الوصية ببر الوالدين
- ١- وصف الولد البار بوالديه
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١٥ الى ١٦]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦)
الإعراب:
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً وقرئ: حسنا وحسنا، وإحسانا: منصوب على المصدر، أي أن يحسن إحسانا. وحسنا: صفة لمفعول محذوف، أي ووصينا الإنسان بوالديه أمرا ذا حسن، وحسنا: تقديره: فعلا حسنا.
وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ثَلاثُونَ: خبر مبتدأ الذي هو حَمْلُهُ وإنما رفع، لأن في الكلام مقدرا محذوفا، تقديره: وقدّر حمله وفصاله ثلاثون شهرا. وفي هذا ما يدل على أن أقل الحمل ستة أشهر، مراعاة لآية أخرى هي: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ [البقرة ٢/ ٢٣٣] فإذا أسقط حولان من ثلاثين أشهرا بقي مدة الحمل ستة أشهر.
فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ حال، أي كائنين في جملتهم.
وَعْدَ الصِّدْقِ مصدر مؤكد لنفسه.
البلاغة:
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً بعد قوله: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ من قبيل ذكر الخاص بعد العام لزيادة العناية بالأم.
حَمَلَتْهُ وَوَضَعَتْهُ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
وَوَصَّيْنَا من التوصية والإيصاء والوصية: وهي الأمر المقترن بضرورة الاعتناء والاهتمام، أي أمرنا إِحْساناً أن يحسن لهما إحسانا: وهو ضد الإساءة، والحسن ضد القبح، أي أن يفعل معهما فعلا ذا حسن كُرْهاً مشقة. وَحَمْلُهُ مدة حمله. وَفِصالُهُ فطامه، أي المدة القصوى لفطامه من الرضاع سنتان، وأقل مدة الحمل ستة أشهر، والباقي أكثر مدة الرضاع. حَتَّى إِذا غاية لجملة مقدرة، أي وعاش حتى بَلَغَ أَشُدَّهُ بلوغ الأشد: كمال العقل والرأي والقوة، وأقله ثلاثون أو ثلاث وثلاثون سنة. وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً أي تمامها، وهو أكثر الأشد، قيل: لم يبعث نبي إلا بعد الأربعين. قال البيضاوي: وفيه دليل على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، لأنه إذا حط منه للفصال حولان لقوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة ٢/ ٢٣٣] بقي ذلك، وبه قال الأطباء. ولعل تخصيص أقل الحمل وأكثر الرضاع لانضباطهما وتحقق ارتباط حكم النسب والرضاع بهما.
أَوْزِعْنِي ألهمني ووفقني ورغّبني. نِعْمَتَكَ نعمة الدين وغيرها من النعم. وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ نكّر كلمة صالِحاً أي عملا صالحا للتعظيم، أو أنه أراد أي عمل أو نوع من جنس الأعمال يحقق رضا اللَّه عز وجل. وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي اجعل الصلاح ساريا في ذريتي راسخا فيهم. أُولئِكَ أي قائلو هذا القول الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا أي حسن أعمالهم وطاعاتهم، فإن المباح حسن ولا يثاب عليه وقرئ: يتقبل. وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ لتوبتهم وقرئ: ويتجاوز. فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ أي كائنين في عدادهم أو معدودين فيهم. وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ في الدنيا في قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ [التوبة ٩/ ٧٢].
سبب النزول: نزول الآية (١٥) :
حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ: روى الواحدي عن ابن عباس قال: أنزلت في
أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه، وذلك أنه صحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو ابن ثمان عشرة سنة، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ابن عشرين سنة، وهم يريدون الشام في التجارة، فنزلوا منزلا فيه سدرة (شجرة السدر) فقعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في ظلها، ومضى أبو بكر إلى راهب هناك يسأله عن الدين، فقال له: من الرجل الذي في ظل السدرة؟ فقال: ذاك محمد بن عبد اللَّه بن عبد المطلب، قال: هذا واللَّه نبيّ، وما استظل تحتها أحد بعد عيسى بن مريم إلا محمد نبي اللَّه، فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق، وكان لا يفارق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في أسفاره وحضوره، فلما نبّئ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو ابن أربعين سنة، وأبو بكر ابن ثمان وثلاثين سنة أسلم وصدّق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما بلغ أربعين سنة قال: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ «١».
وقال السدّي والضحاك: نزلت في سعد بن أبي وقاص، أخرج مسلم وأهل السنن إلا ابن ماجه عن سعد رضي اللَّه عنه قال: قالت أم سعد لسعد: أليس اللَّه قد أمر بطاعة الوالدين، فلا آكل طعاما، ولا أشرب شرابا، حتى تكفر بالله تعالى، فامتنعت من الطعام والشراب، حتى جعلوا يفتحون فاها بالعصا، ونزلت هذه الآية: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً.
وقال الحسن البصري: «هي مرسلة نزلت على العموم». وهذا هو الأولى، لأن حمل اللفظ على العموم منذ بداية نزول الوحي أوقع وأفيد وأشمل، وإن كانت العبرة دائما لعموم اللفظ لا لخصوص السبب.
المناسبة:
بعد أن ذكر اللَّه تعالى جزاء المؤمنين الموحدين المستقيمين على الشريعة، أمر ووصى ببر الوالدين، وأشاد بصفة خاصة بالبارّ والديه بعد بلوغه سن الأربعين،
وبشّره بقبول أعماله الصالحة، والتجاوز عن سيئاته، وجعله في عداد أصحاب الجنة، وعدا منجزا لا خلف فيه.
التفسير والبيان:
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً أي وصيناه وأمرناه أن يحسن إليهما إحسانا في الحياة وبعد الممات بالحنو عليهما وبرهما والإنفاق عليهما عند الحاجة والبشاشة عند لقائهما، كما جاء في آيات أخرى مثل قوله تعالى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً.. [الإسراء ١٧/ ٢٣] وقوله سبحانه:
أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ، إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان ٣١/ ١٤].
وجاءت الأحاديث النبوية الكثيرة المؤيدة للقرآن في هذا الأدب العظيم، وجعل بر الأبوين من أفضل الأعمال، وعقوقهما من الكبائر، ووصل البر بعد الوفاة، منها
ما أخرجه البخاري عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّه عنهما عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس»
ومنها ما أخرجه أبو داود وابن ماجه وابن حبان عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي رضي اللَّه عنه قال: «بينا نحن جلوس عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، إذ جاءه رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول اللَّه، هل بقي من برّ أبويّ شيء أبرّهما به بعد موتهما؟ فقال: نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما».
ثم ذكر سبب التوصية وخص الأم لزيادة العناية والاهتمام بها، فقال تعالى:
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً أي حملته في بطنها بمشقة، وولدته بمشقة، فإنها قاست بسببه في حال حمله مشقة وتعبا من وحم وغشيان وثقل وكرب، ووضعته بمشقة أيضا من ألم الطّلق وشدته، ووجع الولادة ثم الرضاع
والتربية، وكانت أيام الوحم تمتنع من الطعام والشراب، وتعاف كل شيء، مما يستدعي البر بها والإحسان الزائد إليها، كما قال تعالى:
وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً أي إن مدة حمله وفطامه ثلاثون شهرا، أي عامان ونصف، عانت فيهما الأم آلام السهر، وعناء الرضاع والغذاء والتنظيف والتربية بمحبة وحنان، دون ضجر ولا سأم.
وفي هذه الآية إشارة إلى أن حق الأم آكد من حق الأب، لأنها حملته بمشقة ووضعته بمشقة، وأرضعته وحضنته، وعنيت به بتعب وصبر، ولم يشاركها الأب في شيء من ذلك، وإن تعب في الكسب والإنفاق، لذا جاءت الأحاديث النبوية تؤكد بر الأم، وتقدّمه بمراتب ثلاث على مرتبة الأب،
أخرج الشيخان (البخاري ومسلم) عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: «جاء رجل إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللَّه، من أحقّ الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمّك، قال: ثم من؟ قال: أمّك، قال: ثم من؟ قال: أمّك، قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك».
