
١٣٥ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾
القسط: العدل (١)، ومضى الكلام فيه (٢).
وقوّام مبالغة من قائم، كأنه قيل: كونوا قائمين بالقسط (٣).
والقائم بالشيء معناه الكفيل به الذي يأتي به على وجهه.
قال ابن عباس: معناه: كونوا قوَّالين بالعدل في الشهادة، على من كانت، ولو على أنفسكم (٤).
وانتصب قوله: ﴿شُهَدَاءَ لِلَّهِ﴾ على الحال من ﴿قَوَّامِينَ﴾، ويجوز أن يكون خبر ﴿كُونُوا﴾، على أن لها خبرين بمنزلة خبر واحد، ونحو هذا: حلو حامض، وجائز أن يكون صفة لقوامين (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾، قال عطاء: يريد وقولوا الحق، ولو على أنفسكم، وإن كان فيه مضرة عليكم (٦).
وشهادة الإنسان على نفسه: هو إقراره بما عليه من الحق (٧)، وذلك الإقرار شهادة منه على نفسه، فكأنه قيل: ولو كان لأحد عليكم حق فأقروا به على أنفسكم.
(٢) انظر تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾ [النساء: ٣].
(٣) انظر: الطبري ٥/ ٣٢١، و"زاد المسير" ٢/ ٢٢٢.
(٤) من "الكشف والبيان" ٤/ ١٣١، والأثر بمعناه في تفسير ابن عباس ص ١٦١، وأخرجه الطبري ٥/ ٣٢٢، من طريق علي بن أبي طلحة أيضًا.
(٥) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٤٦٠، و"الدر المصون" ٤/ ١١٣، وقد رجح كل منهما القول الأول.
(٦) لم أقف عليه.
(٧) "النكت والعيون" ١/ ٥٣٤، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٢٢٢.

وقال أبو إسحاق: المعنى: قوموا بالعدل واشهدوا الله (١) بالحق، وإن كان الحق على نفس الشاهد، أو على والديه، أو أقربيه (٢).
وقوله تعالى: ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا﴾ اسم كان مضمر، على تقدير: إن يكن المشهود عليه ومن يخاصم غنيًا أو فقيرًا (٣).
قال ابن عباس: يقول: لا تُحابوا غنيًا لغناه، ولا ترحموا فقيرًا لفقره (٤).
قال عطاء: يريد يكونون عندكم سواء، لا تحيفوا على الفقير، ولا تُعظِّموا الغني، وتمسكوا عن القول فيه (٥).
يريد: يكون شأنكم العدل والصدق في القريب والبعيد، والغني والفقير.
وقوله تعالى: ﴿فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾ ولم يقل به وكان الغنى والفقر صفة مشهود عليه واحد، لأن المعنى: فالله أولى بكل واحد منهما.
قال الزجاج: أي: إن يكن المشهود عليه غنيًّا فالله أولى به، وكذلك إن يكن المشهود عليه فقيرًا فالله أولى به (٦). فجمعهما في الكناية لهذا المعنى.
ومعنى: ﴿فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾ أي: أعلم بهما منكم؛ لأنه يتولى علم أحوالهما من الغنى والفقر.
وهذا معنى قول الحسن: الله أعلم بغناهم وفقرهم (٧).
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١١٨، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٢٢٢.
(٣) انظر: الطبري ٥/ ٣٢٣، و"معاني الزجاج" ٢/ ١١٨، و"إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٤٦٠، و"زاد المسير" ٢/ ٢٢٢.
(٤) "الكشف والبيان" ٤/ ١٣١ ب.
(٥) انظر: "زاد المسير" ٢/ ٢٢٢.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١١٨، وانظر: "زاد المسير" ٢/ ٢٢٢.
(٧) انظر: "تفسير كتاب الله العزيز" ١/ ٤٣٠، و"معالم التنزيل" ٢/ ٢٩٨.

وقوله تعالى: ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾، أكثر المفسرين على أن هذا من العدول الذي هو الميل والجور، على معنى: واتقوا أن تعدلوا (١)، فحذف؛ لأن في النهي عن اتباع الهوى دليلًا على الأمر بالتقوى.
وهذا معنى قول مقاتل، لأنه قال: ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى﴾ في الشهادة، واتقوا الله ﴿أَنْ تَعْدِلُوا﴾ عن الحق إلى الهوى (٢).
وقال ابن عباس: يريد أن تميلوا عن العدل، وهو قول الكلبي أيضًا (٣).
وعند الفراء والزجاج: يجوز أن يكون ﴿تَعْدِلُوا﴾ من العدل على معنى: ولا تتبعوا الهوى لتعدلوا، كما تقول: لا تتبعن هواك لترضي ربك، أي: أنهاك عن هذا كيما (٤) ترضي ربك. قاله الفراء (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا﴾ يجوز أن يكون من لوي بمعنى المدافعة (٦)، ويجوز أن يكون من لوى الشيء إذا قتله (٧)، وكلاهما قريب.
قال مجاهد: ﴿وَإِنْ تَلْوُوا﴾ تبدِّلوا الشهادة ﴿أَوْ تُعْرِضُوا﴾ تكتموها فلا تقيموها (٨).
(٢) "تفسيره" ١/ ٤١٤، وانظر: و"زاد المسير" ٢/ ٢٢٢.
(٣) لم أقف عليهما.
(٤) في المخطوط "كما"، وهو تصحيف ظاهر، انظر: "معاني الفراء" ١/ ٢٩١.
(٥) "معاني القرآن" ١/ ٢٩١، وانظر: "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٢/ ١١٨.
(٦) انظر: الطبري ٥/ ٣٢٥، و"معاني الزجاج" ٢/ ١١٨.
(٧) انظر: "اللسان" ٧/ ٤١٠٧ (لوى).
(٨) "تفسيره" ١/ ١٧٨، وأخرجه الطبري ٥/ ٣٢٣ من طرق، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" ٢/ ٤١٤ إلى البيهقي.

وهذا من ليّ اللسان، كأنه لواها من الحق إلى الباطل. ونحو ذلك قال السدي: اللي: الدفع والإعراض: الجحود (١). وهو من قولهم: [لوى] (٢) حقه، إذا مطله ودفعه (٣).
وقال مقاتل: ﴿وَإِنْ تَلْوُوا﴾ يعني التحريف للشهادة، يلجلج بها لسانه فلا يقيمها ليبطل شهادته، ﴿أَوْ تُعْرِضُوا﴾ عنها فلا تشهدوا بها (٤).
وقال عطية العوفي: ﴿وَإِنْ تَلْوُوا﴾ "تلجلجوا في الشهادة فتفسدوها، ﴿تُعْرِضُوا﴾ بتركها" (٥).
وفي قوله: ﴿وَإِنْ تَلْوُوا﴾ قراءتان: إحداهما - بواوين. والأخرى تلُوا اللام (٦).
فمن قرأ بواوين فحجته: ما رُوي عن ابن عباس أنه فسر هذا بأنه القاضي، ليُّهُ وإعراضه لأحد الخصمين على الآخر (٧).
(٢) ما بين المعقوفين في المخطوط: "لوا" وهو خطأ في "الإملاء".
(٣) انظر: الطبري ٥/ ٤٢٥، و"معاني الزجاج" ٢/ ١١٨، و"الكشف والبيان" ٤/ ١٣١ ب، و"النكت والعيون" ١/ ٥٣٤.
(٤) "تفسيره" ١/ ٤١٤.
(٥) أخرجه الطبري ٥/ ٣٢٤.
(٦) هكذا في المخطوط، ولعل في الكلام سقطًا، فإن استقامة الكلام: "بواو واحدة وضم اللام" انظر: "الحجة" ٣/ ١٨٥، وهذِه القراءة لحمزة وابن عامر، والقراءة الأولى للباقين. انظر: "السبعة" ص ٢٣٩، و"الحجة" ٣/ ١٨٥، و"المبسوط" ص ١٥٩، و"تحبير التيسير في قراءات الأئمة العشرة" ص ١٠٦.
(٧) "الحجة" ٣/ ١٨٥، والأثر عن ابن عباس أخرجه الطبري ٥/ ٣٢٣، وانظر: "الكشف والبيان" ٤/ ١٣٢ أ، و"زاد المسير" ٢/ ٢٢٣

قال الزجاج: وجاء في التفسير أن لوى الحاكم في قضيته: أو أعرض (١).
﴿فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [النساء: ١٣٥] قال (٢): ويقال: لويت فلانًا حقه، إذا دافعته به ومطلته.
وكذلك جميع ما حكينا عن المفسرين في هذا الحرف يدل على صحة هذه القراءة.
قال الزجاج: وهذا هو الأشبه على ما جاء في التفسير (٣).
وحجة من قرأ: ﴿تلوا﴾ بواو واحدة أن يقول: إن ﴿تلوا﴾ في هذا الموضع حسن، لأن ولاية الشيء إقبال عليه، وخلاف الإعراض عنه، فالمعنى: إن تقبلوا أو تعرضوا، فلا تلوا، فإن الله كان بما تعملون خبيرًا، فيجازي المحسن المقبل بإحسانه، والمسيء المعرض بإعراضه (٤).
وقال المبرد: إن للولاية ههنا وجهًا حسنًا، يقول: إن تلوا إقامتها أو تعرضوا عن إقامتها (٥).
وقال قطرب: (إن تلوا) من الولاية، يريد: إن تلوا القيام بالحق وتتولوه، أو تعرضوا عنه فلا تقوموا به (٦).
وذكر أبو إسحاق والفراء جميعًا لهذه القراءة وجهًا آخر: وهو أنه يجوز أن يكون (تلُوا) أصله: تَلْوُوا، فأبدل من الواو المضمومة همزة، ثم
(٢) أي: الزجاج.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١١٨.
(٤) "الحجة" ٣/ ١٨٥، وانظر: "إعراب القراءات السبع" لابن خالويه ١/ ١٣٨.
(٥) لم أقف عليه.
(٦) لم أقف عليه.