم الجنة المعدة للمتقين للترغيب والإقبال على الإيمان والطاعة.
وانتقل البيان إلى وصف المنافقين والمرتدين ووعدهم وتهديدهم: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ.. وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا: نُزِّلَتْ سُورَةٌ إلى آخر السورة. وذكرت في ثنايا ذلك أن الكافرين الصادّين عن سبيل اللَّه والمعادين للرسول لن يضروا اللَّه شيئا وسيحبط أعمالهم، ولن يغفر اللَّه لهم، وذكّرت بوجوب طاعة اللَّه تعالى والرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وختمت السورة بما يناسب موضوعها الأصلي وهو الجهاد في سبيل اللَّه، فدعت المؤمنين إلى تحقيق العزة والكرامة، وتجنب الضعف والوهن والمسالة