وفي الآية أيضا إيماء إلى أن أقل الحمل ستة أشهر (نصف عام) وكان علي رضي اللَّه عنه أول من استدل بهذه الآية وآية لقمان. وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ [١٤] وقوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة ٢/ ٢٣٣] على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، لأن أكثر مدة الرضاع والفطام حولان كاملان، فبقي للحمل من الثلاثين شهرا ستة أشهر.
وهو استنباط صحيح، وافقه عليه عثمان وجماعة من الصحابة رضي اللَّه عنهم،
روى ابن أبي حاتم ومحمد بن إسحاق صاحب السيرة النبوية عن معمر بن عبد اللَّه الجهني قال: تزوّج رجل منا امرأة من جهينة، فولدت له لتمام ستة أشهر، فانطلق زوجها إلى عثمان رضي اللَّه عنه، فذكر ذلك له، فبعث إليها،
فلما قامت لتلبس ثيابها، بكت أختها، فقالت: وما يبكيك؟ فو اللَّه ما التبس بي أحد من خلق اللَّه تعالى غيره قط، فيقضي اللَّه سبحانه وتعالى فيّ ما شاء، فلما أتى بها عثمان رضي اللَّه عنه أمر برجمها، فبلغ ذلك عليا رضي اللَّه عنه، فأتاه، فقال له: ما تصنع؟ قال: ولدت تماما لستة أشهر، وهل يكون ذلك؟ فقال له علي رضي اللَّه عنه: أما تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قال: أما سمعت اللَّه عز وجل يقول: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً وقال: حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ فلم نجده بقي إلا ستة أشهر، فقال عثمان رضي اللَّه عنه: واللَّه ما فطنت بهذا، عليّ بالمرأة، فوجدوها قد فرغ منها «١»، فقال معمر: فو اللَّه ما الغراب بالغراب، ولا البيضة بالبيضة بأشبه منه بأبيه، فلما رآه أبوه، قال: ابني واللَّه، لا أشك فيه.
وروى ابن أبي حاتم أيضا عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر، كفاه من الرضاع أحد وعشرون شهرا، وإذا وضعته لسبعة أشهر، كفاه من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرا، وإذا وضعته لستة أشهر، فحولين كاملين، لأن اللَّه تعالى يقول: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً، حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ.
حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ، وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً أي حتى إذا قوي وشب وارتجل، فاستحكم عقله وقوته، وذلك بين الثلاثين والأربعين، وتناهي عقله، وكمل فهمه وحلمه ببلوغ الأربعين سنة. وقوله حَتَّى غاية لمحذوف تقديره:
فعاش أو طالت حياته حتى إذا بلغ الأشد، أي القوة، وذلك يكون بكمال قوته المادية والعقلية، لذلك قيل: إنه لم ينبأ نبي قبل الأربعين إلا ابني الخالة عيسى ويحيى عليهما السلام.
قالَ: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ أي إذا بلغ الأربعين قال: رب ألهمني ووفقني أن أشكر نعمتك التي أنعمت بها علي
وعلى والدي من نعمة الهداية إلى الدين الحق والتوحيد وغير ذلك من نعم الدنيا، كسلامة العقل، والصحة والعافية، وسعة العيش، وتمام الخلقة السوية، وحنان الأبوين حين ربياني صغيرا.
وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ، وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي هذا معطوف على قوله: أَنْ أَشْكُرَ أي ألهمني ووفقني للعمل الصالح الذي ترضاه مني، والعمل الصالح المرضي: هو ما يكون سالما من غوائل عدم القبول، واجعل الصلاح ساريا في ذريتي «١»، متمكنا راسخا فيهم، حتى يكون لهم طبعا وخلقا.
إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ، وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي إني تبت وأنبت إليك من جميع الذنوب، والآثام، وإني من المستسلمين لك، المنقادين لطاعتك، المخلصين لتوحيدك، الخاضعين لربوبيتك.
قال ابن كثير: وهذا فيه إرشاد لمن بلغ الأربعين أن يجدد التوبة والإنابة إلى اللَّه عز وجل، ويعزم عليها «٢»،
وقد روى أبو داود في سننه عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يعلّمهم أن يقولوا في التشهد: «اللهم ألّف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجّنا من الظلمات إلى النور، وجنّبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها عليك، قابليها، وأتمّها علينا».
ثم ذكر اللَّه تعالى جزاء هؤلاء الصالحين قائلا:
أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا، وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ، فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ. وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ أي أولئك الذين هذه
(٢) تفسير ابن كثير: ٤/ ١٥٧ وما بعدها.
طريقتهم، الموصوفون بالصفات المتقدمة التائبون إلى اللَّه المنيبون إليه، هم الذين يكرمهم اللَّه، فيتقبل عنهم ما قدموا من صالح العمل، وأعمال الخير في الدنيا المنسجمة مع أوامر اللَّه، ويعفو عنهم ويغفر لهم سيئاتهم وذنوبهم، فلا يعاقبهم عليها، إذ هي تتلاشى بجانب الحسنات: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود ١١/ ١١٤].
وهم في جملة أصحاب الجنة، وهذا حكمهم عند اللَّه عز وجل، كما وعد اللَّه من تاب إليه وأناب، فهو وعد منجّز لا خلف فيه ولا شك في حصوله، وهو الوعد الذي وعدهم اللَّه به في كتبه وعلى لسان أنبيائه، واللَّه منجز ما وعد.
وقوله: أُولئِكَ إشارة إلى الإنسان المذكور في قوله تعالى:
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ وجمعه باعتبار أفراد الإنسان الذين تحقق فيهم ما ذكر من الأوصاف من معرفة حقوق الوالدين، والرجوع إلى اللَّه بسؤال التوفيق للشكر، وهو إيذان بأن هذه الأوصاف هي صفات الإنسانية الكاملة.
وقوله: أَحْسَنَ ما عَمِلُوا أي حسن ما عملوا، فيشمل الحسن والأحسن.
وقوله: وَعْدَ الصِّدْقِ مصدر مؤكد لما قبله، أي وعد اللَّه أهل الإيمان أن يتقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم وعد الصدق.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- إن الإحسان إلى الوالدين فرض في الإسلام، لقوله تعالى:
وَوَصَّيْنَا والتوصية: الأمر، والأمر يقتضي الوجوب.
٢- إن سبب وجوب الإحسان إلى الأبوين واضح وهو كونهما كانا سببا لوجود الأولاد، وتربيتهم وتنشئتهم، وعلى التخصيص الأم التي تعاني من أجل الولد معاناة شديدة ربما تضحي بحياتها له، فقد حملته بكره ومشقة، ووضعته بكره ومشقة، وسهرت على راحته الليالي الطوال، وعانت في حضانته ورضاعته عناء لا يقدر.
٣- إن حق الأم كما تقدم بدلالة الآية أعظم من حق الأب، لأنه تعالى قال أولا: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً فذكرهما معا، ثم خص الأم بالذّكر، فقال: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وذلك يدل على أن حقها أعظم، وأن تحملها المشاق بسبب الولد أكثر.
٤- دلت الآية أيضا كما تقدم على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، لأنه لما كان مجموع مدة الحمل والرضاع ثلاثين شهرا، وكان أقصى مدة الرضاع حولين كاملين، بقي أقل مدة الحمل ستة أشهر، بعد إسقاط مدة حولي الرضاع، وهي أربع وعشرون شهرا من الثلاثين. روي عن عمر أن امرأة رفعت إليه، وكانت قد ولدت لستة أشهر، فأمر برجمها، فقال علي: لا رجم عليها، وكذلك روي عن عثمان أنه همّ بذلك، فأبان له علي أو ابن عباس ما دلت عليه الآيات كما تقدم، فرجع عثمان عن قوله ولم يحدّها.
وروي أن الآية نزلت في أبي بكر الصديق، وكان حمله وفصاله في ثلاثين شهرا، حملته أمه تسعة أشهر، وأرضعته إحدى وعشرين شهرا.
٥- ودلت الآية أيضا على أن أكثر مدة الرضاع سنتان، لأنه إذا دلت على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، فإنها تدل في الباقي من الثلاثين شهرا على أن أكثر مدة الرضاع حولان كاملان، وتأيّد هذا بآية: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة ٢/ ٢٣٣].
٦- إن بلوغ الأشد يكون قبل الأربعين سنة، والآية تدل على أن الإنسان كالمحتاج إلى رعاية الوالدين له إلى مدة قريبة من مدة الأربعين سنة.
٧- على الإنسان أن يشكر نعمة اللَّه عليه إذا بلغ أربعين سنة، وهي مرحلة كمال العقل والبنية، وأن يطلب من اللَّه تعالى توفيقه للعمل الصالح الذي يرضيه، وأن يجعل الصلاح ساريا في ذريته، راسخا متمكنا فيهم.
قال علي رضي اللَّه عنه: هذه الآية: رَبِّ أَوْزِعْنِي نزلت في أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه! أسلم أبواه جميعا، ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أبواه غيره، فأوصاه اللَّه بهما، ولزم ذلك من بعده.
ووالده: هو أبو قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم.
وأمه: أم الخير، واسمها سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد. وأم أبيه أبي قحافة: «قيلة». وامرأة أبي بكر الصديق اسمها «قتيلة» بنت عبد العزّى.
وقال ابن عباس عن قوله تعالى: وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ، وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي: أجاب اللَّه دعاء أبي بكر، فأعتق تسعة من المؤمنين يعذّبون في اللَّه، منهم بلال وعامر بن فهيرة، ولم يدع شيئا من الخير إلا أعانه اللَّه عليه. ولم يبق له ولد ولا والد ولا والدة إلا آمنوا بالله وحده، ولم يكن أحد من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أسلم هو وأبواه وأولاده وبناته كلهم إلا أبو بكر. وهذا دليل على استجابة دعاء أبي أبكر.
ومن فضائل أبي بكر: ما ذكر
في الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «من أصبح منكم اليوم صائما؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكينا؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن عاد منكم اليوم مريضا؟ قال أبو بكر:
أنا، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة».
٨- دلت آية: أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ.. على أن الآية التي قبلها:
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ.. مرسلة، نزلت على العموم، وهو قول الحسن كما تقدم، فتشمل أبا بكر وغيره.
٩- وهذه الآية أيضا تدل على أن المتصف بالصفات التي قبلها هو أفضل الناس، لأن الذي يتقبل اللَّه عنه أحسن أعماله، ويتجاوز عن كل سيئاته، يجب أن يكون من أفاضل الخلق وأكابرهم.
وأجمعت الأمة على أن أفضل الخلق بعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أبو بكر، لدلالة الآية عليه، وأنه هو أولا المراد منها، وتنطبق على أمثاله من بعده.
١٠- وصف اللَّه تعالى هذا الداعي أنه طلب من اللَّه تعالى ثلاثة أشياء: هي أن يوفقه اللَّه للشكر على نعمته، وأن يوفقه للإتيان بالطاعة المرضية عند اللَّه، وأن يصلح له في ذريته، وبذلك جمع جوانب السعادة النفسية والبدنية والخارجية. ويلاحظ منها أنه تعالى قدم الشكر على العمل، وأن طلب إلهام الشكر على نعم اللَّه دليل على أنه لا يتم شيء من الطاعات والأعمال إلا بإعانة اللَّه تعالى، وأنه لا يكفي كون الشيء صالحا في ظنه، يل يكون صالحا عنده وعند اللَّه تعالى.
١١- دل آخر الآية: إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ على أن الدعاء لا يصح إلا مع التوبة والإسلام والانقياد لأمر اللَّه تعالى.