آيات من القرآن الكريم

وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ
ﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹ ﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ

كيفية عقوبة الكفار في الآخرة
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ١٩ الى ٢٥]
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣)
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥)
الإعراب:
وَيَوْمَ يُحْشَرُ.. يَوْمَ: منصوب بفعل دل عليه. يُوزَعُونَ وتقديره: يساق الناس يوم يحشر، أو منصوب بتقدير: اذكر.
وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أن وصلتها: في موضع نصب، بتقدير حذف حرف الجر، وتقديره: وما كنتم تستترون عن أن يشهد عليكم، فحذف «عن» فاتصل الفعل به.
وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ ذلِكُمْ: مبتدأ، وظَنُّكُمُ: خبره، وأَرْداكُمْ: خبر ثان.

صفحة رقم 208

البلاغة:
ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أي واذكر حين يجمع، فعل مبني للمجهول أو للفاعل وهو الله تعالى، وقرئ: (نحشر أعداء). يُوزَعُونَ يساقون بعد أن يحبس أولهم ليلحق آخرهم لئلا يتفرقوا، من وزعته: كففته، والمراد: كثرة أهل النار. حَتَّى إِذا ما حَتَّى غاية لقوله:
يُوزَعُونَ وما صلة زائدة لتأكيد ارتباط المجيء بشهادة الأعضاء، واتصال الشهادة بالحضور. شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ بأن ينطقها الله فعلا، أو تظهر عليها آثار تدل على ما اقترف بها، فتنطق بلسان الحال.
وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ: لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا؟ سؤال توبيخ أو تعجب، والجلود: الجلود المعروفة، وقيل: هي الجوارح أو الفروج. قالُوا: أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ أي ما نطقنا باختيارنا، بل أنطقنا الله الذي أراد نطق كل شيء، ولو كان النطق مؤوّلا بدلالة الحال، بقي الشيء عاما في الموجودات الممكنة. وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يحتمل أن يكون من تمام كلام الجلود، وأن يكون استئنافا من كلام الله تعالى، كالذي بعده. والمعنى: إن القادر على إنشائكم ابتداء، وإعادتكم بعد الموت أحياء، قادر على إنطاق جلودكم وأعضائكم.
وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ.. أي ما كنتم تتسترون وتستخفون عند ارتكاب الفواحش من أن تشهد عليكم أعضاؤكم، وما ظننتم أن أعضاءكم تشهد عليكم، لأنكم لم توقنوا بالبعث. وفيه تنبيه على أن المؤمن ينبغي أن يشعر في كل حال بوجود رقيب عليه. وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ ظننتم ألا يعلم الله بكم، فلذلك اجترأتم على المعاصي.
ذلِكُمْ إشارة إلى ظنهم هذا. أَرْداكُمْ أهلككم. فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ إذ جعلتم ما هو سبب للسعادة سببا للشقاوة.
فَإِنْ يَصْبِرُوا على العذاب. فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ مأوى. وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا يطلبوا العتبى، أي الرضا. فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ المرضيين المجابين إلى ما يطلبون، أي المقبولين عتابهم، يقال: استعتبته فأعتبني، أي استرضيته فأرضاني، وأعتبني فلان: إذا عاد إلى مسرتي راجعا عن الإساءة. وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ هيأنا لهم ويسرنا شياطين الإنس والجن، يستولون عليهم.
فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من أمر الدنيا واتباع الشهوات. وَما خَلْفَهُمْ من أمر الآخرة، بقولهم: لا بعث ولا حساب. وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ثبت ووجب عليهم القول بالعذاب، وهو:
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ.. الآية [هود ١١/ ١١٩] وهو القضاء المحتم. فِي أُمَمٍ في جملة أمم. قَدْ

صفحة رقم 209

خَلَتْ
هلكت. مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وهم الذين عملوا مثل عملهم. إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ تعليل لاستحقاقهم العذاب.
سبب النزول: نزول الآية (٢٢) :
وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ: أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «كنت مستترا بأستار الكعبة، فجاء ثلاثة نفر:
قرشيّ وختناه «١»
ثقفيّان- أو ثقفيّ وختناه قرشيان- كثير شحم بطونهم، قليل فقه قلوبهم، فتكلموا بكلام لم أسمعه، فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع كلامنا هذا؟ فقال الآخر: إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه، وإذا لم نرفعه لم يسمعه، فقال الآخر: إن سمع منه شيئا سمعه كلّه- قال-: فذكرت ذلك للنبي ص، فأنزل الله عز وجل: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ إلى قوله: مِنَ الْخاسِرِينَ.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى كيفية عقوبة أولئك الكفار الجاحدين في الدنيا، أردفه ببيان كيفية عقوبتهم في الآخرة، ليكون ذلك أتم في الزجر والتحذير. ثم ذكر تعالى بقوله: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ.. سبب بقائهم في الكفر. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز أن يقيض لهم القرناء من الشياطين وهو ينهاهم عن اتباع خطواتهم؟ قلت: معناه: أنه خذلهم ومنعهم التوفيق لتصميمهم على الكفر، فلم يبق لهم قرناء سوى الشياطين، والدليل عليه: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً، فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف ٤٣/ ٣٦] «٢».

(١) الختن: الصهر، والثقفي: عبد ياليل، وختناه: ربيعة وصفوان بن أمية.
(٢) الكشاف: ٣/ ٧٠

صفحة رقم 210

التفسير والبيان:
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ، فَهُمْ يُوزَعُونَ أي واذكر أيها الرسول لقومك قريش حال الكفار يوم القيامة ليرتدعوا وينزجروا حين يساقون جميعا إلى النار بعنف، بعد إيقاف أولهم ليلحق بهم آخرهم كيلا يتفرقوا، وليتلاحقوا ويجتمعوا، فتجمع الزبانية أولهم على آخرهم، كما قال تعالى: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً [مريم ١٩/ ٨٦].
وأعداء الله تعالى: كل من كذب رسله واستكبر عن عبادته. وفي الآية إشارة إلى جموع الكفار وكثرتهم وإهانتهم في سوقهم.
حَتَّى إِذا ما جاؤُها، شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي يوزعون إلى أن يصلوا إلى النار ويقفوا عليها، فيسألون عما أجرموا، فإذا أنكروا تشهد عليهم جوارحهم بما اقترفت من الشرك والمعاصي وما عملوا في الدنيا، بأن ينطقها الله بما كتمت الألسن كما أنطق الشجرة، بأن يخلق فيها كلاما، والجلود: هي جلودهم المعروفة، وقيل: المراد بالجلود: الجوارح (الأعضاء) وشهادة الجلود: بالملامسة للحرام وما أشبه ذلك مما يفضي إليها من المحرّمات. واقتصر من الحواس الخمس على ثلاث منها وهي السمع والبصر واللمس، فإن آلة اللمس: هي الجلد، باعتبارها وسائل قوية للعصيان. أما الذوق فهو داخل في اللمس، وأما الشم فهو حسّ ضعيف في الإنسان، وليس لله فيه تكليف ولا أمر ولا نهي. وقوله سَمْعُهُمْ مفرد مضاف فيعم، ويصبح نظير جمع الأبصار والجلود.
فيحدث التعجب من الإنسان، كما حكى تعالى:
وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ: لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا: أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ أي يقول هؤلاء على جهة اللوم والمؤاخذة لأعضائهم وجلودهم حين شهدوا

صفحة رقم 211

عليهم: لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا؟ فتجيبهم الأعضاء معتذرين: لقد أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء من مخلوقاته، فإنه كما أنطق الألسن في الدنيا، فكذلك أنطقنا في الآخرة، فشهدنا عليكم بما عملتم من القبائح، كما قال تعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ، وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ، وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [يس ٣٦/ ٦٥].
وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي من قدر على خلقكم وإنشائكم في ابتداء الأمر، قدر على إعادتكم ورجوعكم إليه، فإليه المصير بعد الموت، فيحاسب ويجازي كل نفس بما كسبت. وهذا إما تتمة كلام الجلود، أو من كلام الله تعالى.
أخرج مسلم في صحيحة والبزار وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كنا عند رسول الله ص، فضحك، فقال: هل تدرون ممّا أضحك؟
قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه، يقول- أي العبد لربه-: ألم تجرني من الظلم «١»
؟ قال: يقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني، قال: يقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، وبالكرام الكاتبين شهودا، قال: فيختم على فيه (فمه) فيقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله، قال: ثم يخلّى بينه وبين الكلام، قال: فيقول: بعدا لكنّ وسحقا، فعنكنّ كنت أناضل».
وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ هذا إما من كلام الجلود أو من كلام الله سبحانه كسابقه أو من كلام الملائكة، أي ما كنتم تتسترون وتستخفون حين فعل الأعمال القبيحة ومباشرتكم الفواحش، حذرا أو مخافة من شهادة الجوارح عليكم، بل كنتم تجاهرون بالكفر والمعاصي.

(١) هذه رواية مسلم،
ورواية البزار: «يقول: أي ربي، أليس وعدتني ألا تظلمني» ؟.

صفحة رقم 212

ولما كان الإنسان لا يقدر على أن يستخفي من جوارحه عند مباشرة المعصية، كان معنى الاستخفاء هنا ترك المعصية، خوفا من هذه الشهادة.
وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ أي ولكنكم ظننتم ظنا مخطئا أن الله حال ارتكابكم المعاصي لا يعلم كثيرا مما تعملون من المعاصي، فاجترأتم على فعلها.
وفي الآية إيماء إلى أنه ينبغي للمؤمن أن يفكر دائما بوجود رقيب عليه.
وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ، فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ أي إن ظنكم بأن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون، وهو ظن فاسد، جرّأكم على المعصية، فتسارعتم فيها، وذلك أهلككم وطرحكم في النار، فصرتم من الخاسرين، إذ جعلتم ما هو سبب للسعادة سببا للشقاوة.
أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:
قال رسول الله ص: «لا يموتن أحد منكم إلا وهو يحسن بالله الظن، فإن قوما قد أرداهم سوء ظنهم بالله، فقال الله تعالى: وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ.
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ، وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ أي فإن يصبروا لم ينفعهم الصبر، أو لم يصبروا، هم في النار، لا محيد لهم عنها، ولا خروج لهم منها، فهي مأواهم ومحل استقرارهم، وإن طلبوا أن يستعتبوا ويبدوا أعذارا عن ذنوبهم، فما لهم أعذار، ولا يقبل منهم الاعتذار والاسترضاء، لأنهم فارقوا الدنيا التي هي دار العمل والتكليف،
قال عليه الصلاة والسلام فيما ذكره ابن الأثير وغيره عن ابن عباس: «ولا بعد الموت من مستعتب»

أي ليس بعد الموت من معذرة أو استرضاء، لأن الآخرة دار جزاء، لا دار عمل.
ثم أبان الله تعالى سبب بقائهم في الكفر، فقال:

صفحة رقم 213

وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ، فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي وسلّطنا عليهم قرناء من شياطين الإنس والجن، فحسّنوا لهم أعمالهم في الماضي والمستقبل، وزيّنوا لهم ما بين أيديهم من أمور الدنيا وشهواتها، وأغروهم بالمعاصي، وزينوا لهم ما خلفهم من أمور الآخرة، فقالوا: لا بعث ولا حساب، ولا جنة ولا نار، فلم يروا أنفسهم إلا محسنين، كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ، نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ. وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف ٤٣/ ٣٦- ٣٧].
وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ أي وثبت لهم العذاب في جملة أمم كافرة مضت على الكفر قبلهم، فعلوا كفعلهم من الجن والإنس، فوجب لهم العذاب نفسه، وإنهم كانوا وإياهم متساوين في الخسارة والدمار، بتكذيبهم وسوء أفعالهم، ولم يربحوا شيئا.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى الأحكام التالية:
١- يجمع الكافرون جمعا واحدا يوم القيامة، فيحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا، ثم يساقون ويدفعون جميعا إلى جهنم.
٢- إذا جاؤوا إلى النار شهدت عليهم جوارحهم وأسماعهم وأبصارهم وجلودهم، وهي الجلود المعروفة بأعيانها في قول أكثر المفسرين. وكيفية الشهادة: أنه تعالى يخلق الفهم والقدرة والنطق فيها، فتشهد كما يشهد الرجل على ما يعرفه، وهذا هو الظاهر المناسب للآية بعدها، وقيل: أن يظهر على تلك الأعضاء أمارات وأحوال تدل على صدور تلك الأعمال من الإنسان.
٣- يتعجب الكفار من شهادة أعضائهم عليهم، فيسألونهم: لم شهدتم علينا، وإنما كنا نجادل عنكم؟ فيجيبون: أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء،

صفحة رقم 214

فالذي قدر على إحيائكم في المرة الأولى في الدنيا ثم إعادتكم أحياء في الآخرة، قادر على أن ينطق الجلود وغيرها من الأعضاء.
٤- يجيبون أيضا: ما كنتم تستخفون من أنفسكم، حذرا من شهادة الجوارح عليكم، لأن الإنسان لا يمكنه أن يخفي من نفسه عمله، فيكون الاستخفاء بمعنى ترك المعصية.
ولقد ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا من أعمالكم، فجادلتم على ذلك، حتى شهدت عليكم جوارحكم بأعمالكم. وكما تكون الشهادة بالشر والسوء تكون بالخير.
ذكر أبو نعيم الحافظ عن معقل بن يسار عن النبي ص قال: «ليس من يوم يأتي على ابن آدم إلا ينادى فيه: يا ابن آدم، أنا خلق جديد، وأنا فيما تعمل غدا عليك شهيد، فاعمل فيّ خيرا أشهد لك به غدا، فإني لو قد مضيت لم ترني أبدا، ويقول الليل مثل ذلك».
٥- وإن ظنكم أن الله لا يعلم كثيرا من أعمالكم هو الذي أهلككم، فأرداكم النار، قال قتادة: «الظن هنا بمعنى العلم» والظن هنا قبيح فاسد. والظن الفاسد: هو أن يظن بالله تعالى أنه يعزب عن علمه بعض هذه الأحوال.
وقال قتادة أيضا: الظن نوعان: ظن منج وظن مرد، فالمنجي: قوله:
إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ [الحاقة ٦٩/ ٢٠] وقوله: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [البقرة ٢/ ٤٦]. وأما الظن المردي: فهو قوله: وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ.
وقال العلماء: الظن قسمان:
أ- حسن: وهو أن يظن بالله عز وجل الرحمة والفضل والإحسان، قال الله تعالى في الحديث القدسي فيما أخرجه مسلم والحاكم عن أنس: «أنا عند ظن عبدي بي».

صفحة رقم 215

ب- قبيح: وهو أن يظن أن الله لا يعلم بعض الأفعال.
وقال الحسن البصري: إن قوما ألهتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا وما لهم حسنة، ويقول أحدهم: إني أحسن الظن بربي، وقد كذب، ولو أحسن الظن لأحسن العمل، وتلا قول الله: وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ، فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ.
٦- سواء صبر الكفار على العذاب أم لم يصبروا، فالنار مثواهم ومأواهم ومستقرّهم، وإن أرادوا الاعتذار عن كفرهم واسترضاء ربهم، لم يجابوا إلى طلبهم.
٧- سلّط الله على الكفار قرناء من الجن والشياطين، ومن الإنس أيضا، فحسّنوا وزينوا لهم ما بين أيديهم من أمر الدنيا حتى آثروها على الآخرة، وزينوا وحسنوا لهم ما بعد مماتهم، ودعوهم إلى التكذيب بأمور الآخرة، ووجب عليهم من العذاب ما وجب على الأمم الذين من قبلهم الذين كفروا ككفرهم، وخسروا أعمالهم في الدنيا وأنفسهم وأهليهم يوم القيامة.
وهذا يدل على أن الله تعالى يريد الكفر من الكافر، لكن لم يأمره به ولم يرضه له، وحذره منه ومن الإصرار عليه. والإرادة للدلالة على أنه لا يقع شيء في الكون من دون إرادة الله، وإلا كان وقوع الشيء قهرا وعجزا، والله لا يقهر ولا يغلب.

صفحة رقم 216
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية