
ثُمَّ قَالَ: وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ وَهُمْ قَوْمٌ آخَرُونَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ تَحَمَّلُوا الشَّدَائِدَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْكَلَامَ فِي شَرْحِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَفِي صِفَاتِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَفِي سورة الأنعام، فلا فائدة في الإعادة، وهاهنا آخِرُ الْكَلَامِ فِي قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ فِي هَذِهِ السورة.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٤٩ الى ٥٤]
هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣)
إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنا مَا لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤)
اعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: ذِكْرٌ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا شَرَحَ ذِكْرَ أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لِأَجْلِ أَنْ يَصْبِرَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى تَحَمُّلِ سَفَاهَةِ قَوْمِهِ فَلَمَّا تَمَّمَ بَيَانَ هَذَا الطَّرِيقِ وَأَرَادَ أَنْ يَذَكُرَ عَقِيبَهُ طَرِيقًا آخَرَ يُوجِبُ الصَّبْرَ عَلَى سَفَاهَةِ الْجُهَّالِ، وَأَرَادَ أَنْ يُمَيِّزَ أَحَدَ الْبَابَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، لَا جَرَمَ قَالَ: هَذَا ذِكْرٌ، ثُمَّ شَرَعَ فِي تَقْرِيرِ الْبَابِ الثَّانِي فَقَالَ: وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ كَمَا أَنَّ الْمُصَنِّفَ إِذَا تَمَّمَ كَلَامًا قَالَ هَذَا بَابٌ، ثُمَّ شَرَعَ فِي بَابٍ آخَرَ، وَإِذَا فَرَغَ الْكَاتِبُ مِنْ فَصْلٍ مِنْ كِتَابِهِ وَأَرَادَ الشُّرُوعَ فِي آخَرَ قَالَ هَذَا وَقَدْ كان كيت وكيت، والدليل عليه أنما لَمَّا أَتَمَّ ذِكْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَرَادَ أَنْ يُرْدِفَهُ بِذِكْرِ أَهْلِ النَّارِ قَالَ: هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ [ص: ٥٥] الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّأْوِيلِ، أَنَّ الْمُرَادَ هَذَا شَرَفٌ وَذِكْرٌ جَمِيلٌ لِهَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يُذْكَرُونَ بِهِ أَبَدًا، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ.
فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ كَفَّارِ قُرَيْشٍ سَفَاهَتَهُمْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ وَصَفُوهُ بِأَنَّهُ سَاحِرٌ كَذَّابٌ، وَقَالُوا لَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا [ص: ١٦] فَعِنْدَ هَذَا أَمَرَ مُحَمَّدًا بِالصَّبْرِ عَلَى تِلْكَ السَّفَاهَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الصَّبْرَ لَازِمٌ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْمُتَقَدِّمِينَ صَبَرُوا عَلَى الْمَكَارِهِ وَالشَّدَائِدَ، فَيَجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَقْتَدِيَ بِهِمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ كَانَ لَهُ مِنَ الثَّوَابِ كَذَا وَكَذَا، وَمَنْ خَالَفَهُ كَانَ لَهُ مِنَ الْعِقَابِ كَذَا وَكَذَا، وَكُلُّ ذَلِكَ يُوجِبُ الصَّبْرَ عَلَى تَكَالِيفِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا نَظْمٌ حَسَنٌ وَتَرْتِيبٌ لَطِيفٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ الْمَآبُ الْمَرْجِعُ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِقِدَمِ الْأَرْوَاحِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَبِكُلِّ آيَةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى لَفْظِ الرُّجُوعِ وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ، أَنَّ لَفْظَ الرُّجُوعِ إِنَّمَا يَصْدُقُ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَرْوَاحُ مَوْجُودَةً قَبْلَ الْأَجْسَادِ، وَكَانَتْ فِي حَضْرَةِ جَلَالِ اللَّهِ ثُمَّ تَعَلَّقَتْ بِالْأَبْدَانِ، فَعِنْدَ انْفِصَالِهَا عَنِ الْأَبْدَانِ يُسَمَّى ذَلِكَ رُجُوعًا وَجَوَابُهُ: أَنَّ هَذَا إِنْ دَلَّ فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَرْوَاحَ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الْأَبْدَانِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى قدم الأرواح.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: جَنَّاتِ عَدْنٍ وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: لَحُسْنَ مَآبٍ ثُمَّ قَالَ: مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي تَأْوِيلِ هَذَا اللَّفْظِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ مُفَتَّحَةً لَهُمْ أَبْوَابُهَا، وَالْعَرَبُ تَجْعَلُ الْأَلِفَ وَاللَّامَ خَلَفًا مِنَ الْإِضَافَةِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ حَسَنِ الْوَجْهِ، فَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْوَجْهِ بَدَلٌ مِنَ الْإِضَافَةِ وَالثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى: مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ مِنْهَا الثَّالِثُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الْأَبْوابُ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ، وَتَقْدِيرُهُ مُفَتَّحَةً/ هِيَ الْأَبْوَابُ، كَقَوْلِكَ ضَرَبَ زَيْدٌ الْيَدَ وَالرِّجْلَ، وَهُوَ مِنْ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ: جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةٌ بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرٍ أن يكون قوله: جنات عدن مبتدأ ومفتحة خَبَرُهُ، وَكَّلَاهُمَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَشْيَاءَ الْأَوَّلُ: أَحْوَالُ مَسَاكِنِهِمْ، فَقَوْلُهُ: جَنَّاتِ عَدْنٍ يَدُلُّ عَلَى أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: كَوْنُهَا جَنَّاتٍ وَبَسَاتِينَ وَالثَّانِي: كَوْنُهَا دَائِمَةً آمِنَةً مِنَ الِانْقِضَاءِ.
وَفِي قَوْلِهِ: مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ الْمُوَكَّلِينَ بِالْجِنَانِ إِذَا رَأَوْا صَاحِبَ الْجَنَّةِ فَتَحُوا لَهُ أَبْوَابَهَا وَحَيَّوْهُ بِالسَّلَامِ، فَيَدْخُلُ كَذَلِكَ مَحْفُوفًا بِالْمَلَائِكَةِ عَلَى أَعَزِّ حَالٍ وَأَجْمَلِ هَيْئَةٍ، قَالَ تعالى: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزُّمَرِ:
٧٣]. الثَّانِي: أَنَّ تِلْكَ الْأَبْوَابَ كُلَّمَا أَرَادُوا انْفِتَاحَهَا انْفَتَحَتْ لَهُمْ، وَكُلَّمَا أَرَادُوا انْغِلَاقَهَا انْغَلَقَتْ لَهُمْ الثَّالِثُ:
الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْفَتْحِ، وَصْفُ تِلْكَ الْمَسَاكِنِ بِالسِّعَةِ، وَمُسَافَرَةُ الْعُيُونِ فِيهَا، وَمُشَاهِدَةُ الْأَحْوَالِ اللَّذِيذَةِ الطَّيِّبَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيهَا، وَفِيهِ مَبَاحِثُ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَوْنَهُمْ مُتَّكِئِينَ فِي الْجَنَّةِ، وَذَكَرَ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ الِاتِّكَاءِ، فَقَالَ في آية: عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ [يس: ٥٦] وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ [الرَّحْمَنِ: ٧٦].
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: مُتَّكِئِينَ فِيها حَالٌ قُدِّمَتْ عَلَى الْعَامِلِ فِيهَا وَهُوَ قَوْلُهُ: يَدْعُونَ فِيها وَالْمَعْنَى يَدْعُونَ فِي الْجَنَّاتِ مُتَّكِئِينَ فِيهَا ثُمَّ قَالَ: بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ وَالْمَعْنَى بِأَلْوَانِ الْفَاكِهَةِ وَأَلْوَانِ الشَّرَابِ، وَالتَّقْدِيرُ بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ كَثِيرٍ، وَالسَّبَبُ فِي ذِكْرِ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ دِيَارَ الْعَرَبِ حَارَةٌ قَلِيلَةُ الْفَوَاكِهِ وَالْأَشْرِبَةِ، فَرَغَّبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ.
وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَمْرَ الْمَسْكَنِ وَأَمْرَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ ذَكَرَ عَقِيبَهُ أَمْرَ الْمَنْكُوحِ، فَقَالَ: وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ وقد سبق تفسيره في سورة والصافات، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَعْنَى كَوْنُهُنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عَنْ غَيْرِهِمْ مَقْصُورَاتُ الْقَلْبِ عَلَى مَحَبَّتِهِمْ، وَقَوْلُهُ: أَتْرابٌ أَيْ عَلَى سِنٍّ وَاحِدٍ، وَيُحْتَمَلُ كَوْنُ الْجَوَارِي أَتْرَابًا، وَيُحْتَمَلُ كَوْنُهُنَّ أَتْرَابًا لِلْأَزْوَاجِ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَالسَّبَبُ فِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الصِّفَةِ، أَنَّهُنَّ لَمَّا تَشَابَهْنَ فِي الصِّفَةِ وَالسِّنِّ وَالْحِلْيَةِ كَانَ الْمَيْلُ إِلَيْهِنَّ عَلَى السَّوِيَّةِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي عَدَمَ الْغَيْرَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ الْمُتَّقِينَ بِالثَّوَابِ الموصوف بهذه