
كأنه قال: ائتي مكانًا سهلًا (١).
قال ابن عباس: يريد إن تكذبوا محمدًا - ﷺ - وتكفروا نعمة الله عليكم (٢).
﴿فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي لا تضروا إلا أنفسكم، لأن الله غني عنكم بأن له ما في السموات والأرض ملكًا له واقتدارًا عليه، فذكر ما يدل على غناه بنفسه، لأنَّ هذا مما يدل على استحقاق صفات التعظيم.
﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا﴾ بما تصيرون إليه من إيمان أو كفر.
﴿حَكِيمًا﴾ [النساء: ١٧٠]، في تكليفكم مع علمه ما يكون منكم (٣).
١٧١ - قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾ قال ابن عباس وغيره من المفسرين: يريد النصارى (٤).
ومعنى ﴿لَا تَغْلُوا﴾ لا تتجاوزوا حد الحق في دينكم، يقال: غلا يغلو غلوًا، إذا جاوز الحق، ومنه يقال: غلا السعر، إذا جاوز الحد في الزيادة (٥). والنصارى غلت في المسيح فجاوزوا به منزلة الأنبياء حتى جعلوه إلهًا.
قال ابن عباس: ﴿لَا تَغْلُوا﴾ لا تشددوا فتفتروا (٦).
(٢) انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٠٤.
(٣) انظر:"زاد المسير" ٢/ ٢٥٩.
(٤) انظر: الطبري ٦/ ٣٤، و"بحر العلوم" ١/ ٤٠٦، و"الكشف والبيان" ٤/ ١٤٦ أ، و"زاد المسير" ٢/ ٢٦٠، و"تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٠٥.
(٥) انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١٣٣، والطبري ٦/ ٣٤، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٦٨٢ (غلا)، و"المفردات" ص ٣٦٤.
(٦) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٢٦٠، "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٠٥.

﴿وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ فليس لله ولد ولا زوجة ولا شريك. وهذا هو الحق.
وقوله تعالى: ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾ ذكرنا تفسير الكلمة في سورة آل عمران (١).
وقوله تعالى: ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ اختلفوا فيه: فقال أبي بن كعب: خلق الله تعالى أرواح بني آدم لما أخذ عليهم الميثاق، وكان روح فيهم، ثم ردها إلى صُلب آدم، وأمسك عنده روح عيسى، فكان روح عيسى عنده إلى أن أراد خلقه، ثم أرسل ذلك الروح إلى مريم، فدخل في فيها فكان منه عيسى (٢). ومعنى قوله: ﴿مِنْهُ﴾ أي من عنده.
ويدل على هذا التأويل قول السدي: ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ أي مخلوق منه أي من عنده (٣).
ويجوز أن يكون معنى ﴿مِنْهُ﴾ على هذا القول: من خلقه وإحداثه وإنشائه، كما قال: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾ [الجاثية: ١٣] أي من خلقه وإيجاده.
وقال جماعة من أهل المعاني: معنى الروح ههنا النفخ، ويسمى النفخ في كلام العرب روحًا؛ لأنه ريح تخرج من الروح (٤)، ومنه قول ذي
(٢) أخرجه بنحوه الطبري ٦/ ٣٦.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) انظر: الطبري ٦/ ٣٥، و"الكشف والبيان" ٤/ ١٤٦ ب، و"النكت والعيون" ١/ ٥٤٦ - ٥٤٧، و"زاد المسير" ٢/ ٢٦١.

الرمه في نار اقتدحها وأمر صاحبه بالنفخ فيها فقال:
فقلتُ له ارفَعْها إليك وأحْيِها | بروحِكَ واجعله لها قيتةً قدْرًا (١) |
وروي أن جبريل عليه السلام نفخ في درع مريم فحملت بإذن الله (٣).
ومعنى قوله: ﴿مِنْهُ﴾ على هذا التأويل: بأمره، لأن نفخ جبريل كان بأمر الله تعالى وإذنه، فهو منه. وهذا كقوله: ﴿فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا﴾ [الأنبياء: ٩١، والتحريم: ١٢] (٤).
وقيل: الروح الرحمة، وعيسى كان رحمة من الله لمن اتبعه وأطاعه (٥).
وقيل في تفسير قوله: ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾ [المجادلة: ٢٢] أي: برحمة كذلك قال المفسرون (٦).
وكذلك قراءة من قرأ: ﴿فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ﴾ (٧) [الواقعة: ٨٩] أي: فرحمة، وهذا كما قال - ﷺ -: "إنما أنا رحمة مهداة" (٨).
وقيل: الروح ههنا جبريل، وهو عطف على الضمير في ﴿أَلْقَاهَا﴾، وتأويله ألقاها الله إلى مريم وجبريل.
(٢) الطبري ٦/ ٣٦، و"ديوان ذي الرمة" ص ١٧٦.
(٣) انظر: الطبري ٦/ ٣٥، و"الكشف والبيان" ٤/ ١٤٦ ب، و"النكت والعيون" ١/ ٥٤٦.
(٤) المرجع السابق.
(٥) الطبري ٦/ ٣٦، و"الكشف والبيان" ٤/ ١٤٦ ب.
(٦) انظر: "زاد المسير" ٨/ ٢٠٠.
(٧) القراءة بضم الراء من (روح) وهي ليعقوب من العشرة. انظر: "المبسوط" ص ٣٦١، و"النشر" ٢/ ٢٨٣.
(٨) صححه الألباني، وعزاه إلى ابن سعد والحكيم الترمذي عن أبي صالح مرسلًا، كما عزاه إلى الحاكم، ولم أجده عنده. انظر: "صحيح الجامع" رقم (٢٣٤٥).

معنى ﴿مِنْهُ﴾ أي: بإذنه وأمره، كقولك: قلت لفلان منك قولًا، أي بإذنك في ذلك (١).
وهذه أوجه صحيحه في تأويل قوله: ﴿وَرُوحٌ مِنْه﴾ (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ﴾ قال ابن عباس: يريد قولهم: الله وصاحبته وأبيه (٣).
قال الفراء: معناه (ولا تقولوا): هم ثلاثة، كقوله: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ﴾ [الكهف: ٢٢] (٤).
وقال الزجاج: (ولا تقولوا) آلهتنا ثلاثة ﴿إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [النساء: ١٧١] (٥).
وقوله تعالى: ﴿انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾.
قد ذكرنا وجه انتصابه عند قوله: ﴿فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾ [النساء: ١٧٠].
وقوله تعالى: ﴿سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾ قال ابن عباس: نزه نفسه أن يكون له ولد (٦).
وقال القراءة يصلح في (أن) من وعن، فإذا أُلقيتا كانت (أن) في موضع نصب. وكان الكسائي يقول: هو (٧) في موضع خفض، في كثير من أشباهها (٨).
(٢) قال الطبري ٦/ ٣٦: "ولكل هذِه الأقوال وجه ومذهب غير بعيد من الصواب".
(٣) هكذا في المخطوط، والصواب: وابنه. انظر: "تنوير المقباس" ص ١٠٥.
(٤) "معاني القرآن" ١/ ٢٩٦.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٣٥.
(٦) "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص ١٠٥.
(٧) هكذا في المخطوط، وعند الفراء: "هي".
(٨) "معاني القرآن" ١/ ٢٩٦.