
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ أَيْ هُوَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِكُنْهِ مَا فِي قُلُوبِهِمْ وَصُدُورِهِمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ شِدَّةَ عَدَاوَتِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ، بَيَّنَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى وَلِيُّ الْمُسْلِمِينَ وَنَاصِرُهُمْ، وَمَنْ كَانَ اللَّه وَلِيًّا لَهُ وَنَاصِرًا لَهُ لَمْ تَضُرَّهُ عَدَاوَةُ الْخَلْقِ، وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: وِلَايَةُ اللَّه لِعَبْدِهِ عِبَارَةٌ عَنْ نُصْرَتِهِ لَهُ، فَذِكْرُ النَّصِيرِ بَعْدَ ذِكْرِ الْوَلِيِّ تَكْرَارٌ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْوَلِيَّ الْمُتَصَرِّفُ فِي الشَّيْءِ، وَالْمُتَصَرِّفُ فِي الشَّيْءِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ نَاصِرًا لَهُ فَزَالَ التَّكْرَارُ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ لَمْ يَقُلْ: وَكَفَى باللَّه وَلِيًّا وَنَصِيرًا؟ وَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَكْرِيرِ قَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ التَّكْرَارَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ يَكُونُ أَشَدَّ تَأْثِيرًا فِي الْقَلْبِ وَأَكْثَرَ مُبَالَغَةً.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا فَائِدَةُ الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا.
وَالْجَوَابُ: ذَكَرُوا وُجُوهًا، الْأَوَّلُ: لَوْ قِيلَ: كَفَى اللَّه، كَانَ يَتَّصِلُ الْفِعْلُ بِالْفَاعِلِ. ثم هاهنا زيدت الباء إيذانا بأن الْكِفَايَةَ مِنَ اللَّه لَيْسَتْ كَالْكِفَايَةِ مِنْ غَيْرِهِ فِي الرُّتْبَةِ وَعِظَمِ الْمَنْزِلَةِ. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ السَّرَّاجِ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: كَفَى اكْتِفَاؤُكَ باللَّه وَلِيًّا، وَلَمَّا ذُكِرَتْ «كَفَى» دَلَّ عَلَى الِاكْتِفَاءِ، لِأَنَّهُ مِنْ لَفْظِهِ، كَمَا تَقُولُ: مَنْ كَذَبَ كَانَ شَرًّا لَهُ، أَيْ كَانَ الْكَذِبُ شَرًّا لَهُ، فَأَضْمَرْتَهُ لِدَلَالَةِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ. الثَّالِثُ: يَخْطُرُ بِبَالِي أَنَّ الْبَاءَ فِي الْأَصْلِ لِلْإِلْصَاقِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْسُنُ فِي الْمُؤَثِّرِ الَّذِي لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّأْثِيرِ، وَلَوْ قِيلَ: كَفَى اللَّه، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى فَاعِلًا لِهَذِهِ الْكِفَايَةِ، وَلَكِنْ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، فَإِذَا ذَكَرْتَ حَرْفَ الْبَاءِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَفْعَلُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، بَلْ هُوَ تَعَالَى يَتَكَفَّلُ بِتَحْصِيلِ هَذَا الْمَطْلُوبِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ أَحَدٍ، كَمَا قَالَ:
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: ١٦].
[سورة النساء (٤) : آية ٤٦]
مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ شَرَحَ كَيْفِيَّةَ تِلْكَ الضَّلَالَةِ وَهِيَ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي مُتَعَلِّقِ قَوْلِهِ: مِنَ الَّذِينَ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِلَّذِينِ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا، وَالثَّانِي: أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ:
نَصِيراً وَالتَّقْدِيرُ: وَكَفَى باللَّه نَصِيرًا مِنَ الَّذِينَ هَادُوا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا [الْأَنْبِيَاءِ: ٧٧] الثالث: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، ويُحَرِّفُونَ صِفَتَهُ. تَقْدِيرُهُ: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا قَوْمٌ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ، فَحُذِفَ الْمَوْصُوفُ وَأُقِيمَ الْوَصْفُ مَكَانَهُ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ

أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ [النِّسَاءِ: ٤٤] بَقِيَ ذَلِكَ مُجْمَلًا مِنْ وَجْهَيْنِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَمِنْ ذَلِكَ الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ؟ فَأُجِيبَ وَقِيلَ: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا، ثُمَّ قِيلَ: وَكَيْفَ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ؟ فَأُجِيبَ وَقِيلَ: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول: الجمع المؤنث، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهَا.
وَالْجَوَابُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذَا جَمْعٌ حُرُوفُهُ أَقَلُّ مِنْ حُرُوفِ وَاحِدِهِ، وَكُلُّ جَمْعٍ يَكُونُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَذْكِيرُهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: كَوْنُ الْجَمْعِ مُؤَنَّثًا لَيْسَ أَمْرًا حَقِيقِيًّا، بَلْ هُوَ أَمْرٌ لَفْظِيٌّ، فَكَانَ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ فِيهِ جَائِزًا وَقُرِئَ، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي كَيْفِيَّةِ التَّحْرِيفِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يُبَدِّلُونَ اللَّفْظَ بِلَفْظٍ آخَرَ مِثْلَ تَحْرِيفِهِمُ اسْمَ «رَبْعَةٍ» عَنْ مَوْضِعِهِ فِي التَّوْرَاةِ بِوَضْعِهِمْ «آدَمُ طَوِيلٌ» مَكَانَهُ، وَنَحْوَ تَحْرِيفِهِمُ «الرَّجْمَ» بِوَضْعِهِمُ «الْحَدَّ» بَدَلَهُ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: ٧٩].
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُمْكِنُ هَذَا فِي الْكِتَابِ الَّذِي بَلَغَتْ آحَادُ حُرُوفِهِ وَكَلِمَاتِهِ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ الْمَشْهُورِ/ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ؟
قُلْنَا لَعَلَّهُ يُقَالُ: الْقَوْمُ كَانُوا قَلِيلِينَ، وَالْعُلَمَاءُ بِالْكِتَابِ كَانُوا فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ فَقَدَرُوا عَلَى هَذَا التَّحْرِيفِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّحْرِيفِ: إِلْقَاءُ الشُّبَهِ الْبَاطِلَةِ، وَالتَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ، وَصَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ الْحَقِّ إِلَى مَعْنًى بَاطِلٍ بِوُجُوهِ الْحِيَلِ اللَّفْظِيَّةِ، كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْبِدْعَةِ فِي زَمَانِنَا هَذَا بِالْآيَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِمَذَاهِبِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْخُلُونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْأَلُونَهُ عَنْ أَمْرٍ فَيُخْبِرُهُمْ لِيَأْخُذُوا بِهِ، فَإِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ حَرَّفُوا كَلَامَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرابعة: ذكر اللَّه تعالى هاهنا: عَنْ مَواضِعِهِ وَفِي الْمَائِدَةِ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ [الْمَائِدَةِ: ٤١] وَالْفَرْقُ أَنَّا إِذَا فَسَّرْنَا التَّحْرِيفَ بِالتَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةِ، فَهَهُنَا قَوْلُهُ: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ التَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ لِتِلْكَ النُّصُوصِ، وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّهُمْ يُخْرِجُونَ تِلْكَ اللَّفْظَةَ مِنَ الْكِتَابِ. وَأَمَّا الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَكَانُوا يَذْكُرُونَ التَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةَ، وَكَانُوا يُخْرِجُونَ اللَّفْظَ أَيْضًا مِنَ الْكِتَابِ، فَقَوْلُهُ: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّأْوِيلِ الْبَاطِلِ وَقَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ إِشَارَةٌ إِلَى إِخْرَاجِهِ عَنِ الْكِتَابِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ ضَلَالَاتِهِمْ: مَا ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ:
أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِذَا أَمَرَهُمْ بِشَيْءٍ قَالُوا فِي الظَّاهِرِ: سَمِعْنَا، وَقَالُوا فِي أَنْفُسِهِمْ: وَعَصَيْنَا وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا يُظْهِرُونَ قَوْلَهُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، إِظْهَارًا لِلْمُخَالَفَةِ، وَاسْتِحْقَارًا لِلْأَمْرِ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنْ ضَلَالَتِهِمْ قَوْلُهُ: وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ ذُو وَجْهَيْنِ يَحْتَمِلُ الْمَدْحَ وَالتَّعْظِيمَ، وَيَحْتَمِلُ الْإِهَانَةَ وَالشَّتْمَ. أَمَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْمَدْحَ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ مَكْرُوهًا، وَأَمَّا أَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِلشَّتْمِ وَالذَّمِّ فَذَاكَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ كَانُوا

يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْمَعْ، وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: لَا سَمِعْتَ، فَقَوْلُهُ: غَيْرَ مُسْمَعٍ مَعْنَاهُ: غَيْرَ سَامِعٍ، فَإِنَّ السَّامِعَ مُسْمَعٌ، وَالْمُسْمَعَ سَامِعٌ. الثَّانِي: غَيْرَ مُسْمَعٍ، أَيْ غَيْرَ مَقْبُولٍ مِنْكَ، وَلَا تُجَابُ إِلَى مَا تَدْعُو إِلَيْهِ، وَمَعْنَاهُ غَيْرَ مُسْمَعٍ جَوَابًا يُوَافِقُكَ، فَكَأَنَّكَ مَا أَسْمَعْتَ شَيْئًا. الثَّالِثُ: اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ كَلَامًا تَرْضَاهُ، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَسْمَعُهُ لِنُبُوِّ سَمْعِهِ عَنْهُ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مُحْتَمِلَةٌ لِلذَّمِّ وَالْمَدْحِ، فَكَانُوا يَذْكُرُونَهَا لِغَرَضِ الشَّتْمِ.
النَّوْعُ الرَّابِعُ: مِنْ ضَلَالَاتِهِمْ قَوْلُهُمْ: وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ أَمَّا تَفْسِيرُ راعِنا فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ كَلِمَةٌ كَانَتْ تَجْرِي بَيْنَهُمْ عَلَى جِهَةِ الْهُزْءِ وَالسُّخْرِيَةِ، فَلِذَلِكَ نَهَى الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَتَلَفَّظُوا بِهَا فِي حَضْرَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثَّانِي: / قَوْلُهُ: راعِنا مَعْنَاهُ أَرْعِنَا سَمْعَكَ، أَيِ اصْرِفْ سَمْعَكَ إِلَى كَلَامِنَا وَأَنْصِتْ لِحَدِيثِنَا وَتَفَهَّمْ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُخَاطَبُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، بَلْ إِنَّمَا يُخَاطَبُونَ بِالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ. الثَّالِثُ: كَانُوا يَقُولُونَ رَاعِنَا وَيُوهِمُونَهُ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَرْعِنَا سَمْعَكَ، وَكَانُوا يُرِيدُونَ سَبَّهُ بِالرُّعُونَةِ فِي لُغَتِهِمْ. الرَّابِعُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ حَتَّى يَصِيرَ قَوْلُهُمْ: راعِنا رَاعَيْنَا، وَكَانُوا يُرِيدُونَ أَنَّكَ كُنْتَ تَرْعَى أَغْنَامًا لَنَا، وَقَوْلُهُ: لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَصْلُ «لَيًّا» لَوْيًا، لِأَنَّهُ مَنْ لَوَيْتُ، وَلَكِنَّ الْوَاوَ أُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ لِسَبْقِهَا بِالسُّكُونِ، وَمِثْلُهُ الطَّيُّ وَفِي تَفْسِيرِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ كَانُوا يَقُولُونَ: رَاعِنَا وَيُرِيدُونَ بِهِ الشَّتْمَ، فَذَاكَ هُوَ اللَّيُّ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: غَيْرَ مُسْمَعٍ وَأَرَادُوا بِهِ لَا سَمِعْتَ، فَهَذَا هُوَ اللَّيُّ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا يَصِلُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا يُضْمِرُونَهُ مِنَ الشَّتْمِ إِلَى مَا يُظْهِرُونَهُ مِنَ التَّوْقِيرِ عَلَى سَبِيلِ النِّفَاقِ.
الثَّالِثُ: لعلهم كانوا يفتلون أشداقهم وألسنتهم عن ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى سَبِيلِ السُّخْرِيَةِ، كَمَا جرت عادة من يهزأ بإنسان بمثل هذا الْأَفْعَالِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا يُقْدِمُونَ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِطَعْنِهِمْ فِي الدِّينِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لِأَصْحَابِهِمْ: إِنَّمَا نَشْتُمُهُ وَلَا يَعْرِفُ، وَلَوْ كَانَ نَبِيًّا لَعَرَفَ ذَلِكَ، فَأَظْهَرَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ فَعَرَّفَهُ خُبْثَ ضَمَائِرِهِمْ، فَانْقَلَبَ مَا فَعَلُوهُ طَعْنًا فِي نُبُوَّتِهِ دَلَالَةً قَاطِعَةً عَلَى نُبُوَّتِهِ، لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ الْغَيْبِ مُعْجِزٌ.
فَإِنْ قيل: كيف جاءوا بالقول المحتمل للوجهين بعد ما حَرَّفُوا، وَقَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟
وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّا حَكَيْنَا عَنْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُمْ مَا كَانُوا يُظْهِرُونَ قَوْلَهُمْ:
وَعَصَيْنا بَلْ كَانُوا يَقُولُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ. وَالثَّانِي: هَبْ أَنَّهُمْ أَظْهَرُوا ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ جَمِيعَ الْكَفَرَةِ كَانُوا يُوَاجِهُونَهُ بِالْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ، وَلَا يُوَاجِهُونَهُ بِالسَّبِّ وَالشَّتْمِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا بَدَلَ قَوْلِهِمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا لِعِلْمِهِمْ بِصِدْقِكَ وَلِإِظْهَارِكَ الدَّلَائِلَ وَالْبَيِّنَاتِ مَرَّاتٍ بَعْدَ مَرَّاتٍ، وَبَدَلَ قَوْلِهِمْ: وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ قَوْلَهُمْ وَاسْمَعْ، وَبَدَلَ قَوْلِهِمْ: راعِنا قَوْلَهُمْ: انْظُرْنا أَيِ اسْمَعْ مِنَّا مَا نَقُولُ، وَانْظُرْنَا حَتَّى نَتَفَهَّمَ عَنْكَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ عِنْدَ اللَّه وَأَقْوَمَ، أَيْ أَعْدَلَ وَأَصْوَبَ، وَمِنْهُ يُقَالُ: رُمْحٌ قَوِيمٌ أَيْ مُسْتَقِيمٌ، وَقَوَّمْتُ الشَّيْءَ مِنْ عِوَجٍ فَتَقَوَّمَ.
ثُمَّ قَالَ: وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا لَعَنَهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ.
ثُمَّ قَالَ: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَلِيلَ صِفَةٌ لِلْقَوْمِ، وَالْمَعْنَى فَلَا يُؤْمِنُ مِنْهُمْ