وهذه الآية تفسير لقوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة ١/ ٦- ٧] وهي المراد في
قوله عليه السلام عند موته: «اللهم الرفيق الأعلى».
وفي البخاري عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما من نبي يمرض إلا خيّر بين الدنيا والآخرة» كان في شكواه الذي مرض فيه أخذته بحّة «١» شديدة، فسمعته يقول: «مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين» فعلمت أنه خيّر.
قال القرطبي: في هذه الآية دليل على خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وذلك أن الله تعالى لما ذكر مراتب أوليائه في كتابه بدأ بالأعلى منهم وهم النبيون، ثم ثنّى بالصديقين، ولم يجعل بينهما واسطة. وأجمع المسلمون على تسمية أبي بكر الصديق رضي الله عنه صدّيقا، كما أجمعوا على تسمية محمد عليه السلام رسولا، وإذا ثبت هذا وصح أنه الصديق، وأنه ثاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لم يجز أن يتقدم بعده أحد «٢».
قواعد القتال في الإسلام
[سورة النساء (٤) : الآيات ٧١ الى ٧٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٣) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥)
الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (٧٦)
(٢) تفسير القرطبي: ٥/ ٢٧٣
الإعراب:
ثُباتٍ حال من واو فَانْفِرُوا الأولى. جَمِيعاً حال من واو فَانْفِرُوا الثانية، وكل واحد من الفعلين هو العامل في الحال الذي يليه.
لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ اللام في لَمَنْ لام الابتداء التي تدخل مع «إن» وهي هنا داخلة على اسم «إن». واللام في لَيُبَطِّئَنَّ: هي اللام الواقعة في جواب القسم، وهو هنا محذوف وتقديره: لمن والله ليبطئن. ولام القسم في صلة «من».
يا لَيْتَنِي المنادي محذوف وتقديره: يا هذا ليتني، مثل: «ألا يا اسجدوا لله» أي يا هؤلاء اسجدوا. وحذف المنادي كثير في كلامهم. فَأَفُوزَ منصوب بأن مضمرة بعد التمني، وتقديره: فأن أفوز. وقرئ بالرفع على تقدير: فأنا أفوز. كَأَنْ مخففة واسمها محذوف، أي كأنه. مَوَدَّةٌ اسم يكن، وبينكم وبينه: خبرها المقدم على اسمها. ولا يجوز أن تكون التامة لأن الكلام لا يتم معناه بدون «بينكم وبينه» فهو الخبر، وتتم به الفائدة.
وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ ما: مبتدأ، ولكم: خبره، ولا تقاتلون حال من الكاف واللام في «لكم» وتقديره: أي شيء استقر لكم غير مقاتلين، مثل: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النساء ٤/ ٨٨]. وَالْمُسْتَضْعَفِينَ: معطوف على اسم الله تعالى. وقيل: على سبيل. الظَّالِمِ
أَهْلُها
الظالم صفة للقرية، وجاز وصف القرية وإن لم يكن الظلم لها لعود الضمير العائد إليها من «أهلها». وأهلها: فاعل الظالم.
البلاغة:
يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ استعارة، استعار لفظ الشراء للمبادلة، أي يبيعون الفانية بالباقية.
كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ اعتراض بين القول ومقوله وهو: يا ليتني.
ويوجد مقابلة في قوله: الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ.
وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ استفهام توبيخ، أي لا مانع لكم من القتال.
المفردات اللغوية:
خُذُوا حِذْرَكُمْ أي احترزوا وتيقّظوا من عدوّكم، والحذر والحذر بمعنى واحد، كالمثل والمثل: وهو التيقّظ والاستعداد. فَانْفِرُوا انهضوا إلى قتاله. ومصدره: النفر: وهو الانزعاج عن الشيء وإلى الشيء، كالنزوع عن الشيء وإلى الشيء. ثُباتٍ متفرقين واحدها ثبة: وهي الجماعة، أي اخرجوا جماعة تلو جماعة. لَيُبَطِّئَنَّ ليتأخرن عن القتال، كعبد الله بن أبي المنافق وأصحابه، وجعله من المسلمين من حيث الظاهر. والتبطؤ: يطلق على الإبطاء وعلى الحمل على البطء: وهو التأخر في السير عن الانبعاث للجهاد وغيره. مُصِيبَةٌ ما يصيب الإنسان من قتل أو هزيمة أو غيرهما. شَهِيداً حاضرا معهم. الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ كفتح وغنيمة. مَوَدَّةٌ معرفة وصداقة. فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً آخذ حظّا وافرا من الغنيمة.
فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء دينه، وسبيل الله: تأييد الحق ونصرته، بإعلاء كلمة الله ونشر دعوته. الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ أي يبيعونها ويأخذون بدلها نعيم الآخرة وثوابها. فَيُقْتَلْ يستشهد. أَوْ يَغْلِبْ يظفر بعدوه. أَجْراً عَظِيماً ثوابا جزيلا.
وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي لا مانع لكم من القتال. وَالْمُسْتَضْعَفِينَ أي في تخليص المستضعفين. وَالْوِلْدانِ الذين حبسهم الكفار عن الهجرة وآذوهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كنت أنا وأمي منهم. الْقَرْيَةِ مكة. الظَّالِمِ أَهْلُها بالكفر. وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا من عندك من يتولى أمورنا. نَصِيراً يمنعنا منهم. وقد استجاب دعاءهم، فيسّر لبعضهم الخروج، وبقي بعضهم إلى أن فتحت مكة،
وولّى صلّى الله عليه وسلّم عتاب بن أسيد، فأنصف مظلومهم من ظالمهم.
الطَّاغُوتِ الشيطان أو الطغيان: وهو مجاوزة الحق والعدل والخير إلى الباطل والظلم والشّر، والطاغوت يذكّر ويؤنّث. أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ أنصار دينه، تغلبوهم لقوتكم بالله. إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً أي إن كيد الشيطان بالمؤمنين كان واهيا لا يقاوم كيد الله بالكافرين.
وكيد الشيطان: السعي في الفساد بالحيلة.
المناسبة:
لما حذر الله تعالى من المنافقين وأمر بطاعة الله والرسول، أمر هنا أهل الطاعة بالجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمته ورفع شأن دينه، وأمر بالاستعداد حذرا من مباغتة الكفار، ثم بيّن حال المنافقين المثبطين العزائم عن الجهاد، وهذا انتقال من الميدان الداخلي إلى المجال الخارجي، انتقال من السياسة الاجتماعية في التعامل إلى السياسة الحربية.
التفسير والبيان:
يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بأخذ الحذر من عدوّهم، وهذا يستلزم التأهّب لهم بإعداد الأسلحة وإعداد الجيش المقاتل. ويرسم الله تعالى سياسة الحرب ويضع قواعد القتال المؤدية إلى النصر والفوز الساحق.
يا أيها المؤمنون التزموا الحذر، واحترسوا من الأعداء، واستعدوا لردّ العدوان، فإنكم معرّضون لشنّ معارك كثيرة طاحنة، وهذا أمر دائم يتكيّف بحسب تطور وسائل الحرب وقواعد القتال على ممر العصور. قال أبو بكر لخالد بن الوليد في حرب اليمامة: حاربهم بمثل ما يحاربونك به، السيف بالسيف، والرمح بالرمح. وهكذا بحسب المعروف بين الأمم من وسائل الحرب البرية والبحرية والجوية.
ولا يصح للمؤمن أن يخشى اقتحام المعارك لأن أجل الإنسان لا يتأخر ساعة ولا يتقدم، وعلى المؤمنين اتّخاذ ما يمكنهم من أسباب القوة، غير محتجّين
بقدر، ولا يائسين من حدوث نكسة ما، أما ما روى الحاكم عن عائشة «لا يغني حذر من قدر» فلا يتناقض مع أخذ الحذر لأن الحذر داخل في القدر إذ القدر: هو جريان الأمور على وفق السّببية أي أن المسببات تأتي عادة على قدر الأسباب، والحذر من جملة الأسباب، فهو عمل بالقدر.
فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً أي فانهضوا للقتال جماعة إثر جماعة، فصائل وفرقا وسرايا، أو انهضوا جميعا متعاضدين كلكم حسبما ترون من قوة العدو وحاله. وهذا يعني كون الأمة على استعداد دائم للجهاد، وهذا نظير قوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ، وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ، تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال ٨/ ٦٠].
لكن بعضا منكم في ساحة الجبهة الداخلية قد يتخلف عن الجهاد، وقد يعرقل مسيرة المجاهدين، وقد يعوق أو يسعى لتثبيط العزائم عن الجهاد، وهؤلاء هم المنافقون وضعاف الإيمان والجبناء.
أما المنافقون فلا يرغبون في القتال لأنهم لا يحبون الإسلام وأهله، وأما الجبناء وضعاف الإيمان فيترددون في المشاركة بالجهاد خورا وضعفا وجبنا.
وهؤلاء يصطادون في الماء العكر ويستغلون النتائج والوقائع، فإن أصابتكم مصيبة كقتل أو هزيمة، فرحوا فرحا شديدا بنجاة أنفسهم، وحمدوا الله على أن لم يكن أحدهم حاضرا في المعركة، يعدون ذلك من نعم الله عليهم، ولم يدروا ما فاتهم من الأجر في الصبر، أو الشهادة إن قتلوا.
وإن أصابكم فضل من الله، أي نصر وظفر وغنيمة قالوا- وكأنهم ليسوا من أهل دينكم-: يا ليتنا اشتركنا في القتال لنحظى بسهم من الغنيمة.
وهم في الحالين ضعاف العقول، قاصرو النظر، ضعاف الإيمان جبناء، لذا وبّخهم الله تعالى وقرّعهم بعبارة لطيفة تدلّ على انقطاع صلتهم بالمسلمين وهي:
كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ. وهذا فيه استثارة للتأمل والتفكير في نفس السامع إذ يدعو صاحبه إلى النظر في حقيقة حاله وعيوب نفسه.
ثم انتقل الله تعالى ببيانه من وصف حال الضعفاء إلى بيان مركز الأقوياء، ومن دائرة الهبوط في دائرة التخلف عن القيام بالواجب إلى الصعود إلى مرتبة يمكن فيها تطهير النفوس من ذلك الذنب العظيم: ذنب التقاعس عن القتال.
فحرض عباده المؤمنين على الجهاد في سبيله، وعلى السعي في استنقاذ المستضعفين بمكة أو غيرها من الرجال والنساء والصبيان المتبرمين من القيام بها.
فليقاتل في سبيل الله ولإعلاء كلمته ولنصرة دينه- دين الحق والتوحيد، والعدل والكرامة، والقوة والمدنية: من يبيع دنياه الفانية بالآخرة الباقية، حتى يحقق علو كلمة الله، فيجعل كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، والله عزيز حكيم.
ثم رغّب الله تعالى في القتال بعد الأمر به ببيان الثواب عليه، فمن يقاتل في سبيل الله، فيغلبه عدوه، أو يغلب هو العدو، فإن الله سيؤتيه ثوابا عظيما هو الجنة والأجر الحسن. وهذا يدلّ على شرف الجهاد والمجاهدة، وقد عانى المسلمون أشدّ البلاء من الكفار في مكة قبل الفتح، مثلما حدث لبلال وصهيب وعمار وأسرته.
ثم زاد الترغيب في الجهاد بنفي الأعذار، فأي عذر لكم يمنعكم عن القتال في سبيل الله لإحلال التوحيد محل الشرك، والخير محل الشّر، والعدل والرّحمة في موضع الظلم والقسوة، وعن إنقاذ المستضعفين إخوانكم في الدّين رجالا ونساء وصبية الذين منعهم كفار قريش من الهجرة وفتنوهم عن دينهم. والتحدث عن هؤلاء يثير النخوة ويهزّ الأريحية ويوقظ الشعور بالواجب والتفاني من أجل رفع الظلم عن الضعفاء.
إن هؤلاء المستضعفين فقدوا النصير والمعين، وهم يقولون من شدّة الألم والعذاب: ربّنا أخرجنا من تلك القرية «مكة» التي كفر أهلها وظلموا العباد، واجعل لنا من عندك وليّا يلي أمورنا، ويستنقذنا، ويحمي نفوسنا وأعراضنا، واجعل لنا من عندك نصيرا يمنعنا من الظلم، وينصرنا عليهم، ويساعدنا على الهجرة، فليس أمامنا إلا بابك الكريم يا الله.
ثم عقد الحق سبحانه وتعالى مقارنة بين أهداف الجهاد عند المسلمين وأغراض القتال عند المشركين. وهي أن المؤمنين يقاتلون لأجل إعلاء كلمة الله- كلمة الحق والتوحيد والعدل وإنصاف الشعوب، لا من أجل الاستعمار والاستغلال، والتعدي والظلم، وسلب الملكيات ونهب الثروات، كما هو حاصل الآن وأما الكافرون فهم يقاتلون لأغراض وهمية، أو مادية دنيئة، أو شهوانية ذاتية، فهم إنما يرضون وسوسة الشيطان، وإعلاء الوثنية، ومناصرة الكفر، أو يطمعون في الحصول على الغنائم، أو للتفاخر والاعتزاز وإرضاء النفس بمجرد الشعور بالانتصار والغلبة، وتحقيق السمعة والشهرة أمام القبائل العربية.
ولكن المصير المحتوم هو تغلّب الحق على الباطل في النهاية لأن الحق قوي ثابت وجنده أعزّ وأمنع، والباطل ضعيف مهزوم، وجنده أضعف وأخوف، والحق يعلو ولا يعلى عليه، لذا أمر الله تعالى بقوله بما معناه: فقاتلوا أيها المؤمنون أولياء أو نصراء الشيطان الذين أوهمهم ووسوس لهم أن في الظلم والتدمير شرفا وإعلاء مكانة، ولا تغرنكم قوتهم وأعدادهم وأسلحتهم، فإن كيد الشيطان وتدبيره أو وسوسته كان ضعيفا لا تأثير له عند ذوي العقول الناضجة، والأفكار السامية. وأما أنتم فوليكم الرحمن وناصركم ومدبر أموركم ما نصرتموه، وجند الله هم الغالبون، وحزب الله هم المفلحون.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات تبيّن المواقف الثابتة للأمة الإسلامية في علاقاتها الخارجية أثناء الحرب.
فهي أولا خطاب للمؤمنين المخلصين من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم بالاستعداد للجهاد، وأخذ الحذر الدائم، وأمر لهم بجهاد الأعداء والنضال في سبيل الله، وحماية الشرع، وديار الإسلام، وتخليص المستضعفين، ومطالبتهم ألا يقتحموا عدوهم على جهالة حتى يستطلعوا ما عندهم من قوى وعدد وعدد، ويعلموا كيف يردّون عليهم، فذلك أثبت لهم، لذا قال لهم: خُذُوا حِذْرَكُمْ وهو تعليم لأسلوب مباشرة الحروب.
ولا ينافي أخذ الحذر التوكل على الله، بل هو مقام عين التوكل لأن التوكل ليس معناه ترك الأسباب، وإنما هو الثقة بالله والإيقان بأن قضاءه ماض، واتّباع سنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم في السّعي فيما لا بدّ منه من الأسباب من مطعم ومشرب، وتحرز من عدو، وإعداد أسلحة، واستعمال ما تقتضيه سنة الله المعتادة. قال سهل: من قال: إن التّوكل يكون بترك السبب، فقد طعن في سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأن الله عزّ وجلّ يقول: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً [الأنفال ٨/ ٦٩]، فالغنيمة: اكتساب. وقال تعالى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ [الأنفال ٨/ ١٢]، فهذا عمل.
وقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تعالى يحبّ العبد المؤمن المحترف» «١».
وكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرضون على السرية «٢».
(٢) تفسير القرطبي: ٤/ ١٨٩، ٥/ ٢٧٣، أحكام القرآن للجصاص: ٢/ ٢١٥، والسرية: طائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة، سمّوا بذلك لأنها تكون من خلاصة العسكر وخيارهم، من الشيء السري: النفيس.
وليس في الآية دليل على أن الحذر يتعارض مع القدر، أو يمنع من القدر شيئا ولكنّا مطالبون بألا نلقي بأيدينا إلى التهلكة،
وورد في الحديث: «اعقلها وتوكل» «١»
والقدر جار على ما قضى الله، ويفعل الله ما يشاء، ويكون أخذ الحذر من القدر، كما أوضحت في تفسير الآيات.
ودلّت الآيات ثانيا على قاعدة من قواعد الحرب أو سياسة من سياسات المعركة وخطتها وهي النهوض لقتال العدو إذا دعا الإمام الناس إلى النفر، أي للخروج إلى قتال العدو إما جماعة إثر جماعة، أو الزّج بطاقة الجيش الكثيف كله في قلب المعركة، على وفق ما يرى القائد الحربي من مصلحة، معتمدا على استطلاع أحوال العدو واستعداداته واستحكاماته، واحتمالات تطور المعركة.
ويقال للقوم الذين ينفرون: النفير.
وبناء على هذا، فليست الآية منسوخة ولا معارضة لقوله تعالى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا [التوبة ٩/ ٤١]، وقوله: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ [التوبة ٩/ ٣٩]، وقوله: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة ٩/ ١٢٢] لأن كل آية يعمل بها بحسب الظرف الحربي الملائم لها، فإحداها في الوقت الذي يحتاج فيه إلى تعيين الجميع، والأخرى عند الاكتفاء بطائفة دون غيرها.
وترشد الآيات ثالثا إلى أن في الأمة في كل زمان فئة المثبطين أو المبطئين وهم المنافقون، والتبطئة والإبطاء: التأخر، وديدنهم القعود عن القتال ويقعدون غيرهم معهم. فهم من جنس الأمة ودخلائها وممن يظهر الإيمان للجماعة، ويتظاهر بالإخلاص في رسالتها. وهم جماعة انتهازيون: إن حققت الجماعة فتحا ونصرا وأحرزت غنيمة، يقول المنافق الواحد منهم: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما، كأنه مقطوع الصلة والمودة بالأمة ولم يعاقد على الجهاد.
وإن أصيبت الأمة بمصيبة من قتل وهزيمة، فرح وقال: قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا أي حاضرا. فهؤلاء المنافقون يجب الحذر منهم أشدّ الحذر، وهم مروجو الإشاعات المغرضة: إشاعة الضعف والهزيمة وعدم تكافؤ القوى في عصرنا الحاضر.
وأكدت الآيات رابعا أمر المؤمنين بالقتال في سبيل الله، أولئك المؤمنون الذين يبيعون الحياة الدّنيا بالآخرة، أي يبذلون أنفسهم وأموالهم لله عزّ وجلّ مقابل الحصول على ثواب الآخرة.
وثواب الآخرة لمن قتل أو غلب العدو عظيم جدا لا يخضع لتصور إنسان.
وظاهر قوله تعالى: فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ يقتضي التسوية بين من قتل شهيدا أو انقلب غانما، أي إن كلّ من قاتل في سبيل الله، سواء قتل (استشهد) أو غلب العدو، فله عند الله مثوبة عظيمة وأجر جزيل، فللشهيد أجر، وللغانم أجر، بدليل
ما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تضمن الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي، وإيمان بي، وتصديق برسلي، فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر وغنيمة».
ومعنى الجملة الأخيرة: يقتضي أن من لم يستشهد من المجاهدين له أحد الأمرين: إما الأجر إن لم يغنم، وإما الغنيمة ولا أجر. وهذا كله بالنسبة للمجاهد الذي أخلص النيّة في الجهاد.
أما إن نوى الجهاد ولكن مع نيل المغنم، فإن أصاب الغنيمة تعجل ثلثي أجره من الآخرة، ويبقى له الثلث، وإن لم يصب غنيمة تمّ له أجره. وهذا مستفاد من حديث آخر عن عبد الله بن عمرو «١».
وخامسا- بيّنت الآية بعض أحوال مشروعية القتال مع الحضّ على الجهاد وهي ما يلي:
١- القتال في سبيل الله: يفسره
الحديث النّبوي الذي رواه الجماعة عن أبي موسى: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»
أي أنه قاتل لإعلاء كلمة الدّين وإظهاره، ورفع راية الإسلام المتضمنة توحيد الله، وإقرار العدل والحقّ، والدعوة إلى فضائل الأخلاق، وعبادة الله الواحد القهّار وتعظيمه لا تعظيم أحد من البشر.
٢- استنقاذ الضعفاء المؤمنين من عباد الله من براثن العدو: وهذا واجب وإن كان في ذلك تلف النفوس. ويكون تخليص الأسارى واجبا على جماعة المسلمين إما بالقتل وإما بالأموال، وهو أوجب لكونها دون النفوس إذ هي أهون منها. قال مالك: واجب على الناس أن يفدوا الأسارى بجمع أموالهم. وهذا لا خلاف فيه لقوله عليه الصّلاة والسّلام
فيما رواه أحمد والبخاري عن أبي موسى: «فكّوا العاني»
أي الأسير. وكذلك قال العلماء: عليهم أن يواسوهم، فإن المواساة دون المفاداة.
ومن أمثلة المستضعفين في التاريخ: من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال كفرة قريش وأذاهم وهم المعنيون
بقوله عليه الصّلاة والسّلام: «اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعيّاش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين»
، وقال ابن عباس: كنت أنا وأمي من المستضعفين.
وما أمتع تلك المقارنة في أهداف القتال: المؤمنون يقاتلون في سبيل طاعة الله، ومن أجل نشر دينه وأحكام شرعه فهو ناصرهم ووليهم، والكافرون يقاتلون في سبيل الطاغوت (الشيطان وما يمثله من ظلم وخرافة وكهانة ودعوة إلى عبادة الأصنام والأوثان) فلا ولي لهم إلا الشيطان، وكيد الشيطان للمؤمنين إلى