آيات من القرآن الكريم

وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ۖ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ
ﭑﭒﭓﭔﭕ ﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳ ﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋ ﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖ ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ ﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰ ﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤ

مناقشة المشركين في عقائدهم
[سورة ص (٣٨) : الآيات ١ الى ١١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤)
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩)
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١)
الإعراب:
ص قرئ «صاد» بسكون الدال وفتحها وكسرها بلا تنوين وبتنوين. فمن قرأ بالسكون فعلى الأصل، لأن الأصل في حروف الهجاء البناء، والأصل في البناء أن يكون على السكون. ومن قرأ بالفتح جعله اسما للسورة، كأنه قال: اقرأ صاد. ومن قرأ بالكسر بغير تنوين فهو إما أمر من المصاداة وهي المقابلة، أي قابل القرآن بعملك، وإما بإعمال حرف القسم مع حذفه، مثل: الله لأفعلن، وفيه ضعف. ومن قرأ بالكسر مع التنوين شبهه بالأصوات التي تنون للفرق بين التعريف والتنكير، مثل صه وصه.
وَالْقُرْآنِ مجرور على القسم وجوابه إما إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ وإما بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا وإما إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ وإما كَمْ أَهْلَكْنا وتقديره: لكم أهلكنا، فحذفت اللام، كما حذفت في قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [الشمس ٩١/ ٩] أي لقد أفلح.

صفحة رقم 163

وَلاتَ حِينَ مَناصٍ لاتَ: حرف بمعنى ليس، وله اسم وخبر، أي ولات الحين حين مناص. والجملة حال من فاعل نادوا. ومن قرأ وَلاتَ حِينَ مَناصٍ بالرفع، أضمر الخبر، وهو شاذ لا يقاس عليه. وتاء لات لتأنيث الكلمة، وهي عند البصريين بمنزلة تاء الفعل، مثل:
ضربت وذهبت، والوقف عليها بالتاء، وعليه خط المصحف، وهي عند الكوفيين بمنزلة تاء الاسم، نحو: ضاربة وذاهبة، والوقف عليها بالهاء، والأقيس مذهب البصريين، لأن الحرف إلى الفعل أقرب منه إلى الاسم.
أَنِ امْشُوا أن مفسرة، تقديره: أي امشوا، وهو من المشاية: كثيرة النتاج، دعا لهم بكثرة الماشية.
جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ جُنْدٌ مبتدأ، وما زائدة، وهُنالِكَ صفة جند، تقديره: جند كائن هنالك، ومَهْزُومٌ خبر المبتدأ. وقيل:
هنالك متعلق بمهزوم، والأول أوجه.
البلاغة:
كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ أي أهل قرن، فهو مجاز مرسل، والقرن: مائة عام.
وَقالَ الْكافِرُونَ وضع الظاهر موضع الضمير، والأصل: وقالوا، لرصد كفرهم.
كَذَّابٌ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أَوَّابٌ من صيغ المبالغة.
إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ تأكيد الجملة الخبرية بإنّ واللام لزيادة التعجب والإنكار منهم.
جُنْدٌ ما هُنالِكَ التنوين في جُنْدٌ للتقليل والتحقير، وزيادة ما لتأكيد القلة.
إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ: توافق الفواصل الذي يزيد الكلام روعة وبهاء وجمالا.
المفردات اللغوية:
ص معناه: أن القرآن مركب من هذه الحروف العربية، وأنتم أيها العرب قادرون على تكوين الجمل والكلام منها، ولستم قادرين على معارضة القرآن والإتيان بمثله، فهو للدلالة على

صفحة رقم 164

التحدي والتنبيه على الإعجاز. وقيل: إن هذه الفواتح وأمثالها لها معان أخرى «١».
وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ يقسم الله تعالى بالقرآن، والإقسام بالقرآن: فيه تنبيه على شرف قدره وعلوّ محله. ومعنى ذِي الذِّكْرِ: البيان، أو الشرف والشهرة، كما في قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف ٤٣/ ٤٤]. وجواب القسم في رأي جماعة محذوف تقديره: إنه لكلام معجز، أو ما الأمر كما قال كفار مكة من تعدد الآلهة.
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ أي لا ريب فيه قطعا، بل المشركون من أهل مكة وأمثالهم في تكبر وتجبر عن الإيمان، واعتزاز بالباطل، والعزة أيضا: الغلبة والقهر وشِقاقٍ أي خلاف وعداوة لله ولرسوله كَمْ كثير أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ أي قد أهلكنا قبلهم كثيرا من الأمم الماضية الذين كانوا أشد قوة وأكثر أموالا فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ أي نادوا حين نزول العذاب بهم أي استغاثوا، وليس ذلك الوقت وقت خلاص وفرار ومنجى. وهذا وعيد على كفرهم بالقرآن استكبارا وشقاقا.
وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ تعجبوا من مجيء رسول من أنفسهم ينذرهم ويخوفهم بالعذاب بالنار إن استمروا على الكفر، وهو النبي ص وَقالَ الْكافِرُونَ: هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ قالوا ذلك لما شاهدوا المعجزات الخارجة عن قدرة البشر أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً أصيّرها إلها واحدا؟ حين قال لهم: قولوا: لا إله إلا الله، أي كيف يكون للخلق كلهم إله واحد؟
عُجابٌ عجيب، بالغ في العجب إلى الغاية، وإنما تعجبوا، لأنه كان لكل قبيلة إله.
الْمَلَأُ الأشراف، انطلقوا من مجلس اجتماعهم عند أبي طالب بعد سماعهم قول النبي ص كلمة يقولونها تدين لهم بها العرب والعجم، قالوا: فما هي؟ قال: لا إله إلا الله أَنِ امْشُوا يقول بعضهم لبعض: امضوا على ما كنتم عليه ولا تدخلوا في دينه وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ اثبتوا على عبادتها إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ أي إن هذا الذي يريده محمد ص بنا وبآلهتنا، من دعوته إلى التوحيد لشيء من ريب الزمان يراد بنا، ليعلو علينا، ونكون له أتباعا.
الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ هي ملة النصرانية اخْتِلاقٌ كذب اختلقه محمد ص وافتراه أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا؟ أأنزل عليه القرآن، ونحن الرؤساء والأشراف، أكبر منه سنا، وأعظم منه شرفا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي أي من القرآن أو الوحي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ أي بل لم يذوقوا عذابي بعد، فإذا ذاقوه زال شكهم. والمعنى: إنهم لا يصدّقون به حتى يمسهم العذاب، فيلجئهم إلى تصديقه.

(١) انظر تفسير الرازي: ٢٦/ ١٧٤

صفحة رقم 165

خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ مفاتيح نعم ربك الْعَزِيزِ الغالب الْوَهَّابِ من النبوة وغيرها، حتى يعطوها لمن شاؤوا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ أي فليصعدوا في المعارج والوسائل التي توصلهم إلى السماء والاستيلاء على العرش، حتى يحكموا بما يريدون جُنْدٌ ما جند حقير من الكفار هُنالِكَ إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل هذا القول، وتكذيب النبي مَهْزُومٌ، مِنَ الْأَحْزابِ صفتان ل جُنْدٌ فهم مغلوبون، متحزبون على الأنبياء قبلك، فقهروا وهلكوا، فكذلك نهلك هؤلاء.
سبب النزول: نزول الآية (٥) :
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ..:
أخرج أحمد والترمذي والنسائي والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: مرض أبو طالب، فجاءته قريش، وجاءه النبي ص، فشكوه إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي، ما تريد من قومك؟ قال: أريد منهم كلمة، تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم العجم الجزية كلمة واحدة، قال:
وما هي؟ قال: لا إله إلا الله، فقالوا: إلها واحدا؟ إن هذا لشيء عجاب، فنزل فيهم ص وَالْقُرْآنِ.. إلى قوله: بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ.
التفسير والبيان:
ص، وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ص أحد حروف الهجاء العربية، افتتح بها هذه السورة كغيرها من السور للتحدي والتنبيه على إعجاز القرآن، وتنبيه المخاطب للإصغاء إلى الكلام الآتي بعده. وأقسم بالقرآن ذي البيان الشامل لكل ما يحتاج إليه العباد في المعاش والمعاد من الدين الجامع للعقائد الثابتة الصحيحة، والشرائع الناظمة للحياة الإنسانية، والوعد والوعيد، وهو أيضا ذو الشرف والشهرة والرفعة، أقسم به إنه لكلام معجز منزل من الله، وإن محمدا لصادق فيما يدعيه من النبوة، والرسالة من رب العالمين إلى البشرية جمعاء، وهو أيضا تذكير كقوله تعالى:
لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الأنبياء ٢١/ ١٠] أي تذكيركم.

صفحة رقم 166

وسبب كفر المشركين هو:
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ أي إن هذا القرآن ذكرى لمن يتذكر، وعبرة لمن يعتبر، وإنما لم ينتفع به الكافرون، لأنهم في استكبار عنه، وترفع عن اتباع الحق، ومخالفة لله ولرسوله ص ومعاندة ومكابرة وحرص على المخالفة.
ثم خوّفهم ما أهلك به الأمم المكذبة قبلهم، فقال:
كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ، فَنادَوْا، وَلاتَ حِينَ مَناصٍ أي قد أهلكنا قبلهم كثيرا من الأمم الخالية بسبب مخالفتهم للرسل وتكذيبهم الكتب المنزلة من السماء، فاستغاثوا وجأروا إلى الله تعالى حين جاءهم العذاب، فلم يجدهم شيئا، لأن الوقت ليس وقت خلاص وفرار من العذاب، كما قال تعالى:
فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ، لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ، لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ [الأنبياء ٢١/ ١٢- ١٣] ويَرْكُضُونَ يهربون.
وقال سبحانه: حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ [المؤمنون ٢٣/ ٦٤].
وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ، وَقالَ الْكافِرُونَ: هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ أي تعجب المشركون من بعثة محمد ص بشيرا ونذيرا، وبشرا رسولا من أنفسهم، وقال الكافرون لما رأوا معجزاته الباهرة: هذا ساحر خدّاع كذاب فيما يدعيه من النبوة، وينسبه إلى الله من الوحي.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ، قالَ الْكافِرُونَ: إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ [يونس ١٠/ ٢].
وفي الآية دلالة على أن المشركين ذوي العزة والشقاق كذبوا الرسول ص من غير حجة وبرهان، وحسدا من عند أنفسهم، وطمعا في أن يكون الرسول ص

صفحة رقم 167

أحد الزعماء والرؤساء، ولم يجدوا تهمة أرخص من اتهامه بالسحر والكذب، وذلك دليل الإفلاس.
ثم أورد الله تعالى لهم شبهات ثلاثا في وصف النبي بالكذب: الأولى تتعلق بالألوهية أو التوحيد، والثانية بالنبوة، والثالثة بالمعاد، وهنا ذكر شبهتين، والثالثة ستأتي في آية وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ.
١- توحيد الإله: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ أصيّر الآلهة إلها واحدا، وقصر الألوهية على الله سبحانه، إن هذا لشيء بالغ النهاية في العجب. وإنما تعجبوا لأنه كان لكل قبيلة إله، وكانوا يقولون: إنما نعبدهم ليقربونا زلفى إلى الله، والله يملكهم، فأي ضير في هذا؟ وادعوا العجب ممن رفض الآلهة المتعددة، وقالوا: إن آباءهم على كثرتهم ورجاحة عقولهم لا يعقل أن يكونوا جاهلين مبطلين، ويكون «محمد ص» وحده محقّا صادقا. وهذا مجرد تقليد أعمى وإرث منقول دون دليل عقلي ولا نقلي.
وسبب نزول هذه الآيات الكريمات كما تقدم:
ما رواه الترمذي وغيره بلفظ آخر عن ابن عباس، قال: «مرض أبو طالب، فجاءت قريش إليه، وجاء النبي ص، وعند رأس أبي طالب مجلس رجل، فقام أبو جهل كي يمنعه، قال:
وشكوه إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي، ما تريد من قومك؟ فقال: يا عم، إنما أريد منهم كلمة تذلّ لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها الجزية العجم، فقال:
وما هي؟ قال: لا إله إلا الله، قال: فقالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً؟
فنزل فيهم القرآن ص، وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ حتى بلغ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ «١»
.
ورواه بلفظ آخر ابن أبي حاتم وابن جرير عن السدّي.

(١) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

صفحة رقم 168

وفي رواية: لما أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه شقّ على قريش إسلامه، فاجتمعوا إلى أبي طالب وقالوا: اقض بيننا وبين ابن أخيك. فأرسل أبو طالب إلى النبي ص فقال: يا ابن أخي، هؤلاء قومك يسألونك السواء «١»، فلا تمل كل الميل على قومك. قال: «وماذا يسألونني؟» قالوا: ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك، فقال النبي ص: «أتعطونني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم» فقال أبو جهل: لله أبوك! لنعطينكها وعشر أمثالها. فقال النبي ص: «قولوا: لا إله إلا الله» فنفروا من ذلك وقاموا، فقالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً؟ فكيف يسع الخلق كلّهم إله واحد؟
فأنزل الله فيهم هذه الآيات، إلى قوله: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ.
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ أي وانطلق أشراف قريش من مجلس أبي طالب قائلين: امضوا على ما كنتم فيه، واثبتوا على عبادة آلهتكم، واصبروا على ذلك، إن هذا التحول عن الآلهة لأمر عظيم يريده محمد ص، ليعلو علينا، ونكون له أتباعا، فيتحكم فينا بما يريد.
٢- عدم وجود التوحيد في النصرانية: ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ، إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ ما سمعنا بهذه الدعوة إلى توحيد الإله في الملة الآخرة وهي النصرانية، وما هذا إلا افتراء وكذب لا حقيقة له، وليس له مستند من وحي ودين سماوي، ولا من عقل صحيح فيما يزعمون، فوجب أن يكون باطلا.
٣- تخصيص النبوة في محمد: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا؟ استفهام إنكار، أي كيف ينزل القرآن على محمد دوننا، ونحن الرؤساء والأشراف؟ فهذا أمر مستبعد، كما حكي عنهم في آية أخرى: نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف ٤٣/ ٣١] فرد الله عليهم قائلا:

(١) أي العدل.

صفحة رقم 169

أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ [الزخرف ٤٣/ ٣٢].
وسبب استبعادهم هذا، الناشئ عن جهلهم وقلة عقلهم: الشك في أمر القرآن وحسد النبوة:
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي، بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ أي بل الحقيقة أنهم في شك من القرآن أو الوحي، بل إنما شكوا وتركوا النظر والاستدلال، لأنهم لم يذوقوا عذابي، فإذا ذاقوه صدقوا بالقرآن، وزال عنهم الشك والحسد.
ولَمَّا بمعنى «لم» وما: زائدة، مثل: عَمَّا قَلِيلٍ [المؤمنون ٢٣/ ٤٠] وفَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ [النساء ٤/ ١٥٥ أو المائدة ٥/ ١٣].
ثم رد الله تعالى عليهم استبعادهم نبوة محمد ص وجعلها في صناديدهم قائلا:
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أي بل أهم يملكون مفاتيح نعم ربك القوي الغالب، المانح الواهب الكثير المواهب، حتى يعطوا نعمة النبوة لمن يشاءون؟ كما في آية أخرى: قُلْ: لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ، وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً [الإسراء ١٧/ ١٠٠].
ثم أنكر الله تعالى ما هو أشد، فقال:
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ أي بل أهم يملكون السموات والأرض وما بينهما من المخلوقات والعوالم، فإن فرض أنهم يملكون، فليصعدوا في المعارج التي توصلهم إلى السماء، حتى يحكموا بما يريدون من عطاء ومنع، ويدبروا أمر العالم بما يشتهون.
ثم أجمل الله تعالى وصفهم بالقلة والحقارة فقال:
جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ أي ما هم إلا جند مغلوبون

صفحة رقم 170

هنالك، أي في ذلك الموضع الذي كانوا يذكرون فيه هذه الكلمات الطاعنة في نبوة محمد ص، والذي يتحزبون فيه على المؤمنين. وهذه الآية كقوله تعالى:
أَمْ يَقُولُونَ: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ، سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ، بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ، وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ [القمر ٥٤/ ٤٤- ٤٦]. وهذا وعد من الله بنصر نبيه ص وأن الغلبة ستكون له.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستدل بالآيات على ما يأتي:
١- أقسم الله عز وجل بالقرآن العظيم ذي الشرف والشهرة والمجد على صدق نبوة محمد ص وأنه رسول من الله إلى الناس كافة.
٢- إن سبب إعراض كفار قريش عن الإيمان برسالة النبي ص هو التكبر والتجبر والاستعلاء عن اتباع الحق، ومخالفة الله تعالى ورسوله ص ومعاداتهما وإظهار مباينتهما.
٣- أنذرهم الله وحذرهم من الإهلاك كما أهلك الأمم الماضية الذين كانوا أمنع منهم وأشد قوة وأكثر أموالا وأولادا، فاستغاثوا وتابوا، ولكن في وقت لا ينفع فيه التوبة، ولا ينفع العمل.
٤- لقد تعجب كفار قريش بسبب جهلهم أن جاءهم رسول بشر من أنفسهم، يبشرهم وينذرهم، فلم يجدوا حجة للإعراض عنه إلا أن قالوا: ساحر كذاب، أي يجيء بالكلام المموّه الذي يخدع به الناس، ويكذب في دعوى النبوة.
٥- وبالغوا في التعجب من دعوته إلى التوحيد وتصييره الآلهة إلها واحدا.
٦- لم يجد هؤلاء الكفار سبيلا إلا أن أعلنوا إصرارهم على وثنيتهم، وقال

صفحة رقم 171

الرؤساء للأتباع: امضوا على ما كنتم فيه، ولا تدخلوا في دين محمد ص، واثبتوا على عبادة آلهتكم المخصصة لكل قبيلة، فإنما يريد محمد بما يقول الانقياد له ليعلو علينا، ونكون له أتباعا، فيتحكم فينا بما يريد، فاحذروا أن تطيعوه.
٧- أيدوا وثنيتهم بآخر الملل وهي النصرانية، فإن النصارى يجعلون مع الله إلها، وإن الدعوى إلى توحيد الإله ما هو في زعمهم إلا كذب وافتراء وتخرّص وابتداع على غير مثال.
٨- إن شعورهم بالعزة والاستكبار دفعهم أيضا إلى إنكار اختصاص محمد ص بإنزال القرآن عليه ونزول الوحي على قلبه، دونهم، وهم في رأيهم أحق بذلك، لأنهم السادة والرؤساء والأشراف.
٩- إن حقيقة أمرهم أنهم شكوا فيما أنزل الله تعالى على رسوله ص، هل هو من عنده أم لا؟ وكذلك اغتروا بطول الإمهال، ولو ذاقوا عذاب الله على الشرك لزال عنهم الشك، ولكن لا ينفع الإيمان حينئذ.
١٠- عجيب أمر هؤلاء المشركين، هل يملكون مفاتيح نعم الله، فيمنعون محمدا ص مما أنعم الله عز وجل به عليه من النبوة؟ فالله المالك للنعم يرسل من يشاء، لأن خزائن السموات والأرض له.
وهل يملكون عالم السماء والأرض وما بينهما من المخلوقات، فإن ادّعوا ذلك، فليصعدوا إلى السموات، وليمنعوا الملائكة من إنزال الوحي على محمد ص.
١١- ما هؤلاء الكفار إلا مجرد جند من الأحزاب مهزومون، متحزبون في موضع تحزّبهم لقتال محمد ص، وذلك الموضع مكة، وهم في النهاية أذلّة لا حجة لهم، ولا قدرة لأن يصلوا إلى الاستيلاء على سلطان الله وملكه، فيتصرفوا في الناس كيف يريدون.

صفحة رقم 172
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية