
وَقَوْلُهُ: مِنْ فِرْعَوْنَ الْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مُطَابِقًا لِلْعَذَابِ الْمُهِينِ فَتَكُونَ مِنْ مُؤَكِّدَةً لِ مِنَ الْأُولَى الْمُعَدِّيَةِ لِ نَجَّيْنا لِأَنَّ الْحَرْفَ الدَّاخِلَ عَلَى الْمُبْدَلِ مِنْهُ يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى الْبَدَلِ لِلتَّأْكِيدِ. وَيَحْسُنُ ذَلِكَ فِي نُكَتٍ يَقْتَضِيهَا الْمَقَامُ وَحُسْنُهُ هُنَا، فَأُظْهِرَتْ مِنْ لِخَفَاءِ كَوْنِ اسْمِ فِرْعَوْنَ بَدَلًا مِنَ الْعَذَابِ تَنْبِيهًا عَلَى قَصْدِ التَّهْوِيلِ لِأَمْرِ فِرْعَوْنَ فِي جَعْلِ اسْمِهِ نَفْسَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ، أَيْ فِي حَالِ كَوْنِهِ صَادِرًا مِنْ فِرْعَوْنَ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ عالِياً مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِبَيَانِ التَّهْوِيلِ الَّذِي أَفَادَهُ جَعْلُ اسْمِ فِرْعَوْنَ بَدَلًا مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ. وَالْعَالِي: الْمُتَكَبِّرُ الْعَظِيم فِي النَّاس، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ [الْقَصَص: ٤].
ومِنَ الْمُسْرِفِينَ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ فِرْعَوْنَ، وَالْإِسْرَافُ: الْإِفْرَاطُ وَالْإِكْثَارُ.
وَالْمُرَادُ هُنَا الْإِكْثَارُ فِي التَّعَالِي، يُرَادُ الْإِكْثَارُ فِي أَعْمَالِ الشَّرِّ بِقَرِينَةِ مَقَامِ الذَّمِّ. ومِنَ الْمُسْرِفِينَ أَشَدُّ مُبَالَغَةً فِي اتِّصَافِهِ بِالْإِسْرَافِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: مُسْرِفًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [٦٧].
[٣٢]
[سُورَة الدُّخان (٤٤) : آيَة ٣٢]
وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢)
إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اخْتَارَ الَّذِينَ آمنُوا بِمُحَمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمَمِ عَصْرِهِمْ كَمَا اخْتَارَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أُمَمِ عَصْرِهِمْ وَأَنَّهُ عَالِمٌ بِأَنَّ أَمْثَالَهُمْ أَهْلٌ لِأَنْ يَخْتَارَهُمُ اللَّهُ. وَالْمَقْصُودُ: التَّنْوِيهُ بِالْمُؤْمِنِينَ بِالرُّسُلِ وَأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَنْصُرَهُمُ اللَّهُ عَلَى أَعْدَائِهِمْ وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْإِشَارَةِ أُكِّدَ الْخَبَرُ بِاللَّامِ وَ (قَدْ)، كَمَا أُكِّدَ فِي قَوْلِهِ آنِفًا وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ [الدُّخان: ٣٠]، وعَلى فِي قَوْلِهِ: عَلى عِلْمٍ بِمَعْنَى (مَعَ)، كَقَوْلِ الْأَحْوَصِ:
إِنِّي عَلَى مَا قَدْ عَلِمْتُ مُحَسَّدٌ | أُنْمِي عَلَى الْبَغْضَاءِ وَالشَّنَآنِ |
وَالْمُرَادُ بِ الْعالَمِينَ الْأُمَمُ الْمُعَاصِرَةُ لَهُمْ. ثُمَّ بَدَّلُوا بَعْدَ ذَلِكَ فَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ صفحة رقم 305