معاندون «فَحُكْمُهُ» أي حكم ما اختلف فيه مفوض «إِلَى اللَّهِ» وحده وهو الذي يحاسبهم عليه ويجازيهم يوم يعاقب فيه المبطلون والظالمون ويثاب فيه المحقون والمهتدون «ذلِكُمُ» الحاكم العدل الذي يقضي بينكم بالحق في ذلك اليوم العصيب هو «اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» ١٠ أرجع في كل ما يهمني كيف لا وهو
«فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وشافيا عن بعضهما، راجع قوله تعالى (كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) الآية ٣١ من سورة الحج في ج ٣ «جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً» قال جل قوله من أنفسكم لأنه خلق حواء من آدم وهي أصل في الزوجات كما قال (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) يريد به آدم، لأنه أصل البشر والمعنى أنه استق حواء من آدم كما استق السماء من الأرض، راجع الآية ٢٧ من سورة الحج وأول آية من النساء في ج ٣ والآية ١٨٩ من الأعراف في ج ١ «وَمِنَ الْأَنْعامِ» خلق لكم «أَزْواجاً» أصنافا راجع الآية ١٤٣ من سورة الأنعام المارة «يَذْرَؤُكُمْ» يخلقكم ويكثركم، لأن ذرّ وذرأ بمعنى كثر وخلق «فِيهِ» أي التزويج المستفاد مما ذكر قبله «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» أبدا فلا يشبه ذاته المقدسة شيء أصلا، ويطلق الشيء على جميع المكونات عرضا كان أو جوهرا، والله تعالى منزه عن ذلك، ولا كاسمه اسم، قال تعالى (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) الآية ٦٦ من سورة مريم في ج ١، والمحال كل المحال أن تكون الذات القديمة مثل المحدثة أو يكون لها صفة حادثة أيضا، وهذا لا يتوقف على تحقيق مثله في الخارج فعلا، بل يكفي تقرير المثل بالقوة فقط لأن ذاته لا يماثلها ذات في الوجود بوجه ما، وكنى بالمثل عن الذات، لأن المماثلة إذا كانت منتفية عمن يكون مثله وعلى صفته، فلأن تكون منتفية عمن يكون كذاته من باب أولى، وتقدم جواز إطلاق الشيء على الله تعالى في الآية ١٩ من سورة الأنعام المارة، وإقامة المثل مقام النفس شائع في كلام العرب، يقولون مثلك لا يبخل، وهو أبلغ من قولهم أنت لا تبخل، لأنه إذا نفي عمن يناسبه كان نفيه عنه أولى، قال القائل:
جلّ المهيمن أن تدرى حقيقته | من لا له مثل لا تضرب له مثلا |
ليس كمثل الفتى زهير | خلق يوازيه في الفضائل |
سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم | ما ان كمثلهم في الناس من أحد |
نسمي الله شيئا لا كالاشيا | وذاتا عن جهات الست خالي |
وإن شأنهم في قدم النبوة أعلى من غيرهم وشهرتهم في الكون أكثر من غيرهم، ولأن جهادهم في استمالة قلوب الكفرة وأهل الزيغ بلغ الغاية القصوى، ولهذا فإن كلّا من الأمم متفقة على نبوتهم وحبهم عدا قسم من اليهود المنكرين نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وتقدم البحث في هذا أيضا في الآية ٥٧ من سورة المؤمن المارة واعلم ممأنه لم يرسل نبي إلا وله شرع أمر بإقامته، وإن الدين عند الله هو دين الإسلام، دين إبراهيم عليه السلام أبي الأنبياء، وخاصة فيما لم يقع فيه اختلاف قط، وهي الأصول الثلاثة: التوحيد والنبوة والمعاد، وتوابع هذه الأصول ثلاثة أيضا: الإيمان بالكتب السماوية وبالقضاء والقدر والطاعة للرسل.
«وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» لأن إقامته مع الاختلاف تؤدي إلى التفرقة وهي مذمومة في غير أمر الدّين فكيف به، هذا أمر الله عباده بإقامة الدين والاجتماع عليه، وتقدم بحث هذا أيضا في الآية ١٥٩ من سورة الأنعام المارة فراجعها. وأعلم أن ليس المراد من إقامة الدين هنا الشرائع الأخرى، لقوله تعالى (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) الآية ٤٨ من سورة المائدة، لذلك فإن ما يعود المرسل الأول يكون بمقتضى شرائعهم، وما يعود لنبينا محمد وأمته يكون بحسب ما أنزل الله عليه وشرعه على لسانه لأن شريعته ناسخة لما قبلها وباقية إلى الأبد وصالحة لكل زمان، ولهذا ختم بها جميع الشرائع كما ختم بصاحبها باب النبوة، إذ بلغت الكمال اللائق، ولا يصلح الكون إلا بتطبيقها، فعلى أولي الأمر السهر عليها والعمل بها ليتم لهم الأمر ويستتب الأمن، قال تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) الآية ٣ من سورة المائدة في ج ٣، وقال تعالى (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) الآية ٨٥ من آل عمران في ج ٣، فيا أيها الناس أرضوا بما رضيه الله لكم، واعملوا به، لأن العمل بغيره لا يقبله الله وتكون عاقبته الخسران «كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ» من رفض عبادة الأوثان ولم يعظم عليهم رفض عبادة الرحمن، لهذا فإنهم ليسوا بأهل لأن يختارهم الله لإقامة دينه «اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ» من عباده الصالحين لذلك الدين القويم «وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ
يُنِيبُ»
١٣ لجنابه ويرجعه عن خطأه لصوابه. ونظير صدر هذه الآية في المعنى الآية ١٦٣ من النساء في ج ٣، قال تعالى «وَما تَفَرَّقُوا» أي الأمم السابقة من أهل الكتابين خاصة فمن قبلهم عامة عن الدين القويم والشرع الصحيح «إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ» بصحته من قبل الله على لسان رسلهم وكان ذلك التفريق «بَغْياً بَيْنَهُمْ» على أنبيائهم وحسدا لهم ببقاء الرياسة ليس إلا «وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ» يا سيد الرسل بتأخير عذابهم «إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» عنده لا ينقدم ولا ينأخر لأنه من الأمور المقضية المبرمة في الأزل «لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» بتعجيل العقوبة وإنزال العذاب بسبب اختلافهم في الدين وتفريقه «وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ» من أبنائهم وأحفادهم «لَفِي شَكٍّ مِنْهُ» أي الكتاب تقليدا لما كان عليه آباؤهم وأجدادهم، ثم وصف ذلك الشك بأنه «مُرِيبٍ» ١٤ مبالغة فيه لأن الريب قلق النفس واضطرابها ويسمى الشك مريبا لأنه يزبل الطمأنينة «فَلِذلِكَ» لأجل تفرقهم وبغيهم على رسلهم وشكهم في كتبهم المنوهة بك وبنبوتك وصدق ما جئنهم به من ربك، ولأجل ما شرع لهم من الدين المستقيم الجدير بأن يتنافس فيه المتنافسون «فَادْعُ» إلى الائتلاف والتوحيد اللذين وصى بهما الأنبياء قبلك وإلى الاتفاق على الملة الحنيفية.
مطلب في الاستقامة والمراد بالميزان وآل البيت وعدم أخذ الأجرة على تعليم الدين:
«وَاسْتَقِمْ» عليها أنت وأمنك، وأدم الدعوة إليها «كَما أُمِرْتَ» من قبلنا «وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ» الباطلة المختلفة وآراءهم الفاسدة «وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ» أي بجميع الكتب المنزلة من عند الله، لأن النكرة إذا أطلقت عمت، فتشمل كل كتاب أنزله الله من لدن آدم إلى زمنه، وقدمنا ما يتعلق في بحث الاستقامة على الدين في الآيتين ١١٢/ ١١٩ من سورة هود المارة بصورة مفصلة فراجعهما. واعلم أن في هذه الآية تعريضا بالكافرين وبعض أهل الكتاب الذين يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض من الكتب السالفة والآيات القرآنية، ولهذا قال تعالى على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلم «وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ» فيما أمرني فيه ربي من الأحكام المنزلة عليّ من لدنه فلا أخص بعضا دون بعض،
وأبلغ شريعته جميع خلقه الذين أراهم بنفسي، وبالواسطة لمن لم أرهم، وأعدل بينكم في الخصومات إذا تحاكمتم لدي، فلا أجور ولا أحيف على أحد، ولا أخاصم أحدا إلا بالحق ولأجل الحق، لأن الذي أدعوكم إليه هو «اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ» ورب الخلق أجمع فكما لا يختص به واحد دون آخر لا يرضى أن يتميز أحد على أحد بدون الحق، فهذه خطتي التي أمرت بها يا قوم، فإن لم تقبلوا فتكون «لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ» لا تسألون عما أعمل ولا نسأل مما تعملون.
وهذه الجملة على حد قوله تعالى (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) الآية الأخيرة من سورة الكافرون في ج ١، وعلي حد قوله (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الآية ٢٤ من سورة سبأ المارة، وإذ ظهر الحق الصريح فأقول لكم «لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ» ولا خصومة ولا محاججة وجاءت هنا الحجة بمعنى الاحتجاج وهي الأصل «اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا» فيجازي كلا على عمله «وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ» ١٥ في الخصومات والمحاججات، ولا وجه لقول من قال بنسخ هذه الآية بآية السيف من المفسرين إذ ليس فيها ما يدل على المتاركة وإقرار الكفار على ما هم عليه من الكفر وإنما هي من باب التعريض راجع الآية ٢٥ من سورة سبأ المارة تجد مثل هذا.
قال تعالى «وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ» ويخاصمون في دينه «مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ» بعد استجابة الناس لدينه ودخولهم فيه فهولاء «حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ.» باطلة زائلة مهجورة غير مقبولة «عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ» ١٦ في الآخرة، وهذه الآية عامة في كل من هذا شأنه من الناس أجمع، وما قيل إنها نزلت في كفار بدر بعد أن استجاب الله تعالى دعاء حضرة الرسول بظفره عليهم قول لا دليل لقائله عليه، لأن هذه الآية مكية بالاتفاق وواقعة بدر بعد الهجرة وهو لم يهاجر بعد وكذلك القول بحمل الاستجابة على استجابة أهل الكتاب لا يتجه لأن أهل الكتاب لم يباحثهم حضرة الرسول إلا في المدينة ولم يجب دعوته أحد منهم إلا فيها، لذلك فحمل الاستجابة على من أجابه لدين الحق وهو في مكة من أهل مكة، والمحاججون هم روساء الكفر أولى وأنسب في المقام. قال تعالى «اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ» مفصلا فيه الدلائل
والأحكام ليجري عليه الناس «وَالْمِيزانَ» آلة العدل، لأن المراد به والله أعلم نفس العدل والإنصاف والتسوية بين الناس، أنزله أيضا وأمر خلقه فيه ليتحلوا به فيستقيم أمرهم ويعدلوا فيما بينهم. راجع رسالة القسطاس المستقيم للإمام الغزالي رحمه الله تجد أن المراد بالميزان ما ذكرته، لأنه يقول في قوله تعالى (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ) الآية ٧ من سورة الرحمن في ج ٣، إن هذا الميزان الذي قابله الله بالسماء لا يتصور أنه الذي يزن به الناس الخس والبصل مثلا، بل إنما هو العدل الذي به قوام الدنيا والآخرة إلخ، ما جاء فيها. «وَما يُدْرِيكَ» يا سيد الرسل «لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ» ١٧ حدوثها ولعلّها مظلّة عليك ولا تراها، فعليك أن تأمر الناس باتباع الكتاب وإجراء العدل بينهم قبل أن يفاجئهم الأجل وقبل حلول يوم وزن العمل الذي يظهر فيه الرابح في هذه الدنيا من الخاصر.
واعلم انما «يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها» استعجال إنكار واستهزاء فيقولون لك لما تخوفهم بها متى هي، ليتها تأتي الآن حتى يظهر لنا الذي نحن عليه حق أم أنت وأصحابك. وذلك لجهلهم بها وبعظمة الله «وَالَّذِينَ آمَنُوا» بها وصدقوا بوجودها «مُشْفِقُونَ» خائفون وجلون «مِنْها» لعلمهم بحقيقتها وحقيقة ما فيها من الأهوال «وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ» الكائن لا محالة فانتبهوا أيها؟؟؟
«أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ» يجادلون «فِي السَّاعَةِ» ويخاصمون بوجودها جهلا ويشكون بحقيقتها «لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ» ١٨ عن الصواب، لأن البعث بعد الموت أقرب الغائبات بالمحسوسات، لأنه يعلم من إحياء الأرض بعد موتها وغيره من الأدلة العقلية فضلا عن السمعية «اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ» كثير الإحسان إليهم جليل النعم عليهم بالغ البرّ بهم «يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ» من كل نام بحسبه وبقدر ما يكفيه «وَهُوَ الْقَوِيُّ» باهر القوة على كل شيء «الْعَزِيزُ» ١٩ الغالب على كل شيء المنيع الذي لا يدافع ولا يرافع «مَنْ كانَ» منكم أيها الناس «يُرِيدُ» بأعماله وكسبه «حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ» من واحد إلى عشرة إلى سبعمئة إلى ما لا نهاية والله كثير الخير جليل العطاء واسع الفضل «وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا» مؤثرا لها على الآخرة فإنا أيضا «نُؤْتِهِ