
لما ذكر - تعالى - أنْوَاع التَّكَالِيف من أوَّل السُّورة إلى هنا، ذكر أقَاصيص
صفحة رقم 402
المُتقدِّمين؛ لأن الانْتَقال من نَوْع من العُلُومِ إلى نَوع آخر كأنه يُنَشِّط الخَاطِر، وقد تقدَّم الكلام في قوله - تعالى - ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ﴾ [البقرة: ٢٥٨] والمراد ب «الذين أوتوا نصيباً من الكتاب» هم اليَهُود «.
وقال ابن عبَّاس: نزلت هذه الآيةُ في حَبْرٍ من أحْبار اليَهُود، كانا يأتِيَان رَأس المُنَافِقِين عبد الله أبيّ [ابن سَلُول] ورَهْطه، يُثَبِّطُونهُم عن الإسْلاَم.
وعن ابن عباس أيضاً؛ قال: نزلَتْ في رفاعة بن زَيْدٍ، ومالك بن دخشم، كَانَا إذا تَكَلم رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لوياً لِسَانَهُمَا، وعَابَاه، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية.
قوله:» من الكتاب «فيه وَجْهَان:
أحدهما: أنه مُتَعِّق بمحْذُوفٍ، إذ هو صِفَة ل» نصيباً «فهو في مَحَلِّ نصبٍ.
والثاني: متعلَِّق ب» أوتوا «أي أُوتوا من الكِتاب نصيباَ، و» يشترون «: حالٌ، وفي صاحبها وَجْهَان:
أحدهما: أنه واو» [أوتوا] «.
والثاني: أنه المَوْصُول وهي على هذا حَالٌ مُقَدرة، والمُشْتَري به مَحْذُوف، أي: بالهُدَى، كما صرح به في مَوَاضِع، ومعنى» يشترون «: يستبدِلون الضَّلالة بالهُدَى.
قوله:» ويريدون «عطف على» يشترون «.
وقال النَّخْعِي:» وتريدون أن تضلوا «بتاء الخطاب، والمَعْنَى: تُرِيدُون أيها المؤمنون أن تدَّعو الصَّواب، وقرأ الحسن:» أن تَضِلُّوا «من أضل. وقرئ» أن تُضَلُّوا السبيل «بضم التَّاءِ وفتح الضَّادِ على ما لَمْ يُسَمّ فَاعِلُه، والسَّبيل مفعول به؛ كقولك: أخطأ الطَّريقَ، وليس بِظَرْف، وقيل: يتعدى ب» عن «؛ تقول: ضلَلْت السَّبيل، وعن السَّبيل، ثم قال:» والله أعلم بأعدائكم «أي: أعْلَم بما في قُلُوبهم وصدورهم من العَدَاوة والبَغْضاء.
قوله:» وكفى بالله ولياً «تقدم الكلام عليه أوّل السُّورة، وكذا الكلام في المَنْصُوب

بَعْده، والمعنى: أنه - تعالى - لما بيَّن شِدَّة عداوتِهم للمسْلِمين، بين أنه - تعالى - وليُّ المؤمِنين ونَاصِرُّهُم.
فإن قيل: ولاية الله لعبده عِبَارةَ عن نُصْرَته، فَذَكْر النَّصِير بعد ذِكر الوَلِي تكْرَارٌ.
فالجواب: أن الوَلِيَّ هو المُتَصرِّف في الشَّيْء، والمتصرِّف في الشَّيء يجب أن يكُونَ نَاصِراً.
فإن قيل: ما الفَائِدة من تكْرار قوله:» وكفى بالله «.
فالجواب: أن التِّكْرَا في مِثْل هذا المقَام يكون أشَد تَأثِيراً في القَلِب، وأكْثَر مُبَالَغَة.
فإن قيل: ما فائدة تكرار الباء في قوله:» بالله «فذكروا وجوهاً:
أحدها: لَوْ قيل: كفى الله، يتصل الفِعْل بالفَاعِل ثم ههُنا زيدَت البَاء إيذَاناً بأن الكفاية منالله لَيْسَت كالكِفَايَة من غَيْره.
وثانيها: قال ابن السَّرَّاج: تقديره: كفى اكْتِفَاؤُه بالله وَليًّا، ولما ذكرت» كفى «دلَّ على الاكتفاءِ؛ كما تقول: من كذب كان شَرّاً له، أي: كان الكَذِبُ شرًّا له، فأضمرته لدلالة الفِعْل عليه.
وثالثها: قال ابنُ الخَطيب: البَاءُ في الأصْل للإلْصَاقِ، وإنما يَحْسُن في المؤثِّر لذي لا وَاسِطَة بَيْنَهُ وبين التَّأثِير، فلو قيل: كَفَى اللهُ، دلَّ ذلك على كَوْنَهَ فاعلاً لهذه الكِفَايَةِ، ولكن لا يَدُلُّ [ذَلِك على أنَّهُ فعل] بِواسِطَة أو غير وَاسِطَة، فإذا ذَكَرْت البَاء، دلَّ على أنه - تعالى - يَفْعَل بغير واسِطَة، بل هو - تعالى - يتكفَّل به ابتداء من غير واسطَة؛ كقوله: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد﴾ [ق: ١٦].