
بقانون آخر وجب أن يترك السابق ويؤمن بالجديد وهكذا فالله وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى «١» أرسل رسله قديما بالهدى ودين الحق حتى ختم الرسالة بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والقران دستوره الباقي ما بقيت الأرض والسماء لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً «٢» فالواجب اتباعه والإيمان به.
والمسلمون هم الذين يؤمنون بالله ورسله ولا يفرقون بين أحد من رسله إيمانا خالصا لله، أولئك سوف يؤتيهم ربهم أجورهم كاملة يوم القيامة، وكان الله غفورا لمن يأتى بهفوة مع الإيمان الصحيح، رحيما بعباده جميعا، حيث أرسل لهم الرسل لهدايتهم الطريق المستقيم.
من قبائح اليهود وأفعالهم [سورة النساء (٤) : الآيات ١٥٣ الى ١٥٩]
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧)
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩)
(٢) سورة المائدة الآية ٤٨.

المفردات:
جَهْرَةً المراد: رؤية جهرة. الصَّاعِقَةُ: نار تنزل من السماء، والظاهر أنها الشرارة الكهربائية التي تظهر في السماء. الْبَيِّناتُ: الدلائل الواضحة على نبوة موسى: كفلق البحر، واليد البيضاء، والعصا. الطُّورَ: اسم الجبل الذي كانوا مقيمين أسفله. سُجَّداً المراد: خاضعين متذللين. لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ: لا تتجاوزوا ما أبيح لكم، أو لا تظلموا أنفسكم بالصيد فيه.
غُلْفٌ: جمع غلاف، وهو الظرف، والمراد: أوعية العلم فليست في حاجة إلى ما نقول، ويصح أن يكون جمع أغلف، والمراد: مغطاة بأغطية خلقية لا يصل إليها شيء مما نقول. طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها: ختم عليها بالخاتم.
وقيل صارت كالنقود المسكوكة فلا تقبل غير النقش الذي عليها. بُهْتاناً:
كذبا يبهت صاحبه عند سماعه ويتعجب منه.
المعنى:
يسألك أهل الكتاب من اليهود أن تنزل عليهم كتابا مكتوبا بخط سماوي يشهد أنك رسول الله إليهم، وقيل: ينزل باسم جماعتهم أو أسماء الأحبار منهم، وهذا الطلب دليل على عدم فهمهم حقيقة الرسالة وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ

لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ
«١» يسألك هؤلاء اليهود على سبيل التعنت والتعجيز، ولا تعجب أيها الرسول من سؤالهم ولا تستكثره عليهم فقد سألوا موسى قديما أكبر من هذا، وقالوا: أرنا الله رؤية جهرة عيانا بلا حاجز ولا حجاب، وقد مر كثيرا أن فعل آبائهم ينسب إلى المعاصرين منهم، لأنهم وارثوهم ومقلدوهم ومعتزون بهم، ولا تنس مبدأ تكافل الأمة الواحدة، وقيل: إن أهل الكتاب جنس عام يدخل فيه المعاصرون وآباؤهم... وسؤالهم رؤية الله عيانا يدل على جهلهم بالله وما يجب له من صفات الكمال، إذ كيف تحيط به الأبصار والعيون؟ لذا كان أكبر جرما من سؤالهم كتابا من السماء، وقد عوقبوا على هذا الطلب بنزول الصاعقة وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [البقرة ٥٥].
ثم هم بعد أن ماتوا بالصاعقة أحياهم الله فاتخذوا العجل إلها من بعد ما جاءتهم الآيات البينات الواضحات، كالعصا وفلق البحر وغيرها من الحجج القوية التي تثبت الألوهية والوحدانية لله- سبحانه وتعالى- فعفونا عن ذلك الذنب حين تابوا منه تلك التوبة النصوح، وآتينا موسى سلطانا مبينا وحجة قوية حيث طلب منهم القتل فقتلوا أنفسهم وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة آية ٥٤].
ومن عجائب أحوالهم أن الله أخذ عليهم الميثاق. وكلفهم بالشريعة ورفع فوقهم الطور بسبب هذا الميثاق ليأخذوه بقوة ونشاط. وقد كان رفع الطور فوقهم من الآيات الكونية، حتى يؤمنوا، ولكنهم اليهود وكفى!! وقلنا لهم: ادخلوا باب القرية (والله أعلم بها) خاضعين لله متذللين له ذلة وانكسارا لعظمته وجبروته، وقلنا لهم، لا تتجاوزوا الحدود المرسومة لكم، ولا تصطادوا يوم السبت- وقد كانت حيتانهم تأتيهم يوم سبتهم شرعا- ابتلاء لهم واختبارا، فظلموا أنفسهم واصطادوا فيه وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [البقرة ٦٥]. وأخذنا منهم ميثاقا شديدا ليأخذنّ التوراة بقوة وجد،

وليعملن بها، ولا يكتمون بشارة عيسى ابن مريم ومحمد صلّى الله عليه وسلّم
روى أنهم بعد ما قبلوا ما كلفوا به من الدين أعطوا الميثاق على أنهم إن هموا بالرجوع عنه فالله يعذبهم بأى نوع من العذاب وهذا هو الميثاق المؤكد.
ثم انظر بعد هذا الميثاق المؤكد والعقود الموثقة ماذا هم فاعلون؟؟
لقد سجل القرآن عليهم هنا أقبح المخالفات وأشد العناد فقال ما معناه: فبسبب نقضهم الميثاق الذي واثقهم الله عليه، فقد أحلوا حرامه وحرموا حلاله، وبكفرهم بآيات الله التي أراهم منها ما لم ير سواهم، وبسبب قتلهم الأنبياء بغير ذنب إلا أنهم قالوا: ربنا الله، قتلوهم بغير حق كزكريا ويحيى- عليهما السلام- وبسبب قولهم:
قلوبنا في غلاف فلا يصل إليها شيء مما تدعون إليه، أو هي أوعية مليئة بالعلم فليست في حاجة إلى شيء!! لا بل طبع الله على قلوبهم بكفرهم وختم عليها فلا يصل إليها نور الهدى فهي كالنقود المضروبة لا تقبل نقشا آخر، ولذلك فهم لا يؤمنون إلا قليلا منهم كعبد الله بن سلام وأضرابه.
وبكفرهم بعيسى والإنجيل ورميهم بالفاحشة مريم البتول رموها بيوسف النجار وكان صالحا فيهم، ولا شك أن هذا بهتان يبهت من يقال فيه ويدهش عند سماعه لبعده عن الحق وغرابته، وبادعائهم أنهم قتلوا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ووصفهم له بالرسالة تهكما به ووصف القرآن له بأن ابن مريم رسول الله للرد على من يزعم من النصارى أنه الإله أو ابنه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
وما قتلوه، وما صلبوه: كما زعموا وادعوا وشاع بينهم ولكن وقع لهم الشبه فظنوا أنهم صلبوه والواقع أنهم صلبوا شخصا غيره.. وكيف يقتل عيسى والله قد عصم أولى العزم من الرسل جميعا فنجى نوحا من الغرق، وإبراهيم من النار، وموسى من فرعون، وعيسى من اليهود، ومحمدا من المشركين.
وإن الذين اختلفوا في شأن عيسى من أهل الكتاب لفي شك منه وحيرة، ما لهم به من علم قاطع بقتله، لكنهم يتبعون الظن والشك في أمره، ويرجحون هذا على ذلك بالظنون والشبه لا بالعلم القاطع.
وفي الأناجيل المعتمدة عند النصارى، أنه قال لتلاميذه والمقربين إليه، وفي الليلة التي طلب فيها للقتل «كلكم تشكون في هذه الليلة».

وقيل: اختلافهم قولهم: إن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ وإن كان المقتول عيسى فأين صاحبنا؟
وما قتلوه قتلا يقينا، لأن الجند الذين قاموا بقتله من الثابت أنهم كانوا يعرفون شخص المسيح، وقد مات في شبه ثورة.
وفي الأناجيل الموجودة الآن، أن الذي سلمه هو يهوذا الأسخريوطى، وفي بعض الأناجيل أن الجند أخذوا يهوذا نفسه ظنا منهم أنه المسيح، فالذي لا خلاف فيه أن الجند ما كانوا يعرفون عيسى وأنهم قتلوا شخصا هل هو المسيح أو شخص يشبه إلى أبعد حد. وقيل: المعنى ما قتلوا العلم يقينا من جهة البحث والنظر في أمر قتله وصلبه.
رفع عيسى- عليه السلام-:
المسلمون يعتقدون كما أخبر القرآن أن عيسى لم يقتل ولم يصلب وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وأنه نجاه من الذين مكروا به وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ «١» وهذا هو معنى (متوفيك) عند بعض العلماء، أى: موفيك أجلك كاملا وعاصمك من الناس كغيرك من الأنبياء، وهل هو بعد النجاة رفع إلى السماء بروحه وجسده أو رفع بروحه فقط، وأما جسده فانتهت حياته كغيره من الناس؟ أو لم يحصل له رفع لا بالروح ولا بالجسد؟ ويتبع ذلك تفسير قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ «٢» أما جمهور المفسرين: فيرون أن الله رفع عيسى بروحه وجسده إلى السماء وسينزل آخر الزمان يحكم بالقرآن ويقتل الخنزير ويكسر الصليب بدليل الآية الآتية وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وكما هو ثابت في حديث البخاري. وهناك آراء أخرى في رفع عيسى إلى السماء، والقرآن الكريم لا يثبت الرفع ولا ينفيه (والله أعلم بكلامه) وكان الله عزيزا لا يغالب أبدا، فهو الذي أنقذ عيسى من كيد اليهود وعصم محمدا من الناس جميعا، حكيما في كل فعل وعمل.
وما من أحد من أهل الكتاب سواء كان يهوديا أو نصرانيا إلا ليؤمنن بعيسى إيمانا صحيحا قبل موته، أى: عند خروج روحه بلا إفراط ولا تفريط، فاليهودى يؤمن أنه
(٢) سورة آل عمران الآية ٥٥.

رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والنصراني يؤمن بأنه رسول الله وعبده وكلمته فليس إلها ولا ابن الإله.
وإذا كان حالهم هكذا قبل الموت ولا ينفعهم الإقرار حينئذ فما بالهم لا يسرعون في الإيمان بعيسى إيمانا صحيحا؟
وقيل: وما من أهل الكتاب أحد من المعاصرين لنزول عيسى آخر الزمان إلا ليؤمنن بعيسى قبل موته، أى: موت عيسى أو موت ذلك الكتابي، ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا، يشهد بإيمانهم به وبكفرهم فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [سورة النساء آية ٤١].
ودعاة المسيحية:
يقولون بصلب المسيح- عليه السلام- وينسجون لهذا قصة الخطيئة الخاصة بأبينا آدم وأن العدل والرحمة تقاتلا حتى انتهى الأمر إلى صلب المسيح كفارة لخطايا شعبه أو للعالم | إلخ، ما هو مدون في كتبهم، ونحن إذ ننكر هذه العقيدة لا نقول باستحالتها على عيسى كبشر وإنما لأن القرآن نفاها نفيا باتا وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ. |
وهو الكتاب الوحيد الذي نقل بالتواتر نقلا سليما لا شبهة فيه لأى منصف بدليل أنه لا يختلف في أى بلد من بلاد العالم في كلمة وأما الكتب الأخرى التي فيها الصلب فهي كتابة أفراد لم تنقل بالتواتر وليس مصدرها واحدا ولذا نراها مختلفة جدا في الشكل والموضوع اقرءوا إن شئتم إنجيل برنابا وبعض الأناجيل الأخرى وهل من كتب من أتباع المسيح بالصلب شاهده أو هو خبر يحتمل الصدق والكذب؟؟! وكيف يتصور عاقل أن قوما يؤمنون بأن عيسى إله أو ابنه أو واحد من ثلاثة ثم يؤمنون مع هذا بأنه صلب على خشبة مع اعترافهم بأن المسيح تألم وبكى من هذا القتل وتضرع إلى الله أن يكشف عنه هذا السوء فقد ورد في الإنجيل: (يا أبتاه إن أمكنك فلتعبر عنى هذه الكأس إن لم يمكن أن تعبر عنى هذه الكأس إلا أن أشربها فلتكن مشيئتك). صفحة رقم 457