آيات من القرآن الكريم

لِمِثْلِ هَٰذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ
ﮪﮫﮬﮭ ﮯﮰﮱﯓﯔﯕ ﯗﯘﯙﯚ ﯜﯝﯞﯟ ﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧ ﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰﯱ ﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﯿﰀﰁﰂ ﰄﰅﰆ ﰈﰉﰊﰋﰌ ﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔ ﭑﭒﭓﭔ ﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭ ﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸ ﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊ

جزاء الكافرين وجزاء المؤمنين المخلصين
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٣٨ الى ٦١]
إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢)
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧)
وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢)
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧)
أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١)
الإعراب:
إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ الْعَذابِ: مجرور بالإضافة، من إضافة الفاعل لمفعوله.
وقرئ بنصب العذاب على تقدير النون في لَذائِقُوا كما يقال: ولا ذاكر الله إلا قليلا.
فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ فَواكِهُ: بدل من رِزْقٌ في قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ.
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ظرف أو حال من ضمير مُكْرَمُونَ أو خبر ثان لأولئك. وكذلك عَلى سُرُرٍ إما حال أو خبر.

صفحة رقم 87

لا فِيها غَوْلٌ غَوْلٌ: مبتدأ، وفِيها: خبره، ولا يجوز أن يبنى غَوْلٌ مع لا للفصل بينهما ب فِيها.
هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ بفتح نون مُطَّلِعُونَ وقرئ بالكسر، وهو ضعيف جدا، لأنه جمع بين نون الجمع والإضافة، وكان ينبغي أن يكون «مطلعيّ» بياء مشددة، لأن النون تسقط للإضافة.
فَاطَّلَعَ بالتشديد، وقرئ بالتخفيف «اطلع» وهما فعلان ماضيان.
إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى مَوْتَتَنَا: منصوب على المصدر، كأنه قال: ما نحن نموت إلا موتتنا الأولى، كما تقول: ما ضربت إلا ضربة واحدة.
البلاغة:
إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ التفات من الغيبة إلى الخطاب من إنهم إلى إنكم، لزيادة التقبيح والتشنيع عليهم.
قاصِراتُ الطَّرْفِ كناية، كنّى بذلك عن الحور العين، لأنهن عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن.
كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ تشبيه مرسل مجمل، حذف منه وجه الشبه، فصار مجملا.
المفردات اللغوية:
إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ بالإشراك وتكذيب الرسل إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إلا مثل ما عملتم، أو جزاء ما عملتم إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي المؤمنين الذين أخلصوا لله في العبادة، أو أخلصهم الله لعبادته واصطفاهم لدينه، وهو استثناء منقطع أُولئِكَ لَهُمْ في الجنة رِزْقٌ مَعْلُومٌ أي معروف الخصائص من الدوام والانتظام وتمحض اللذة فَواكِهُ ما يؤكل تلذذا لا لحفظ الصحة والتغذي، لأن أهل الجنة مستغنون عن حفظها، بخلق أجسامهم للأبد وَهُمْ مُكْرَمُونَ أي ولهم من الله إكرام عظيم برفع درجاتهم عنده، وسماع كلامه تعالى ولقائه في الجنة.
وهم أيضا مكرمون في نيل الرزق، فإنه يصل إليهم من غير تعب ولا سؤال، كما عليه رزق الدنيا فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي في جنات ليس فيها إلا النعيم.
عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ أي على أسرّة يتكئون عليها، ينظر بعضهم إلى وجوه بعض، كل منهم مسرور بلقاء أخيه، لا ينظر بعضهم قفا بعض. يُطافُ عَلَيْهِمْ على كل منهم بِكَأْسٍ بإناء فيه الشراب مِنْ مَعِينٍ أي من خمر يجري على وجه الأرض، كالعيون والأنهار بَيْضاءَ

صفحة رقم 88

أشد بياضا من اللبن لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ أي لذيذة لمن شربها، بخلاف خمر الدنيا، فإنها كريهة عند الشرب، قال الحسن البصري: خمر الجنة أشد بياضا من اللبن، له لذة لذيذة لا فِيها غَوْلٌ أي لا تغتال عقولهم فتذهب بها، ولا يصيبهم منها مرض ولا صداع وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ يسكرون، بخلاف خمر الدنيا. قرئ بفتح الزاي وكسرها، من نزف الشارب وأنزف: سكر، فهو نزيف ومنزوف.
قاصِراتُ الطَّرْفِ قصرن أبصارهن على أزواجهن، فلا يردن غيرهم عِينٌ أي ضخام الأعين حسانها، جمع عيناء: وهي المرأة الواسعة العين مع حسنها كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ شبههن في الصفاء والبياض المخلوط بشيء من الصفرة ببيض النعام المستور بريشه من الريح والغبار.
والمكنون: المصون من الغبار ونحوه. وهذا اللون وهو البياض المشوب بصفرة أحسن ألوان النساء.
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ أي أقبل بعض أهل الجنة على بعض، حال شربهم، يسألون عن أحوالهم التي كانت في الدنيا، وذلك من تمام نعيم الجنة قَرِينٌ خليل وصاحب في الدنيا، كافر بالبعث، منكر له. لَمَدِينُونَ مجزيون بأعمالنا، ومحاسبون بها، بعد أن صرنا ترابا وعظاما؟ قالَ المؤمن ذلك القائل لإخوانه مُطَّلِعُونَ معي إلى النار، لننظر حال ذلك القرين الذي قال لي تلك المقالة، كيف منزلته في النار؟
فَاطَّلَعَ ذلك المؤمن إلى النار فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ رأى قرينه في وسط النار قالَ له شماتة إِنْ كِدْتَ قاربت، وإِنْ: مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن واللام هي الفارقة لَتُرْدِينِ لتهلكني بإغوائك وتوقعني في النار وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي ورحمته علي بالإيمان والهداية لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ معك في النار، المسوقين للعذاب أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ أي أنحن مخلدون غير ميتين؟ وهو قول أهل الجنة إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى غير موتتنا التي في الدنيا، وهذا قول صادر من دواعي الابتهاج والسرور بما أنعم الله عليهم من نعيم الجنة الذي لا ينقطع، فهو استفهام تلذذ وتحدث بنعمة الله تعالى، من تأييد الحياة وعدم التعذيب وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أي لسنا بمعذبين.
إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي إن ما فيه أهل الجنة من النعمة والخلود والأمن من العذاب، لهو الفوز الساحق الذي لا يقدر قدره. ويحتمل أن يكون هذا من كلام أهل الجنة، وأن يكون كلام الله تقريرا لما يقولون. لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ أي هذه هي التجارة الرابحة، وهو الهدف الأمثل الذي يسعى إليه العاملون، لا العمل للدنيا الزائفة، فلنيل مثل هذا يجب أن يعمل العاملون، لا لحظوظ الدنيا المشوبة بالآلام، السريعة الزوال. ويحتمل أن يكون هذا أيضا من كلام أهل الجنة أو كلام الله.

صفحة رقم 89

المناسبة:
بعد أن حكى الله تعالى تكذيب الكفار بالتوحيد وبالنبوة، نقل الكلام من الغيبة إلى الحضور، مبينا أن حوار الأتباع والرؤساء من أهل الضلال لا فائدة فيه، فإن العذاب شامل الفريقين، وأن الجزاء العدل في الآخرة على وفق العمل في الدنيا، ثم استثنى الله تعالى العباد الذين اصطفاهم لطاعته، وأخلصوا العبادة لربهم، فهم في ألوان متنوعة من النعيم المادي في الجنة من مآكل ومشارب وملابس وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وكذا من النعيم المعنوي حيث لا يشغلهم همّ ولا نصب، ويستذكرون أحوالهم في الدنيا، وأحاديثهم مع بعض القرناء الأخلاء.
التفسير والبيان:
يبين الله تعالى حال المكذبين الضالين، وهو أيضا خطاب للناس، فيقول:
إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ أي إنكم أيها الكفار لتذوقن العذاب المؤلم في نار جهنم الذي يدوم ولا ينقطع.
وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي إن جزاء كم لحق وعدل لا ظلم فيه، وهو عقابكم على أعمالكم من الكفر والمعاصي، فهي سبب الجزاء: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت ٤١/ ٤٦] وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف ١٨/ ١٩].
بعد بيان حال المجرمين المتكبرين عن قبول التوحيد المصرّين على إنكار النبوة، ذكر تعالى حال المخلصين في كيفية الثواب، فقال:
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ، فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ أي ولكن عباد الله الذين أخلصهم الله لطاعته وتوحيده، وأخلصوا العمل لله، ناجون لا يذوقون العذاب ولا يناقشون الحساب، بل يتجاوز عن سيئاتهم، كما

صفحة رقم 90

قال تعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.. [العصر ١٠٣/ ١- ٣] كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ.. [المدثر ٧٤/ ٣٨- ٣٩]. والْمُخْلَصِينَ صفة مدح، لأن كونهم عباد الله يلزم منه أن يكونوا مخلصين.
ولهؤلاء المخلصين رزق من الله، معلوم حسنه وطيبه ودوامه دون انقطاع في الجنة، يعطونه بكرة وعشيا، وإن لم يكن ثمة بكرة وعشية، فيتمتعون بلذيذ الفواكه المتنوعة أي الثمار كلها، فهي أطيب ما يأكلونه، وذلك الأكل حاصل مع الإكرام والتعظيم، فهم يخدمون ويرفهون، ولهم أيضا إكرام عظيم برفع درجاتهم في الجنة عند ربهم، ويسمعون كلامه ويلقونه في رحاب الجنان.
وفي هذا دلالة على أن تناولهم الفاكهة إنما هو تلذذ لا للتغذي والقوت، لأنهم مستغنون عنه، لأنهم أجسام محكمة مخلوقة للأبد. ووصف رِزْقٌ بمعلوم، أي عندهم.
وبعد بيان مأكولهم، وصف الله تعالى مساكنهم، فقال:
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ أي إن هذا الرزق يأتيهم في جنات ذات نعيم مقيم ومتاع دائم، وهم على أسرة يتكئون عليها، ينظر بعضهم إلى وجوه بعض، بسرور وابتهاج، لا ينظر بعضهم في قفا بعض، فصاروا يجمعون بين المتعة المادية الجسدية، والمتعة الروحية الإنسانية.
وبعد بيان صفة المأكل والمسكن ذكر تعالى صفة الشراب، فقال:
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ أي يدار عليهم بآنية من خمر تجري في أنهر، والمعين: الماء الجاري، فهي تخرج من العيون كما يخرج الماء دون انقطاع، وسمي معينا لظهوره.

صفحة رقم 91

ثم وصف الله تعالى خمر الجنة البعيدة عن آفات خمر الدنيا، فقال:
بَيْضاءَ لَذَّةٍ «١» لِلشَّارِبِينَ، لا فِيها غَوْلٌ، وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ أي ذات لون أبيض شديد البياض، لذيذة الطعم، طيبة الرائحة، لا كخمر الدنيا المرّة ذات النكهة المزعجة، وهي لا تذهب بالعقول، ولا تؤدي إلى صداع الرأس، ووجع البطن، وأنواع الأمراض، كما هو شأن خمر الدنيا، فهي بخلاف خمر الدنيا في جميع تلك الأوصاف، لا تضر النفس والعقل والمال والشخصية، بسبب نزع مادة الغول أي الكحول منها. وفي هذا إيماء إلى مفاسد خمر الدنيا من صداع وفساد وسكر، وعربدة وهذيان، وإفساد للدم، وجهاز الهضم كله.
وبعد بيان صفة مشروبهم ذكر تعالى صفة زوجاتهم، فقال:
وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ أي لديهم زوجات عفيفات، لا ينظرن إلى غير أزواجهن، ولا يردن غيرهم، ذوات عيون واسعة حسان. والعين جمع عيناء: وهي النجلاء الواسعة في جمال، الحسناء المنظر، وبه يتبين أنه تعالى وصف عيونهن بالحسن والعفة، كما قال تعالى في الحور العين: خَيْراتٌ حِسانٌ [الرحمن ٥٥/ ٧٠].
كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ أي كأن ألوانهن من البياض المشوب بأدنى الصفرة، كالبيض المحصون المصون المستور الذي لم تمسه الأيدي، ولم يتلوث بالريح والغبار. وهذا اللون أحسن ألوان النساء.
وبعد بيان ألوان المتعة المادية لأهل الجنة في المآكل والمشارب والمساكن والأزواج، ذكر الله تعالى بعض أنواع المتع النفسية، فقال:

