
وقوله: (لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ).
قوله: (دَارُ الْخُلْدِ)، أي: دار البقاء يبقون فيها أبدًا، فيكون اسمًا للجنة، ويحتمل أن يكون في الجنة دار أو موضع يسمى: دار الخلد فيكون اسم موضع خاص، واللَّه أعلم.
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩)
قَالَ بَعْضُهُمْ: الذي أضلهم من الجن هو إبليس؛ لأنه أول من عصى اللَّه تعالى وسن لهم ذلك، ومن الإنس ولد آدم الذي قتل أخاه؛ لأنه أول من سن القتل، ولكن عندنا أنهم سألوا أن يريهم الذي أضلهم كل جني يوسوس ويقذف في قلوبهم الوساوس والمساوي، وكل إنسي يدعوهم ظاهرًا إلى الضلال، وهكذا كل ضال وكافر إنما كان ذلك الضلال والكفر لوساوس من جني أو تلقين من إنسي بلسانه. سألوا اللَّه تعالى أن يجعلهم ظاهرين فيجعلوهم تحت أقدامهم؛ لما يكون العذاب في كل ما كان أسفل أشد؛ لذلك سألوا ذلك وهو ما سألوا ربهم زيادة العذاب لهم في آية أخرى حيث قال: (قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ).
* * *
وقوله: (فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ)، فعلى ذلك سؤال هَؤُلَاءِ.
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا).
روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما نزلت هذه الآية قال: " أمتي أمتي؛ لأن اليهود قالوا: ربنا اللَّه، ثم قالوا؛ عزير ابن اللَّه، وأن النصارى قالوا: ربنا اللَّه، ثم قالوا: المسيح ابن اللَّه، وأن أمتي قالوا: ربنا اللَّه، ولم يشركوا به أحدًا "، وكذلك روي عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) قال: " هم الذين لم يشركوا باللَّه شيئًا " فإن ثبت ذلك عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فهو تفسير الاستقامة التي ذكر، واللَّه أعلم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي قالوا ربنا اللَّه، ثم استقاموا في إخلاص العمل له والقيام بذلك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ثم استقاموا على أداء الفرائض والشرائع والحدود.
وقيل: ثم استقاموا في الطاعات له.
والاستقامة وجوه ثلاثة:
أحدها: في الاعتقاد، اعتقدوا ألا يعصوه ويجتنبوا جميع ما يخالف أمره ونهيه.
والثاني: استقاموا في اجتناب جميع ما يخالف ما أعطوا بلسانهم: أنه ربنا اللَّه، وقاموا بوفاء ما أعطوا بلسانهم قولا وفعلا.
والثالث: قاموا في جميع الأعمال مخلصين لله تعالى لم يشركوا فيها أحدًا لأحد فيها نصيبًا من المراءاة غيرها، بل خالصًا لله تعالى سالمًا، واللَّه أعلم بما أراد بذلك.
وقوله: (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا):
اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك عند قبضهم الأرواح في الدنيا يبشر لهم بما ذكر.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: تقول لهم الملائكة يوم القيامة عند معاينتهم الأهوال والأفزاع؛ ليسكن بذلك قلوبهم عند تلك الأهوال والشدائد، واللَّه أعلم.
ثم اختلف في قوله: (أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا) أي: لا تخافوا ما أمامكم ولا تحزنوا على ما خلفتم من الأهل والأولاد.
وقيل: لا تخافوا ما تقدمون عليه من الموت وأمر الآخرة، ولا تحزنوا على ما خلفتم من أهل أو دين.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا تخافوا من العذاب ولا تحزنوا على فوت ما وعدتم من النعيم؛ فإنها دائمة لا يفوت ولا ينقطع أبدًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ):