آيات من القرآن الكريم

صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ
ﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭ ﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ

٤- إن الله تعالى مالك السموات والأرض وما فيهما، يفعل ويتصرّف في ملكه ما يشاء بمقتضى علم تام دقيق، وحكمة بالغة، فيهب الإناث فقط لمن يريد، والذّكور فقط لمن يريد، والذّكور والإناث معا لمن يريد، ويجعل من يشاء عقيما لا يولد له.
جاء في الحديث الصحيح: «إذا سبق ماء الرّجل ماء المرأة أذكرا، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرّجل آنثا» وفي لفظ آخر: «إذا علا ماء الرجل ماء المرأة أشبه الولد أعمامه، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أشبه الولد أخواله».
أما الخنثى ففيه الذّكورة والأنوثة، ويغلّب إحداهما بعمل جراحي، وفي الماضي من حيث يبول،
روى ابن عباس عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه سئل عن مولود له قبل وذكر، من أين يورّث؟ قال: «من حيث يبول»
واقتصر النّص القرآني على الغالب في الموجودات، وسكت عن ذكر النادر لدخوله تحت عموم الكلام الأول عن غير العقيم.
أنواع الوحي
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٥١ الى ٥٣]
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣)

صفحة رقم 103

الإعراب:
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ: اسم كان، ولِبَشَرٍ: خبرها، وإِلَّا وَحْياً: منصوب على المصدر في موضع الحال من اسمه تعالى اللَّهُ، ومِنْ متعلّقة بمقدر، أي إلا موحيا أو مكلّما من وراء حجاب.
أَوْ يُرْسِلَ معطوف بالنّصب على معنى قوله: إِلَّا وَحْياً تقديره: أو أن يرسل رسولا، لأن كانَ مع الفعل في تأويل المصدر، فيكون عطف مصدر على مصدر، ويقرأ بالرفع:
أَوْ يُرْسِلَ على الاستئناف تقديره: أهو يرسل رسولا.
ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ النّفي على الفعل تَدْرِي عن العمل، وكان ما بعده سادّا مسدّ المفعولين.
صِراطِ اللَّهِ بدل من الأوّل.
البلاغة:
حَكِيمٌ مُسْتَقِيمٍ وغير ذلك من مقاطع السورة: فيها ما يسمى توافق الفواصل.
المفردات اللغوية:
وَما كانَ لِبَشَرٍ وما صحّ وما استقام له. إِلَّا وَحْياً الوحي: كلام خفي يدرك بسرعة، أو إلقاء شيء في القلب بإلهام في اليقظة أو في المنام. وهو يشمل المشافة به كما في حديث المعراج، وما وعد به في حديث الرؤية، والمهتوف به كما حدث لموسى عليه السّلام في الطّور وطوى أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ بأن يسمعه كلامه ولا يراه كما وقع لموسى عليه السّلام، فالآية دليل على جواز رؤية الله في الآخرة، لا على امتناعها. أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا أي إلا أن يرسل رسولا ملكا كجبرئيل عليه السّلام. فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ يوحي الرّسول إلى المرسل إليه بأن يكلّمه، بإذن الله، ما يشاء الله. إِنَّهُ عَلِيٌّ عن صفات المخلوقين. حَكِيمٌ يفعل ما تقتضيه حكمته، فيكلّم تارة بوسيط وتارة بغير وسيط، إما عيانا، وإما من وراء حجاب.
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا أي مثل إيحائنا إلى غيرك من الرسل. أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا محمد.
رُوحاً ما أوحى به، وهو القرآن كالرّوح، وسمّي الوحي روحا، لأن القلوب تحيا به. مِنْ أَمْرِنا أي من بعض أمرنا الذي نوحيه إليك. ما كُنْتَ تَدْرِي تعرف قبل الوحي إليك.
مَا الْكِتابُ القرآن. وَلَا الْإِيمانُ ولا حقيقة الإيمان الصحيح المشتمل على الشرائع والأحكام

صفحة رقم 104

الموحى بها. وَلكِنْ جَعَلْناهُ الرّوح أو الكتاب أو الإيمان. لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تدعو بالوحي إليك إلى الإسلام. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وخلقا وعبيدا. أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ترجع الأمور، من غير وسائط، وفيه وعد ووعيد للمطيعين والمجرمين.
سبب النزول: نزول الآية (٥١) :
وَما كانَ لِبَشَرٍ.. سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيّا، كما كلّمه موسى؟ فنزلت، وقال: لم ينظر موسى إلى الله تعالى.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى دلائل كمال قدرته وعلمه وحكمته ونعمته مما هو محسوس، أتبعه ببيان أنواع وحيه وكلامه إلى أنبيائه من النّعم الروحية، التي اختصّ بها الأنبياء والرّسل من سائر الناس. وأوضح أن الوحي إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم بالقرآن المشتمل على الشرائع التي تصلح البشر وتهديهم إلى الحق هو مثل الوحي إلى الأنبياء السابقين. وهذا الختام للسورة مشابه لما بدئت به، لينسجم البدء والختام.
التفسير والبيان:
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً، أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ، أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ، إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ أي ما صحّ لبشر تكليم الله إلا بوحي يوحى، أو بسماع كلام من وراء ستار، أو بواسطة ملك. وقد نفى الله تعالى تكليم أحد من البشر إلا بأحد ثلاثة أوجه تحدث في الدنيا.

صفحة رقم 105

الأول- الوحي: وهو الإلهام والقذف بمعان تلقى في القلب يقظة في الغالب، أو في المنام، كرؤيا إبراهيم الخليل عليه السّلام ذبح ولده. وقد يطلق الوحي على الإلهام المجرد، كما أوحى إلى أم موسى.
الثاني- سماع كلام من وراء حجاب: بأن يسمعه النّبي من غير واسطة متيقنا أنه كلام الله من حيث لا يرى، كما كلّم موسى عليه السلام ربّه، وسمّاه الله وحيا بقوله: فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى [طه ٢٠/ ١٣]. وكان موسى قد سأل الرؤية بعد التكليم، فحجب عنها.
الثالث- إرسال رسول: وهو إرسال رسول من الملائكة إما جبريل أو غيره فيوحي ذلك الملك إلى الرّسول من البشر بأمر الله وتيسيره ما يشاء أن يوحى إليه، كما كان جبرئيل عليه السلام وغيره من الملائكة ينزلون على الأنبياء عليهم السلام.
إن الله عليّ عن صفات المخلوقين وصفات النّقص، يفعل ما تقتضيه حكمته حكيم في كل أحكامه، فيجعل الوحي معتمدا على وسيط، أو بغير وسيط.
وهذه الأنواع الثلاثة يتيقن النّبي في كلّ منها أن الله تبارك وتعالى هو مصدر الوحي، دون أي شكّ، كما
جاء في صحيح ابن حبان عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن روح القدس نفث في روعي «١» أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتّقوا الله، وأجملوا في الطلب».
وقد جاء في السّنّة بيان أنواع الوحي إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم،
روى البخاري في صحيحة عن عائشة رضي الله عنها- كما تقدّم- «أن الحارث بن هشام رضي الله عنه، سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ فقال

(١) الرّوع- بالضّم: القلب والعقل. والرّوع- بالفتح: الفزع.

صفحة رقم 106

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشدّه عليّ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثّل لي الملك رجلا، فيكلمني فأعي ما يقول.
قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإنّ جبينه ليتفصّد عرقا»
أي يسيل عرقا.
ثم ذكر تعالى تشابه الوحي بين النّبي صلّى الله عليه وسلّم وبين الأنبياء السابقين، فقال:
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا أي مثلما أوحينا إلى سائر الأنبياء، أوحينا إليك هذا القرآن، الذي هو من أمر الله، وهو روح، لأنه يهتدى به، ففيه حياة سعيدة بعد موت الكفر، وكان نزوله حدّا فاصلا بين عهدين، استيقظ به العرب والمسلمون من رقدتهم، وصنعوا حضارة سامقة ومجدا.
ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا أي ما كنت أيها النّبي قبل إنزال الوحي عليك تعرف ما القرآن، ولا معنى الإيمان، ولا تفاصيل الشرائع، ولا تهتدي إلى معالمها الصحيحة، وخصّ الإيمان، لأنه رأس الشريعة.
ولكن جعلنا هذا القرآن الذي أوحيناه إليك ضياء ونورا نهدي به من نشاء هدايته، وتخرجه من ظلمات الجهالة والضلال إلى الهداية والمعرفة، ونرشده إلى الدين الحق، كما قال تعالى: قُلْ: هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ [فصّلت ٤١/ ٤٠]، وقال سبحانه: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء ١٧/ ٨٢]، وقال عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ، وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس ١٠/ ٥٧].
وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ

صفحة رقم 107

وَما فِي الْأَرْضِ
أي وإنك يا محمد لتهدي بذلك النوع إلى المنهج السليم، والحق القويم، الذي هو شرع الله الذي أمر به، وطريق الله الذي له ملك السموات والأرض، وربّهما المتصرف فيهما، والحاكم الذي لا معقّب لحكمه. وفي إضافة الصراط إلى اسم الجلالة تعظيم له وتفخيم لشأنه.
أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ أي ألا أيها الخلائق ترجع الأمور كلها يوم القيامة إلى الله تعالى، لا إلى غيره، فيحكم فيها بقضائه العدل. وهذا وعد للمتّقين المهتدين، ووعيد للظالمين الكافرين.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يلي:
١- إن مظاهر الوحي إلى الأنبياء والرّسل منحصرة في ثلاثة أنواع هي:
الأول- الإلهام المباشر والإلقاء في القلب معاني ذات دلالة عامة وصبغة تشريعية، تستقر في النفس.
الثاني- إسماع الله كلامه للنّبي من غير واسطة.
الثالث- إرسال رسول من الملائكة لتبليغ الرسالة، كإرسال جبريل عليه السّلام.
٢- فهم المعتزلة من حصر الوحي بهذه الأنواع أن رؤية الله غير جائزة في الآخرة، إذ لو صحّت رؤية الله تعالى، لصحّ من الله تعالى أن يتكلّم مع العبد حالما يراه العبد، فيكون ذلك قسما رابعا زائدا، وقد نفاه الله تعالى بقوله:
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ.. إلا على هذه الأوجه الثلاثة.
والجواب أن في الآية قيدا: هو ما كان لبشر أن يكلّمه الله في الدنيا إلا على

صفحة رقم 108

هذه الأقسام الثلاثة، وزيادة هذا القيد مفهومة من السياق، ويجب المصير إليها للتوفيق بين هذه الآية وبين الآيات الدالة على حصول الرؤية في يوم القيامة، مثل قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة ٧٥/ ٢٢- ٢٣].
٣- احتجّ بهذه الآية: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا الإمام مالك والنّخعي على أن من حلف ألا يكلّم رجلا، فأرسل إليه رسولا، أنه حانث، لأن المرسل قد سمّي مكلّما للمرسل إليه، إلا أن ينوي الحالف المواجهة بالخطاب. قال ابن عبد البرّ:
ومن حلف ألا يكلّم رجلا فسلّم عليه عامدا أو ساهيا، أو سلّم على جماعة هو فيهم، فقد حنث في ذلك كله عند مالك. وإن أرسل إليه رسولا أو سلّم عليه في الصلاة، لم يحنث.
٤- الصحيح عند أهل الحق أن الملك عند ما يبلّغ الوحي إلى الرسول، لا يقدر الشيطان على إلقاء الباطل في أثناء ذلك الوحي.
والملائكة يقدرون على أن يظهروا أنفسهم على أشكال مختلفة.
ولا يسمى كلام الله مع إبليس من غير واسطة وحيا من الله تعالى إليه.
٥- حقيقة الوحي واحدة بالنسبة لجميع الأنبياء، ومظاهرها وأنواعها متعددة، ذكرت الآية منها هنا ثلاثة فقط.
٦- ظاهر الآية: ما كُنْتَ تَدْرِي.. يدلّ على أنه لم يكن النّبي قبل الإيحاء متّصفا بالإيمان، والصّواب أن الأنبياء معصومون قبل النّبوة من الجهل بالله وصفاته والتّشكك في شيء من ذلك، وقد تعاضدت الأخبار عن الأنبياء بتنزيههم عن هذه النقيصة منذ ولدوا، ونشأتهم على التوحيد والإيمان. وإنما المراد بالإيمان هنا: الشرائع والأحكام المعتمدة على الوحي الإلهي، فقد أطلق الإيمان على الصلاة في قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة ٢/ ١٤٣].

صفحة رقم 109

والآية دليل على أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يكن قبل النّبوة متعبّدا بشرع ما.
وذهبت المعتزلة إلى أنه لا بدّ أن يكون على دين، ولكن عين الدّين غير معلومة عندنا. وهذا وإن كان جائزا عقلا، لكن ليس عليه دليل قاطع.
قال القرطبي: والذي يقطع به أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يكن منسوبا إلى واحد من الأنبياء نسبة تقتضي أن يكون واحدا من أمته، ومخاطبا بكلّ شريعته، بل شريعته مستقبلة بنفسها، مفتتحة من عند الله الحاكم جلّ وعزّ. وأنه صلّى الله عليه وسلّم كان مؤمنا بالله عزّ وجلّ، ولا سجد لصنم، ولا أشرك بالله، ولا زنى، ولا شرب الخمر، ولا شهد السامر «١»، ولا حضر حلف المطيّبين «٢»، بل نزهه الله وصانه عن ذلك «٣».
ولكنه صلّى الله عليه وسلّم حضر حلف الفضول، فقال: «شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت».
٧- لم يكن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قبل البعثة عالما بالقرآن، فهو أميّ لا يقرأ ولا يكتب، ولا بالإيمان، أي شرائع الإيمان ومعالمه، لا أصل الإيمان فإنه صلّى الله عليه وسلّم كان مؤمنا بالله عزّ وجلّ من حين نشأ إلى حين بلوغه، كما تقدّم.
٨- إن القرآن العظيم الذي أوحى الله به إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم هو نور وهداية، يدعو ويرشد إلى دين قويم لا اعوجاج فيه، وهو دين الإسلام. والمقصود بالهداية: الدعوة إلى الدّين الحقّ وإيضاح الأدلّة.

(١) السامر: الموضع الذي يجتمعون فيه للسّمر.
(٢) حلف المطيبين: حدث حينما اجتمع بنو هاشم وبنو زهرة وتيم في دار ابن جدعان في الجاهلية، وجعلوا طيبا في جفنة وغمسوا أيديهم فيه، وتحالفوا على التّناصر والأخذ من المظلوم للظالم، فسمّوا المطيبين.
(٣) تفسير القرطبي: ١٦/ ٥٩.

صفحة رقم 110

والله الذي أنزله له جميع ما في السموات وما في الأرض ملكا وعبدا وخلقا وإليه مصير الخلائق جميعهم. وهذا وعيد بالبعث والجزاء، ووعد بالثواب للمؤمنين الصالحين، وتنبيه إلى أن الذي تجوز عبادته هو الذي يملك السموات والأرض، والغرض منه إبطال قول من يعبد غير الله، والإفادة بأنه تعالى يجازي كلّ إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب.
٩- دلّ قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ على أنه كما أن القرآن يهدي، فكذلك الرسول يهدي، أي يرشد.

صفحة رقم 111

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الزخرف
مكيّة، وهي تسع وثمانون آية.
تسميتها:
سميت (سورة الزخرف) لاشتمالها على وصف بعض مظاهر الحياة الدنيا ومتاعها الفاني وهو الزخرف، أي الذهب أو الزينة المزوقة ومقارنته بنعيم الآخرة الخالد في قوله تعالى:... وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ، وَزُخْرُفاً، وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [٣٤- ٣٥].
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من آل حم من وجهين:
الأول- تشابه مطلع هذه السورة مع مطلع وخاتمة السورة المتقدمة في وصف القرآن الكريم، وبيان مصدره: وهو الوحي الإلهي.
الثاني- التشابه في إيراد الأدلة القاطعة على وجود الله عز وجل ووحدانيته، ووصف أحوال الآخرة ومخاوفها وأهوال النار التي يتعرض لها الكفار، ومقارنته بنعيم الجنة وإعداده للمؤمنين المتقين.
مشتملاتها:
موضوع هذه السورة كسائر السور المكية يتعلق بغرس أصول العقيدة

صفحة رقم 112

الإسلامية في النفوس، وهي: الإيمان بالله عز وجل وحده لا شريك له، والرسالة والنبوة والوحي، والبعث والجزاء.
بدأت السورة ببيان مصدر القرآن العظيم وهو الوحي الإلهي وتأكيد عربيته ومصداقيته، وجعله معجزة الإسلام والنبي صلّى الله عليه وسلّم الخالدة إلى يوم القيامة، وكونه أداة إنذار قريش وقبائل العرب الذين أسرفوا في متع الدنيا، وكذبوا رسولهم كتكذيب من سبقهم من الأمم.
ثم أبانت بنحو قاطع أدلة وجود الله عز وجل وقدرته ووحدانيته من خلق السموات، والأرض وتذليلها وتمهيدها وإيجاد طرقها، وإنزال الغيث النافع عليها، وخلق أصناف (أزواج) الأشياء والفلك (السفن) والأنعام لأهلها، واعتراف المشركين صراحة بأن الخالق هو الله عز وجل.
ولكنهم لوثوا ذلك الاعتراف بالوثنية والخرافة، فعبدوا الأصنام والأوثان، وزعموا أن الملائكة بنات الله، ولم يجدوا مسوغا لتدينهم الفاسد إلا تقليد الآباء والأجداد، فصححت لهم آي القرآن انحرافهم، ونعت جهلهم وسفههم بتلك العبادة الباطلة، والزعم الذي لا دليل عليه، وحذرتهم من إنزال مثل العقاب الذي أهلك به الله أمثالهم من الأمم الغابرة.
وأوردت قصص بعض الأنبياء من أولي العزم كإبراهيم الخليل وموسى وعيسى عليهم السلام ليعتبروا بها ويتعظوا بأحداثها ونتائجها. وأردفت قصة إبراهيم بتفنيد شبهة المشركين حول رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم، حيث اقترحوا إنزالها على أحد رجلين عظيمين من أهل الجاه والثراء في مكة والطائف، لا على يتيم فقير، فرد الله عليهم بأن ميزان الاصطفاء للنبوة هو مقومات أدبية خلقية إنسانية، لا مادية رخيصة، فالدنيا لا تساوي شيئا عند الله تعالى، وأنه خشية أن يكون الناس أمة واحدة على ملة الكفر، لمنحها بجميع زخارفها وأمتعتها الكفار، ومنعها المؤمنين.

صفحة رقم 113
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية