آيات من القرآن الكريم

مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ
ﭧﭨﭩﭪﭫﭬ ﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋ ﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ

مصدر تنزيل القرآن وحال المجادلين في آياته
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦)
الإعراب:
حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ قال الرازي: الأقرب ها هنا أن يقال حم اسم للسورة، فقوله حم مبتدأ، وقوله: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ خبر، والتقدير: إن هذه السورة المسماة بحم تنزيل الكتاب، فقول: تَنْزِيلُ مصدر، لكن المراد منه: المنزل.
ويرى القرطبي وغيره أن تَنْزِيلُ الْكِتابِ مبتدأ، والخبر مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.
ويجوز أن يكون تَنْزِيلُ خبرا لمبتدأ محذوف، أي هذا تَنْزِيلُ الْكِتابِ ويجوز أن يكون حم مبتدأ، وتَنْزِيلُ خبره، كما قال الرازي، والمعنى: إن القرآن أنزله الله وليس منقولا، ولا مما يجوز أن يكذّب به. وغافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ إما نعتان أو بدلان، ويجوز النصب على الحال. وأما شَدِيدِ الْعِقابِ فهو نكرة ويكون خفضه على البدل.
وحم: قرئ بالسكون، وهو المشهور على الأصل في الحروف المقطعة، وقرئ «حاميم»

صفحة رقم 71

بفتح الميم، والفتح إما لالتقاء الساكنين، لأنه أخف الحركات، أو أن يكون فتح الميم علامة النصب بتقدير فعل، أي اتل حم.
أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ بدل من كَلِمَةُ رَبِّكَ بدل الكل من اللفظ أو الاشتمال من المعنى.
البلاغة:
الذَّنْبِ والتَّوْبِ بينهما طباق.
ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وارد بصيغة الحصر.
المفردات اللغوية:
حم تقرأ هكذا: حاميم بالسكون، أو بالفتح حاميم، وهذه الحروف المقطعة المبدوء بها بعض السور للتنبيه على إعجاز القران وتحدي العرب أن يأتوا بمثله، وللدلالة على أن هذا القرآن المعجز منظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية التي تتركب منها الكلمات والجمل العربية.
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ القوي في ملكه، العليم بخلقه، قال البيضاوي: لعل تخصيص الوصفين لما في القرآن من الإعجاز والحكم، الدال على القدرة الكاملة والحكمة البالغة. غافِرِ الذَّنْبِ للمؤمنين التائبين. وَقابِلِ التَّوْبِ يقبل منهم التوبة فضلا منه ورحمة. شَدِيدِ الْعِقابِ للكافرين. ذِي الطَّوْلِ صاحب الفضل والإنعام على عباده، وذو الغنى والسعة أيضا، وإيراد هذه الصفات للترغيب والترهيب والحثّ على الإيمان. الْمَصِيرُ المرجع، فيجازي المطيع والعاصي.
ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ القرآن. إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا من مشركي مكة وأمثالهم، فيه تسجيل صفة الكفر على المجادلين في القرآن بالباطل والطعن فيه لإدحاض الحق. فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ لا تغترّ بإمهالهم وإقبالهم في دنياهم وتقلبهم في بلاد الشام واليمن بالتجارات الرابحة بقصد المعاش، فإن عاقبتهم النار والهلاك. والتقلب في البلاد: التصرف والتنقل.
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ كذبت قوم نوح بالرسل وعادوهم، وكذلك كذبت الأحزاب (الجماعات) من بعدهم كعاد وثمود وغيرهما. وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ من هؤلاء هَمَّتْ عزمت. لِيَأْخُذُوهُ ليتمكنوا منه بما أرادوا من تعذيب وقتل، فيحبسوه ويأسروه ويعذبوه ويقتلوه. بِالْباطِلِ بما لا حقيقة له. لِيُدْحِضُوا يزيلوا به الحق. فَأَخَذْتُهُمْ بالإهلاك والعقاب. فَكَيْفَ كانَ عِقابِ أي عقابي لهم، بأن وقع موقعه.
حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ وجبت كلمته أي حكمه بالهلاك وقضاؤه بالعذاب. عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا لكفرهم. أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ أي وتلك الكلمة هي أنهم مستحقون للنار.

صفحة رقم 72

سبب النزول: نزول الآية (٤) :
ما يُجادِلُ..: أخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله تعالى:
ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا قال: نزلت في الحارث بن قيس السهمي.
التفسير والبيان:
موضوع هذه الآيات بيان مصدر نزول القرآن: وهو أنه من عند الله، الذي وصف نفسه بصفات ست، ثم مناقشة الكفار الذين جادلوا في آيات الله بالباطل أي بقصد الطعن فيها وإدحاض الحق، فاستحقوا التهديد بعذاب الله وهو أنهم في النار.
حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ حم: من الحروف المقطعة في فواتح السور، للتنبيه على مضمون السورة وعلى إعجاز القرآن المكون نظمه من حروف اللغة العربية التي ينطق بها العرب وينظمون بها الأشعار ويدبّجون بها الخطب الرنانة، ومع ذلك لا يستطيعون معارضته، لأنه كلام الله تعالى.
والقرآن المتلو بين الناس على الملأ منزّل من عند الله، ليس بكذب عليه، والله الذي أنزله هو العزيز أي الغالب القوي القادر القاهر، والعليم أي البالغ العلم التام بخلقه وما يقولونه ويفعلونه، الذي يعلم السر وأخفى.
ثم وصف الله نفسه بستة أنواع من الصفات الجامعة بين الوعد والوعيد والترغيب والترهيب، فقال:
غافِرِ الذَّنْبِ، وَقابِلِ التَّوْبِ، شَدِيدِ الْعِقابِ، ذِي الطَّوْلِ،

صفحة رقم 73

لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، إِلَيْهِ الْمَصِيرُ
أي إن الله منزل القرآن هو غافر الذنب الذي سلف لأوليائه، سواء أكان صغيرة أم كبيرة بعد التوبة أو قبل التوبة بمشيئته، وقابل توبتهم المخلصة، وشديد العقاب لأعدائه، وذو التفضل والإنعام والسعة والغنى، ينعم بمحض إحسانه تعالى، وهو الإله الواحد الذي لا شريك له ولا ندّ ولا صاحبة ولا ولد، وإليه المرجع والمآب في اليوم الآخر، لا إلى غيره.
ثم ذكر تعالى أحوال المجادلين في القرآن بقصد إبطاله وإطفاء نوره، فقال:
ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا، فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ أي ما يخاصم في دفع آيات الله وتكذيبها إلا الذين كفروا، فهم يجادلون بالباطل بقصد دحض الحق، كوصفهم القرآن بأنه شعر أو سحر أو أساطير الأولين، فلا تغترّ أيها النبي وكل مؤمن بشيء من رفاهية الدنيا التي تراهم فيها، كالتجارة في البلاد، وتحقيق الأرباح، وجمع الأموال، فإنهم معاقبون عما قليل، وعاقبتهم في النهاية الدمار والهلاك، وهذا تسلية للنبي ص، كما قال تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ، مَتاعٌ قَلِيلٌ، ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ، وَبِئْسَ الْمِهادُ [آل عمران ٣/ ١٩٦- ١٩٧]، وقال سبحانه: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [لقمان ٣١/ ٢٤].
ويلاحظ أن الجدال نوعان: جدال في تقرير الحق، وجدال في تقرير الباطل، أما الجدال بالحق لبيان غوامض الأمور والوصول إلى فهم الحقائق: فهو جائز مشروع، اتخذه الأنبياء أسلوبا في دعوتهم إلى الدين الحق، قال تعالى حكاية عن قوم نوح عليه السلام أنهم قالوا له: يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا [هود ١١/ ٣٢]، وقال تعالى لنبيه محمد ص: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل ١٦/ ١٢٥].
وأما الجدال بالباطل كالمذكور هنا فهو مذموم، كما قال تعالى: ما ضَرَبُوهُ

صفحة رقم 74

لَكَ إِلَّا جَدَلًا، بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ
[الزخرف ٤٣/ ٥٨]، وهو المشار إليه في
قوله ص: «لا تماروا في القرآن، فإن المراء فيه كفر»، «إن جدالا في القرآن كفر».
قال أبو العالية: آيتان ما أشدهما على الذين يجادلون في القرآن، قوله:
ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وقوله: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ [البقرة ٢/ ١٧٦].
ثم أخبر الله تعالى عن تشابه أقوام الأنبياء في تكذيب رسلهم، فقال:
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ أي كذبت قبل قوم قريش قوم نوح (وهو أول رسول بعثه الله للنهي عن عبادة الأوثان) والجماعات الذين تخربوا على الرسل من بعد قوم نوح، كعاد وثمود وأصحاب لوط وقوم فرعون، بتكذيب رسلهم، فعوقبوا أشد العقاب.
وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ أي وعزمت وحرصت كل أمة من تلك الأمم المكذبة برسولهم المرسل إليهم على أخذه، لحبسه وتعذيبه وإصابة ما يريدون منه أو قتله، فمنهم من قتل رسوله، وخاصموا رسولهم بالشبهة وبالباطل من القول، ليردوا الحق الواضح الجلي، وليبطلوا الإيمان.
روى أبو القاسم الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي ص قال: «من أعان باطلا ليدحض به حقا، فقد برئت منه ذمة الله تعالى وذمة رسوله ص».
وقال يحيى بن سلام: جادلوا الأنبياء بالشرك ليبطلوا به الإيمان.
فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ أي فأخذت هؤلاء المجادلين بالباطل بالعذاب، وأهلكتهم، فقد جاء الأخذ بمعنى الإهلاك في قوله تعالى: ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ [الحج ٢٢/ ٤٤]. فانظر كيف عقابي الذي عاقبتهم

صفحة رقم 75

به؟ فإنه كان مهلكا مستأصلا، وليعتبر قومك يا محمد بهذا، فإني أعاقبهم بعقاب مماثل، وإنهم يمرون على بلادهم ومساكنهم، فيعاينون أثر ذلك. وهذا تقرير فيه معنى التعجيب، وأكّد هذا المعنى بقوله:
وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ أي ومثل ذلك عذاب كل كافر، والمعنى: وكما وجب العذاب على الأمم المكذبة لرسلهم، وجب على الذين كفروا بك يا محمد، وجادلوك بالباطل، وتحزبوا عليك، فالسبب واحد والعلة واحدة، وذلك العذاب هو استحقاقهم النار.
والمراد بكلمة العذاب هي أنهم مستحقون النار.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يأتي:
١- إن تنزيل القرآن من الله ذي العزة والعلم، فهو ليس منقولا ولا مما يصحّ أن يكذّب به.
٢- وصف الله تعالى نفسه بستّ صفات تجمع بين الترغيب والترهيب، وتفتح باب الأمل للعصاة والكفار للمبادرة إلى ساحة الإيمان والتزام جادة الاستقامة على أمر الله ومنهجه. وتشير القصتان التاليتان إلى مدى فعالية هذا الأسلوب القرآني في إصلاح البشرية.
روى ابن أبي حاتم وابن جرير عن أبي إسحاق السبيعي قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين، إني قتلت، فهل لي من توبة؟ فقرأ عمر رضي الله عنه: حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. غافِرِ الذَّنْبِ، وَقابِلِ التَّوْبِ، شَدِيدِ الْعِقابِ.. الآية، وقال: اعمل ولا تيأس.

صفحة رقم 76

وروى ابن أبي حاتم أيضا والحافظ أبو نعيم عن يزيد بن الأصم قال: كان رجل من أهل الشام ذو بأس، وكان يفد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ففقده عمر، فقال: ما فعل فلان بن فلان؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، تتابع في هذا الشراب. فدعا عمر كاتبه، فقال:
اكتب من عمر بن الخطاب إلى فلان بن فلان، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو غافِرِ الذَّنْبِ، وَقابِلِ التَّوْبِ، شَدِيدِ الْعِقابِ، ذِي الطَّوْلِ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، إِلَيْهِ الْمَصِيرُ. ثم قال لأصحابه: ادعوا الله لأخيكم أن يقبل بقلبه ويتوب الله عليه.
فلما بلغ الرجل كتاب عمر رضي الله عنه جعل يقرؤه ويردده، ويقول:
غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ قد حذّرني عقوبته، ووعدني أن يغفر لي. فلم يزل يرددها على نفسه، ثم بكى، ثم نزع فأحسن النزع.
فلما بلغ عمر خبره قال: هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخا لكم زلّ زلّة، فسدّدوه ووثّقوه، وادعوا الله له أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانا للشيطان عليه.
٣- قد يعفو الله تعالى عن الذنوب الصغائر بتوبة أو بغير توبة، وقد يعفو أيضا عن الكبائر كالقتل والسرقة والزنى بعد التوبة، وإطلاق الآية غافِرِ الذَّنْبِ يدل على كونه غافرا للذنوب الكبائر قبل التوبة، إذا شاء وأراد.
ولكن قبول التوبة من الذنب يقع على سبيل التفضل والإحسان من الله، وليس بواجب على الله، لأنه تعالى ذكر كونه قابلا للتوب على سبيل المدح والثناء، ولو كان ذلك من الواجبات لم يبق فيه من معنى المدح إلا القليل.
وقالت المعتزلة: إنه واجب على الله بإيجاب منه على نفسه، لا بإيجاب غيره عليه.

صفحة رقم 77

٤- في الآية إيماء بترجيح جانب الرحمة والفضل على جانب الغضب والعدل، لأنه تعالى لما أراد أن يصف نفسه بأنه شَدِيدِ الْعِقابِ ذكر قبله أمرين، كل واحد منهما يقتضي زوال العقاب، وهو كونه غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ وذكر بعده ما يدلّ على حصول الرحمة العظيمة، وهو قوله:
ذِي الطَّوْلِ.
٥- إن الجدال لتقرير الباطل لدحض الحق وإبطال الإيمان، بالاعتماد على الشبهات، بعد البيان القرآني وظهور البرهان الإلهي: كفر وضلال وجحود لآيات الله وحججه وبراهينه.
والجدال في آيات الله أن يقال مثلا عن القرآن: إنه سحر أو شعر أو من قول الكهنة، أو أساطير الأولين، أو إنما يعلّمه بشر، ونحو ذلك.
أما الجدال لتوضيح الحق ورفع اللّبس والرّد إلى الحق، فهو من أعظم ما يتقرّب به المتقرّبون، قال تعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت ٢٩/ ٤٦].
٦- لا يغترن أحد بإمهال الكفرة والعصاة وتركهم سالمين في أبدانهم وأموالهم يترددون في البلاد للتجارة وطلب المعاش، فإن الله يمهل ولا يهمل، وإنه وإن أمهلهم فإنه سينتقم منهم كما فعل بأمثالهم من الأمم الماضية.
٧- المثال المتكرر في القرآن الكريم: هو أن الله تعالى أهلك الأمم المكذبة برسلها، الذين جادلوا الأنبياء بالشرك ليبطلوا به الإيمان، وقد لمس الناس آثار ذلك الهلاك في ديارهم ومساكنهم، لذا قال تعالى: فَكَيْفَ كانَ عِقابِ أي كيف كان عقابي إياهم، أليس وجدوه حقا؟! ٨- إن مثل الذي وجب (حق) على الأمم السالفة من العقاب، يجب

صفحة رقم 78
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية