سورة ص
مكية كما روي عن ابن عباس وغيره، وقيل مدنية وليس بصحيح كما قال الداني وهي ثمان وثمانون آية في الكوفي وست وثمانون في الحجازي والبصري والشامي وخمس وثمانون في عد أيوب بن المتوكل وحده، قيل ولم يقل أحد إن ص وحدها آية كما قيل في غيرها من الحروف في أوائل السور، وفيه بحث وهي كالمتممة لما قبلها من حيث إنه ذكر فيها ما لم يذكر في تلك من الأنبياء عليهم السلام كداود وسليمان، ولما ذكر سبحانه فيما قبل عن الكفار أنهم قالوا لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات: ١٦٩] وأنهم كفروا بالذكر لما جاءهم بدأ عز وجل في هذه السورة بالقرآن ذي الذكر وفصل ما أجمل هناك من كفرهم وفي ذلك من المناسبة ما فيه، ومن دقق النظر لاح له مناسبات أخر والله تعالى الموفق.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ص بالسكون على الوقف عند الجمهور، وقرأ أبي والحسن وابن أبي إسحاق وأبو السمال وابن أبي عبلة ونصر بن عاصم «صاد» بكسر الدال والظاهر أنه كسر لالتقاء الساكنين وهو حرف من حروف المعجم نحو ق ون.
وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه أمر من صادى أي عارض، ومنه الصدى وهو ما يعارض الصوت الأول ويقابله بمثله في الأماكن الخالية والأجسام الصلبة العالية، والمعنى عارض القرآن بعملك أي اعمل بأوامره ونواهيه، وقال عبد الوهاب: أي اعرضه على عملك فانظر أين عملك من القرآن، وقيل هو أمر من صادى أي حادث، والمعنى حادث القرآن، وهو رواية عن الحسن أيضا وله قرب من الأول. وقرأ عيسى ومحبوب عن أبي عمرو وفرقة «صاد» بفتح الدال، وكذا قرؤوا قاف ونون بالفتح فيهما فقيل هو لالتقاء الساكنين أيضا طلبا للخفة، وقيل هو حركة إعراب على أن «صاد» منصوب بفعل مضمر أي اذكر أو اقرأ صاد أو بفعل القسم بعد نزع الخافض لما فيه من معنى التعظيم المتعدي بنفسه نحو الله لأفعلن أو مجرور بإضمار حرف القسم، وهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث بناء على أنه علم السورة، وقد ذكر الشريف أنه إذا اشتهر مسمى بإطلاق لفظ عليه يلاحظ المسمى في ضمن ذلك اللفظ وأنه بهذا الاعتبار يصح اعتبار التأنيث في الاسم. وقرأ ابن أبي إسحاق في رواية «صاد» بالجر والتنوين، وذلك إما لأن الثلاثي الساكن الوسط يجوز صرفه بل قيل إنه الأرجح، وإما لاعتبار ذلك اسما للقرآن كما هو أحد الاحتمالات فيه فلم يتحقق فيه العلتان فوجب صرفه، والقول بأن ذاك لكونه علما لمعنى السورة لا للفظها فلا تأنيث فيه مع العلمية ليكون هناك علتان لا يخلو عن دغدغة. وقرأ ابن السميفع وهارون الأعور والحسن في رواية «صاد» بضم الدال، وكأنه اعتبر اسما للسورة وجعل خبر مبتدأ محذوف أي هذه صاد، ولهم في معناه غير متقيدين بقراءة الجمهور اختلاف كاضرابه من أوائل السور، فأخرج عبد بن حميد عن أبي صالح قال: سئل جابر بن عبد الله وابن عباس عن «ص» فقالا: ما ندري ما هو، وهو مذهب كثير في نظائره، وقال عكرمة: سئل نافع بن الأزرق عبد الله بن عباس عن «ص» فقال: ص كان بحرا بمكة وكان عليه عرش الرحمن إذ لا ليل ولا نهار.
وقال ابن جبير: هو بحر يحيي الله تعالى به الموتى بين النفختين، والله تعالى أعلم بصحة هذين الخبرين.
وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال ص صدق الله، وأخرج ابن مردويه عنه أنه قال ص يقول إني أنا الله الصادق، وقال محمد بن كعب القرظي: هو مفتاح أسماء الله تعالى صمد وصانع المصنوعات وصادق الوعد.
وقيل هو إشارة إلى صدود الكفار عن القرآن. وقيل حرف مسرود على منهاج التحدي، وجنح إليه غير واحد من أرباب التحقيق، وقيل اسم للسورة وإليه ذهب الخليل وسيبويه والأكثرون، وقيل اسم للقرآن وقيل غير ذلك باعتبار بعض القراءات كما سمعت عن قريب، ومن الغريب أن المعنى صاد محمد صلّى الله عليه وسلم قلوب الخلق واستمالها حتى آمنوا به، ولعل القائل به اعتبره فعلا ماضيا مفتوح الآخر أو ساكنه للموقف، وأنا لا أقول به ولا أرتضيه وجها، وهو على بعض هذه الأوجه لا حظّ له من الإعراب، وعلى بعضها يجوز أن يكون مقسما به ومفعولا لمضمر وخبر مبتدأ محذوف، وعلى بعضها يتعين كونه مقسما به، وعلى بعض ما تقدم في القراءات يتأتى ما يتأتى مما لا يخفى عليك، وبالجملة إن لم يعتبر مقسما به فالواو في قوله سبحانه وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ للقسم وإن اعتبر مقسما به فهي للعطف عليه لكن إذا كان قسما منصوبا على الحذف والإيصال يكون العطف عليه باعتبار المعنى والأصل، ثم المغايرة بينهما قد تكون حقيقية كما إذا أريد بالقرآن كله وب ص السورة أو بالعكس أو أريد ب ص البحر الذي قيل به فيما مر وبالقرآن كله أو بالسورة، وقد تكون اعتبارية كما إذا أريد بكل السورة أو القرآن على ما قيل، ولا يخفى ما تقتضيه الجزالة الخالية عن التكلف.
وضعف جعل الواو للقسم أيضا بناء على قول جمع أن توارد قسمين على مقسم عليه واحد ضعيف، والذكر كما أخرج ابن جرير عن ابن عباس الشرف ومنه قوله تعالى وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: ٤٤] أو الذكرى
والموعظة للناس على ما روي عن قتادة والضحاك، أو ذكر ما يحتاج إليه في أمر الدين من الشرائع والأحكام وغيرها من أقاصيص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأخبار الأمم الدارجة والوعد والوعيد على ما قيل، وجواب القسم قيل مذكور فقال الكوفيون والزجاج هو قوله تعالى إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ص: ٦٤] وتعقبه الفراء بقوله: لا نجده مستقيما لتأخر ذلك جدا عن القسم، وقال الأخفش: هو إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ [ص: ١٤] وقال قوم: كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ [الأنعام: ٦، ص: ٣] وحذفت اللام أي لكم لما طال الكلام كما حذفت من قَدْ أَفْلَحَ [الشمس: ٩] بعد قوله تعالى: وَالشَّمْسِ [الشمس: ١٠] حكاه الفراء وثعلب، وتعقبه الطبرسي بأنه غلط لأن اللام لا تدخل على المفعول وكَمْ مفعول.
وقال أبو حيان: إن هذه الأقوال يجب اطراحها، ونقل السمرقندي عن بعضهم أنه بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا إلخ فإن بَلِ لنفي ما قبله وإثبات ما بعده فمعناه ليس الذين كفروا إلا في عزة وشقاق.
وجوز أن يريد هذا القائل أن بَلِ زائدة في الجواب أو ربط بها الجواب لتجريدها لمعنى الإثبات، وقيل هو صاد إذ معناه صدق الله تعالى أو صدق محمد صلّى الله عليه وسلم ونسب ذلك إلى الفراء وثعلب، وهو مبني على جواز تقدم جواب القسم واعتقاد أن ص تدل على ما ذكر، ومع هذا في كون ص نفسه هو الجواب خفاء، وقيل هو جملة هذه صاد على معنى السورة التي أعجزت العرب فكأنه: قيل هذه السورة التي أعجزت العرب والقرآن ذي الذكر وهذا كما تقول:
هذا حاتم والله تريد هذا هو المشهور بالسخاء والله، وهو مبني على جواز التقدم أيضا، وقيل هو محذوف فقدره الحوفي لقد جاءكم الحق ونحوه، وابن عطية ما الأمر كما تزعمون ونحوه، وقدره بعض المحققين ما كفر من كفر لخلل وجده ودل عليه بقوله تعالى بَلِ الَّذِينَ إلخ، وآخر إنه لمعجز ودل عليه ما في ص من الدلالة على التحدي بناء على أنه اسم حرف من حروف المعجم ذكر على سبيل التحدي والتنبيه على الإعجاز أو ما في أقسم بص أو هذه ص من الدلالة على ذلك بناء على أنه اسم للسورة أو أنه لواجب العمل به دل عليه ص بناء على كونه أمرا من المصاداة، وقدره بعضهم غير ذلك، وفي البحر ينبغي أن يقدر هنا ما أثبت جوابا للقسم بالقرآن في قوله تعالى:
يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [يس: ١، ٣].
ويقوي هذا التقدير ذكر النذارة هنا في قوله تعالى وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وهناك في قوله سبحانه:
لِتُنْذِرَ قَوْماً [يس: ٦] فالرسالة تتضمن النذارة والبشارة، وجعل بل في قوله تعالى: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ للانتقال من هذا القسم والمقسم عليه إلى ذكر حال تعزز الكفار ومشاقتهم في قبولهم رسالته صلّى الله عليه وسلم وامتثال ما جاء به وهي كذلك على كثير من الوجوه السابقة، وقد تجعل على بعضها للإضراب عن الجواب بأن يقال مثلا: إنه لمعجز بل الذين كفروا في استكبار من الإذعان لإعجازه أو هذه السورة التي أعجزت العرب بل الذين كفروا لا يذعنون، وجعلها بعضهم للإضراب عما يفهم مما ذكر ونحوه من أن من كفر لم يكفر لخلل فيه فكأنه قيل: من كفر لم يكفر لخلل فيه بل كفر تكبرا عن اتباع الحق وعنادا، وهو أظهر من جعل ذلك إضرابا عن صريحه، وإن قدر نحو هذا المفهوم جوابا فالإضراب عنه قطعا، وفي الكشف عد هذا الإضراب من قبيل الإضراب المعنوي على نحو زيد عفيف عالم بل قومه استخفوا به على الإضراب عما يلزم الأوصاف من التعظيم كما نقل عن بعضهم عدول عن الظاهر، ويمكن أن يكون الجواب الذي عنه الإضراب ما أنت بمقصر في تذكير الذين كفروا وإظهار الحق لهم، ويشعر به الآيات بعد وسبب النزول الآتي ذكره إن شاء الله تعالى فكأنه قيل ص والقرآن ذي الذكر ما أنت بمقصر في تذكير الذين كفروا وإظهار الحق لهم بل الذين كفروا مقصرون في اتباعك والاعتراف بالحق، ووجه دلالة ما في النظم
الجليل على قولنا بل الذين كفروا مقصرون إلخ ظاهر، وهذه عدة احتمالات بين يديك وإليك أمر الاختيار والسلام عليك.
والمراد بالعزة ما يظهرونه من الاستكبار عن الحق لا العزة الحقيقية فإنها لله تعالى ولرسوله صلّى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وأصل الشقاق المخالفة وكونك في شق غير شق صاحبك أو من شق العصا بينك وبينه، والمراد مخالفة الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم، والتنكير للدلالة على شدتهما، والتعبير بفي على استغراقهم فيهما.
وقرأ حماد بن الزبرقان وسورة عن الكسائي وميمونة عن أبي جعفر والجحدري من طريق العقيلي في «غرة» بالغين المعجمة المكسورة والراء المهملة أي في غفلة عظيمة عما يجب عليهم من النظر فيه، ونقل عن ابن الأنباري أنه قال في كتاب الرد على من خالف الإمام: إنه قرأ بها رجل وقال: إنها أنسب بالشقاق وهو القتال بجد واجتهاد وهذه القراءة افتراء على الله تعالى اه وفيه ما فيه.
كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ وعيد لهم على كفرهم واستكبارهم ببيان ما أصاب أضرابهم، وكَمْ مفعول أَهْلَكْنا ومِنْ قَرْنٍ تمييز، والمعنى قرنا كثيرا أهلكنا من القرون الخالية فَنادَوْا عند نزول بأسنا وحلول نقمتنا استغاثة لينجوا من ذلك، وقال الحسن وقتادة: رفعوا أصواتهم بالتوبة حين عاينوا العذاب لينجوا منه وَلاتَ حِينَ مَناصٍ حال من ضمير (نادوا) والعائد مقدر وإن لم يلزم أي مناصهم ولات هي لا المشبهة بليس عند سيبويه زيدت عليها تاء التأنيث لتأكيد معناها وهو النفي لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى أو لأن التاء تكون للمبالغة كما في علامة أو لتأكيد شبهها بليس بجعلها على ثلاثة أحرف ساكنة الوسط، وقال الرضي: إنها لتأنيث الكلمة فتكون لتأكيد التأنيث واختصت بلزوم الأحيان ولا يتعين لفظ الحين إلا عند بعض وهو محجوج بسماع دخولها على مرادفه، وقول المتنبي:
لقد تصبرت حتى لات مصطبر | والآن أقحم حتى لات مقتحم |
طلبوا صلحنا ولات أوان | فأجبنا أن لات حين بقاء |
والخبر محذوف على قول غيره، وخرج الأخفش ولات أو أن على إضمار حين أي ولات حين أوان صلح فحذفت حين وأبقى أوان على جره، وقيل: إن أوان في البيت مبني على الكسر وهو مشبه بإذ في قول أبي ذؤيب:
نهيتك عن طلابك أم عمرو | بعاقبة وأنت إذ صحيح |
لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت | حمامة في غصون ذات إرقال |
العاطفون تحين لا من عاطف | والمطعمون زمان ما من مطعم |
غمر الجراء إذا قصرت عنانه | بيدي استناص ورام جري المسحل |
تذكرت ليلى لات حين تذكر | وقد بنت عنها والمناص بعيد |
وكون الأصل ما ذكر أن حِينَ ظرف لنادوا دعوى أعجمية مخالفة لذوق الكلام العربي لا سيما ما هو أفصح الكلام ولا أدري ما الذي دعاه لذلك وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ حكاية لأباطيلهم المتفرعة على ما كان من استكبارهم وشقاقهم أي عجبوا من أن جاءهم رسول من جنسهم أي بشر أو من نوعهم وهم معروفون بالأمية فيكون المعنى رسول أمي، والمراد أنهم عدوا ذلك أمرا عجيبا خارجا عن احتمال الوقوع وأنكروه أشد الإنكار لا أنهم اعتقدوا وقوعه وتعجبوا منه وَقالَ الْكافِرُونَ وضع فيه الظاهر موضع الضمير غضبا عليهم وذما لهم وإيذانا بأنه لا يتجاسر على مثل ما يقولون إلا المتوغلون في الكفر والفسوق هذا ساحِرٌ فيما يظهره مما لا نستطيع له مثلا كَذَّابٌ فيما يسنده إلى الله عز وجل من الإرسال والإنزال.
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً بأن نفي الألوهية عنها وقصرها على واحد فالجعل بمعنى التصيير وليس تصييرا في الخارج بل في القول والتسمية كما في قوله تعالى وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف: ١٩] وليس ذلك من باب إنكار وحدة الوجود في شيء ليقال إن الله سبحانه نعى على الكفرة ذلك الإنكار فتثبت الوحدة فإنه عليه الصلاة والسلام ما قال باتحاد آلهتهم معه عز وجل في الوجود إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ أي بليغ في العجب فإن فعالا بناء مبالغة كرجل طوال وسراع، ووجه تعجبهم أنه خلاف ما ألفوا عليه آباءهم الذين أجمعوا على تعدد الآلهة وواظبوا على عبادتها وقد كان مدارهم في كل ما يأتون ويذرون التقليد فيعدون خلاف ما اعتادوه عجيبا بل محالا، وقيل مدار تعجبهم زعمهم عدم وفاء علم الواحد وقدره بالأشياء الكثيرة وهو لا يتم إلا إن ادعوا لآلهتهم علما صفحة رقم 159
وقدرة، والظاهر أنهم لم يدعوهما لها وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: ٢٥، الزمر:
٣٨].
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والسلمي وعيسى وابن مقسم «عجّاب» بشد الجيم وهو أبلغ من المخفف، وقال مقاتل عُجابٌ لغة أزد شنوءة،
أخرج أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس قال: لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل فقالوا: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويقول ويقول فلو بعثت إليه فنهيته فبعث إليه فجاء النبي صلّى الله عليه وسلم فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس فخشي أبو جهل إن جلس إلى أبي طالب أن يكون أرق عليه فوثب فجلس في ذلك المجلس فلم يجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم مجلسا قرب عمه فجلس عند الباب فقال له أبو طالب: أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول قال وأكثروا عليه من القول وتكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها يدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية ففرحوا لكلمته ولقوله فقال القوم: ما هي؟ وأبيك لنعطينكها وعشرا قال: لا إله إلا الله فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون: أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب.
وفي رواية أنهم قالوا: سلنا غير هذا فقال عليه الصلاة والسلام «لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها» فغضبوا وقاموا غضابا وقالوا والله لنشتمنك وإلهك الذي يأمرك بهذا.
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أي وانطلق الأشراف من قريش من مجلس أبي طالب بعد ما بكّتهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وشاهدوا تصلبه في الدين ويئسوا مما كانوا يرجونه منه عليه الصلاة والسلام بواسطة عمه وكان منهم أبو جهل والعاص ابن وائل والأسود بن المطلب بن عبد يغوث وعقبة بن أبي معيط.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مجلز قال: قال رجل يوم بدر ما هم إلا النساء فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: بل هم الملأ وتلا وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ
أَنِ امْشُوا الظاهر أنه أمر بالمشي بمعنى نقل الأقدام عن ذلك المجلس، وأَنِ مفسرة فقيل في الكلام محذوف وقع حالا من الملأ أي انطلق الملأ يتحاورون والتفسير لذلك المحذوف وهو متضمن معنى القول دون لفظه، وقيل لا حاجة إلى اعتبار الحذف فإن الانطلاق عن مجلس التقاول يستلزم عادة تفاوض المنطلقين وتحاورهم بما جرى فيه وتضمن المفسر لمعنى القول أعم من كونه بطريق الدلالة وغيرها كالمقارنة ومثل ذلك كاف فيه، وقيل الانطلاق هنا الاندفاع في القول فهو متضمن لمعنى القول بطريق الدلالة، وإطلاق الانطلاق على ذلك الظاهر أنه مجاز مشهور نزل منزلة الحقيقة، وجوز أن يكون التجوز في الإسناد وأصله انطلقت ألسنتهم والمعنى شرعوا في التكلم بهذا القول، وقال بعضهم: المراد بامشوا سيروا على طريقتكم وداوموا على سيرتكم، وقيل هو من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها ومنه الماشية وسميت بذلك لأنها من شأنها كثرة الولادة أو تفاؤلا بذلك والمراد لازم معناه أي أكثروا واجتمعوا، وقيل هو دعاء بكثرة الماشية افتتحوا به كلامهم للتعظيم كما يقال اسلم أيها الأمير واختاروه من بين الأدعية لعظم شأن الماشية عندهم. وتعقب بأنه خطأ لأن فعله مزيد يقال أمشى إذا كثرت ماشيته فكان يلزم قطع همزته والقراءة بخلافه مع أن إرادة هذا المعنى هنا في غاية البعد، وأيا ما كان فالبعض قال للبعض ذلك، وقيل قال الأشراف لأتباعهم وعوامهم، وقرىء «امشوا» بغير أن على إضمار القول دون إضمارها أي قائلين امشوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ أي اثبتوا على عبادتها متحملين لما تسمعونه في حقها من القدح.
وقرأ ابن مسعود «وانطلق الملأ منهم يمشون أن اصبروا» فجملة «يمشون» حالية أو مستأنفة والكلام في «أن صبروا» كما في «أن امشوا» سواء تعلق بانطلق أو بما يليه إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ تعليل للأمر بالصبر أو لوجوب
الامتثال به، والإشارة إلى ما وقع وشاهدوه من أمر النبي صلّى الله عليه وسلم وتصلبه في أمر التوحيد ونفي الوهية آلهتهم أي إن هذا لشيء عظيم يراد من جهته صلّى الله عليه وسلم امضاؤه وتنفيذه لا محالة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه لا قول يقال من طرف اللسان أوامر يرجى فيه المسامحة بشفاعة إنسان فاقطعوا أطماعكم عن استنزاله إلى إرادتكم واصبروا على عبادة آلهتكم، وقيل: إن هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر يراد بنا فلا حيلة إلا تجرع مرارة الصبر، وقيل: إن هذا الذي يدعيه من أمر التوحيد أو يقصده من الرئاسة والترفع على العرب والعجم لشيء يتمنى أو يريده كل أحد ولكن لا يكون لكل ما يتمناه أو يريده فاصبروا، وقيل: إن هذا أي دينكم يطلب لينتزع منكم ويطرح أو يراد ابطاله، وقيل: الإشارة إلى الصبر المفهوم من اصْبِرُوا أي إن الصبر لشيء مطلوب لأنه محمود العاقبة.
وقال القفال: هذه كلمة تذكر للتهديد والتخويف، والمعنى أنه ليس غرضه من هذا القول تقرير الدين وإنما غرضه أن يستولي علينا فيحكم في أموالنا وأولادنا بما يريد فتأمل.
ما سَمِعْنا بِهذا الذي يقوله فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ قال ابن عباس ومجاهد ومحمد بن كعب ومقاتل أرادوا ملة النصارى، والتوصيف بالآخرة بحسب الاعتقاد لأنهم الذين لا يؤمنون بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلم ومرادهم من قولهم ما سمعنا إلخ إنا سمعنا خلافه وهو عدم التوحيد فإن النصارى كانوا يثلثون ويزعمون أنه الدين الذي جاء به عيسى عليه السلام وحاشاه، وعن مجاهد أيضا وقتادة أرادوا ملة العرب ونحلتها التي أدركوا عليها آباءهم، وجوز أن يكون في الملة الآخرة حالا من اسم الإشارة لا متعلقا بسمعنا أي ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إليه من التوحيد كائنا في الملة التي تكون آخر الزمان أرادوا أنهم لم يسمعوا من أهل الكتاب والكهان الذين كانوا يحدثونهم قبل بعثة النبي صلّى الله عليه وسلم بظهور نبي أن في دينه التوحيد ولقد كذبوا في ذلك فإن حديث إن النبي المبعوث آخر الزمان يكسر الأصنام ويدعو إلى توحيد الملك العلام كان أشهر الأمور قبل الظهور، وإن أرادوا على هذا المعنى إنا سمعنا خلاف ذلك فكذبهم أقبح إِنْ هذا أي ما هذا.
إِلَّا اخْتِلاقٌ أي افتعال وافتراء من غير سبق مثل له أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ أي القرآن مِنْ بَيْنِنا ونحن رؤساء الناس وأشرافهم كقولهم لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣٢] ومرادهم إنكار كونه ذكرا منزلا من عند الله تعالى كقولهم لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [الأحقاف: ١١] وأمثال هذه المقالات الباطلة دليل على أن مناط تكذيبهم ليس إلا الحسد وقصر النظر على الحطام الدنيوي بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي من القرآن الذي أنزلته على رسولي المشحون بالتوحيد لميلهم إلى التقليد وإعراضهم عن الأدلة المؤدية إلى العلم بحقيته وليس في عقيدتهم ما يقطعون به فلذا تراهم ينسبونه إلى السحر تارة وإلى الاختلاق أخرى قيل للاضراب عن جميع ما قبله، وبل في قوله تعالى بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ إضراب عن مجموع الكلامين السابقين حديث الحسد في قوله تعالى أَأُنْزِلَ إلخ وحديث الشك في قوله تعالى بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ أي لم يذوقوا عذابي بعد فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الحسد والشك حينئذ يعني أنهم لا يصدقون إلا أن يمسهم العذاب فيضطروا إلى التصديق أو إضراب عن الإضراب قبله أي لم يذوقوا عذابي بعد فإذا ذاقوه زال شكهم واضطروا إلى التصديق بذكرى، والأول على ما في الكشف هو الوجه السديد وينطبق عليه ما بعد من الآيات، وقيل المعنى لم يذوقوا عذابي الموعود في القرآن ولذلك شكوا فيه وهو كما ترى، وفي التعبير بلما دلالة على أن ذوقهم العذاب على شرف الوقوع، وقوله تعالى:
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ في مقابلة قوله سبحانه أَأُنْزِلَ إلخ، ونظيره في رد نظيره
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف: ٣٢] وأم منقطعة مقدرة ببل والهمزة، والمراد بالعندية الملك والتصرف لا مجرد الحضور.
وتقديم الظرف لأنه محل الإنكار أي بل أيملكون خزائن رحمته تعالى ويتصرفون فيها حسبما يشاؤون حتى أنهم يصيبون بها من شاؤوا ويصرفونها عمن شاؤوا ويتحكمون فيها بمقتضى رأيهم فيتخيروا للنبوة بعض صناديدهم.
وإضافة الرب إلى ضميره صلّى الله عليه وسلم للتشريف واللطف به عليه الصلاة والسلام، والعزيز القاهر على خلقه، والوهاب الكثير المواهب المصيب بها مواقعها، وحديث العزة والقهر يناسب ما كانوا عليه من ترفعهم بالنبوة عنه صلّى الله عليه وسلم تجبرا.
والمبالغة في الوهاب من طريق الكمية تناسب قوله تعالى خَزائِنُ وتدل على حرمان لهم عظيم، وفي ذلك إدماج أن النبوة ليست عطاء واحدا بالحقيقة بل يتضمن عطايا جمة تفوت الحصر وهي من طريق الكيفية المشار إليها بإصابة المواقع للدلالة على أن مستحق العطاء ومحله من وهب ذلك وهو النبي صلّى الله عليه وسلم وفي الوصف المذكور أيضا إشارة إلى أن النبوة موهبة ربانية، وقوله تعالى أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ترشيح لما سبق أي بل لهم ملك هذه الأجرام العلوية والأجسام السفلية حتى يتكلموا في الأمور الربانية ويتحكموا في التدابير الإلهية التي يستأثر بها رب العزة والكبرياء، وقوله تعالى: فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ جواب شرط محذوف أي إن كان لهم ما ذكر من الملك فليصعدوا في المعارج والمناهج الذي يتوصل بها إلى السماوات فليدبروها وليتصرفوا فيها فإنهم لا طريق لهم إلى تدبيرها والتصرف فيها إلا ذاك أو إن ادعوا ما ذكر من الملك فليصعدوا وليتصرفوا حتى يظن صدق دعواهم فإنه لا أمارة عندهم على صدقها فلا أقل من أن يجعلوا ذلك أمارة، وقال الزمخشري ومتابعوه: أي فليصعدوا في المعارج والطرق التي يتوصل بها إلى العرش حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم وملكوت الله تعالى وينزلوا الوحي إلى من يختارون ويستصوبون، وهو مناسب للمقام بيد أن فيه دغدغة، وأيا ما كان ففي أمرهم بذلك تهكم بهم لا يخفى، والسبب في الأصل الوصلة من الحبل ونحوه.
وعن مجاهد الأسباب هنا أبواب السماوات، وقيل السماوات أنفسها لأن الله تعالى جعلها أسبابا عادية للحوادث السفلية جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ أي هم جند إلخ، فجند خبر مبتدأ محذوف مقدر مقدما كما هو الظاهر وما مزيدة قيل للتقليل والتحقير نحو أكلت شيئا ما، وقيل للتعظيم والتكثير، واعترض بأنه لا يلائمه مَهْزُومٌ وأجيب بأن الوصف بالعظمة والكثرة على سبيل الاستهزاء فهي بحسب اللفظ عظمة وكثرة وفي نفس الأمر ذلة وقلة، ورجح بأن الأكثر في كلامهم كونها للتعظيم نحو لأمر ما جدع قصير أنفه- لأمر ما يسود من يسود.
وقول امرئ القيس:
وحديث الركب يوم هنا... وحديث ما على قصره
مع أن الكلام لتسليته صلّى الله عليه وسلم وتبشيره بانهزامهم وذلك أكمل على هذا التقدير قيل إن التبشير بخذلان عدد حقير ربما أشعر بإهانة وتحقير:
ألم تر أن السيف ينقص قدره... إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
وفيه نظر، وهُنالِكَ صفة جُنْدٌ أو ظرف مَهْزُومٌ وهو إشارة إلى المكان البعيد وأريد به على قول المكان الذي تفاوضوا فيه مع الرسول صلّى الله عليه وسلم بتلك الكلمات السابقة وهو مكة وجعل ذلك إخبارا بالغيب عن هزيمتهم يوم الفتح، وقيل يوم بدر وروي ذلك عن مجاهد وقتادة، وأنت خبير بأن هنالك إذا كان إشارة إلى مكة ومتعلقا بمهزوم لا
يتسنى هذا إلا إذا أريد من مكة ما يشمل بدرا، ومَهْزُومٌ خبر بعد خبر، وأصل الهزم غمز الشيء اليابس حتى ينحطم كهزم الشن وهزم القثاء والبطيخ ومنه الهزيمة لأنه كما يعبر عنه بالحطم والكسر، والتعبير عما لم يقع باسم المفعول المؤذن بالوقوع على ما في بعض شروح الكشاف للإيذان بشدة قربه حتى كأنه محقق، ومِنَ الْأَحْزابِ صفة جُنْدٌ أي هم جند قليلون أذلاء أو كثيرون عظماء كائنون هنالك من الكفار المتحزبين على الرسل مكسورون عن قريب أو جند من الأحزاب مكسورون عن قريب في مكانهم الذي تكلموا فيه بما تكلموا فلا تبال بما يقولون ولا تكترث بما يهذون. وقال أبو البقاء جُنْدٌ مبتدأ وما زائدة وهنالك نعت وكذا من الأحزاب ومهزوم خبر، وتعقبه أبو حيان بأن فيه بعد التفلتة عن الكلام الذي قبله، واعتبر الزمخشري الحصر أي ما هم إلا جند من المتحزبين مهزوم عن قريب لا يتجاوزون الجندية المذكورة إلى الأمور الربانية، وهو حسن إلا أنه اختلف في منشأ ذلك فقيل: إنه كان حق الجند أن يعرف لكونه معلوما فنكر سوقا للمعلوم مساق المجهول كأنه لا يعرف منهم إلا هذا القدر وهو أنهم جند بهذه الصفة.
وقال صاحب الكشف: إنه التفخيم المدلول عليه بالتنكير، وزيادة ما الدالة على الشيوع وغاية التعظيم لدلالتهما على اختصاص الوصف بالجندية من بين سائر الصفات كأنه لا وصف لهم غيرها، وفيه منع ظاهر، ويفهم كلام العلامة الثاني أنه اعتبار كون جُنْدٌ خبرا مقدما لمبتدأ محذوف لأن المقام يقتضي الحصر فتدبر ولا تغفل.
وجعل الزمخشري هُنالِكَ الموضوع للإشارة إلى المكان البعيد مستعارا للمرتبة من العلو والشرف على أنه إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم كما في قولهم لمن انتدب لأمر ليس من أهله لست هنالك وفيه إيماء إلى علة الذم وجوز على هذا أن تكون ما نافية أي هم جند ليسوا حيث وضعوا أنفسهم.
وتعقب بأنه مما لم يقله أحد من أهل العربية ولا يليق بالمقام وفيه بحث، وجوز أن تكون هُنالِكَ إشارة إلى الزمان البعيد وهي كما قال ابن مالك قد يشار بها إليه نحو قوله تعالى: هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ [يونس: ٣٠] وتتعلق بمهزوم، والكلام اخبار بالغيب إما عن هزيمتهم يوم الفتح أو يوم بدر كما تقدم حكايته أو يوم الخندق ولا يخفى ما فيه، وقيل: إشارة إلى زمان الارتقاء في الأسباب أي هؤلاء القوم جند مهزوم إذا ارتقوا في الأسباب وليس بالمرضي، وقيل: ما اسم موصول مبتدأ وهنالك في موضع الصلة وجند خبر مقدم ومهزوم ومن الأحزاب صفتان وهما المقصودان بالإفادة وما هنالك إشارة إلى مكة، والمراد من الذين فيها المشركون والتعبير عنهم بما لأنهم كالأنعام بل هم أضل، وقيل الأصنام وعبدتها، وأمر التعبير بما عليه أظهر ويقال فيه نحو ما قاله أبو حيان في كلام أبي البقاء وزيادة لا تخفى.
وقوله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ إلى آخره استئناف مقرر لمضمون ما قبله ببيان أحوال العتاة الطغاة مما فعلوا من التكذيب وفعل بهم من العقاب، وذُو الْأَوْتادِ صفة فرعون لا لجميع ما قبله وإلا لقيل ذوو الأوتاد، والْأَوْتادِ جمع وتد وهو معروف، وكسر التاء فيه أشهر من فتحها ويقال وتد واتد كما يقال شغل شاغل قاله الأصمعي وأنشد:
لاقت على الماء جذيلا واتدا | ولم يكن يخلفها المواعدا |
والبيت لا يبتنى إلا على عمد | ولا عماد إذا لم ترس أوتاد |
ولا الملك النعمان يوم لقيته | بنعمته يعطي القطوط ويطلق |
وروي هذا أيضا عن قتادة وابن جبير، وذلك أنهم سمعوا رسول الله ﷺ يذكر وعد الله تعالى المؤمنين الجنة فقالوا على سبيل الهزء: عجل لنا نصيبنا منها لنتنعم به في الدنيا
، قال السمرقندي: أقوى التفاسير أنهم سألوا أن يعجل لهم النعيم الذي كان يعده عليه الصلاة والسلام من آمن لقولهم ربنا ولو كان على ما يحمله أهل التأويل من سؤال العذاب أو الكتاب استهزاء لسألوا رسول الله ولم يسألوا ربهم، وفيه بحث يعلم مما مر آنفا.
اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ على ما يتجدد من أمثال هذه المقالات الباطلة المؤذية وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ أي اذكر لهم قصته عليه السلام تعظيما للمعصية في أعينهم وتنبيها لهم على كمال قبح ما اجترءوا عليه فإنه عليه السلام مع علو شأنه وإيتائه النبوة والملك لما ألم بما هو خلاف الأولى ناله ما ألمه وأدام غمه وندمه فما الظن بهؤلاء الكفرة الأذلين الذين لم يزالوا على أكبر الكبائر مصرين أو اذكر قصته عليه السلام في نفسك وتحفظ من ارتكاب ما يوجب العتاب، وقيل إنه تعالى أمره عليه الصلاة والسلام أن يذكر قصص الأنبياء عليهم السلام الذين عرض لهم ما عرض فصبروا حتى فرج الله تعالى عنهم وأحسن عاقبتهم، ترغيبا له في الصبر وتسهيلا لأمره عليه وإيذانا ببلوغ ما يريده بذلك، وهو كما ترى، وقيل أمره بالصبر وذكر قصص الأنبياء ليكون ذلك برهانا على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم، والذكر على هذا والأول لساني وعلى ما بينهما قلبي وهو مراد من فسر اذْكُرْ على ذلك بتذكر ذَا الْأَيْدِ أي ذا القوة يقال فلان أيد وذو أيد وذو آد وأياد بمعنى وأياد كل شيء ما يتقوى به.
إِنَّهُ أَوَّابٌ أي رجاع إلى الله تعالى وطاعته عزّ وجلّ، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس ومجاهد أنهما قالا:
الأواب المسبح، وعن عمرو بن شرحبيل أنه المسبح بلغة الحبشة،
وأخرج الديلمي عن مجاهد قال: سالت ابن عمر عن الأواب فقال: سألت النبي ﷺ عنه فقال: هو الرجل يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر الله تعالى
، وهذا إن صح لا يعدل عنه، والجملة تعليل لكونه عليه السلام ذا الأيد وتدل بأي معنى كان الأواب فيها على أن المراد بالأيد القوة الدينية وهي القوة على العبادة كما قال مجاهد وقتادة والحسن وغيرهم إذ لا يحسن التعليل لو حملت القوة على القوة في الجسم، نعم قد كان عليه السلام قوي الجسم أيضا إلا أن ذلك غير مراد هنا وفي التعبير عنه بعبدنا ووصفه بذي الأيد والتعليل بما ذكر دلالة على كثرة عبادته ووفور طاعته.
وقد أخرج البخاري في تاريخه عن أبي الدرداء قال: كان النبي ﷺ إذا ذكر داود وحدث عنه قال: كان أعبد البشر
وأخرج الديلمي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله ﷺ لا ينبغي لأحد أن يقول إني أعبد من داود»
وروي أنه كان يصوم يوما ويفطر يوما وكان يقوم نصف الليل
وفي ذلك دلالة على قوته في العبادة لما في كل من الصيام والقيام المذكورين من ترك راحة تذكرها قريبا. صفحة رقم 166