(١) لذة: صفة بالمصدر على سبيل المبالغة، أو على حذف، أي ذات لذة، أو على تأنيث لذ بمعنى لذيذ.

صفحة رقم 92

فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ أي أقدم بعضهم حال شربهم واجتماعهم ومعاشرتهم في مجالسهم، يسأل بعضا آخر عن أحوالهم التي كانوا عليها في الدنيا، وماذا كانوا يعانون فيها، وذلك من تمام نعيم الجنة.
ومن موضوعات التساؤل قوله تعالى:
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ: إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ، يَقُولُ: أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ، أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ أي قال مؤمن من أهل الجنة: كان لي صاحب في الدنيا كافر بالبعث منكر له، يقول: أنحن إذا متنا وصرنا ترابا متفتتا وعظاما بالية، أنكون محاسبين بعدئذ على أعمالنا، ومبعوثين نجازى على ما قدمنا في الدنيا؟ فذلك أمر مستحيل غير معقول ولا مقدور لأحد، فهل أنت مصدق مثل هذه الخرافات؟
قالَ: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ؟ قال المؤمن لجلسائه: انظروا معي إلى أهل النار لأريكم ذلك القرين الذي قال لي تلك المقالة، كيف يعذب، وكيف يجازى الجزاء الأوفى؟
فَاطَّلَعَ، فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ أي فنظر ذلك المؤمن إلى أهل النار، فرأى قرينه في وسط جهنم، يتلظى بحرّها.
قالَ: تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ، وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أي قال المؤمن لقرينه الكافر على جهة التوبيخ: لقد قاربت أن توقعني في الردى والهلاك بالإغواء، وتهلكني بدعوتك إياي إلى إنكار البعث والقيامة، ولولا رحمة ربي وعصمته من الضلال، وتوفيقه وإرشاده لي إلى الحق، وهدايته لي إلى الإسلام، لكنت من المحضرين معك في النار للعذاب.
ثم عاد ذلك المؤمن إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة، فقال:

صفحة رقم 93

أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أي قال المؤمن لجلسائه ابتهاجا وسرورا بما أنعم عليهم من نعيم الجنة الدائم: أنحن مخلّدون منعّمون أبدا، فلا نموت إلا الموتة الأولى الحادثة في الدنيا، ولسنا معذّبين كما يعذّب الكفار أصحاب النار؟
هذه حال المؤمنين وصفتهم وما قضى الله لهم ألا يذوقوا إلا الموتة الأولى، بخلاف الكفار، فإنهم فيما هم فيه من العذاب يتمنون الموت كل ساعة. والمؤمن يقول هذا القول تحدثا بنعمة الله واغتباطا بحاله وبمسمع من قرينه توبيخا له، يزداد به عذابا، وأما المؤمن فيسعد ويغبط نفسه بالخلود في الجنة، والإقامة في النعيم، بلا موت ولا عناء.
إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ أي إن هذا النعيم الدائم المقيم وهذا الفضل العميم الذي نحن فيه لهو النجاح الباهر، والفوز الأكبر الذي لا يوصف، ولمثل هذا النعيم والفوز، ليعمل العاملون في الدنيا، ليحظوا به، لا أن يعملوا فحسب لحظوظ الدنيا الفانية، المقترنة بالمخاطر والآلام والمتاعب الكثيرة. والخلاصة: أن المطلوب هو العمل للآخرة وللجنة الخالدة، لا أن يقصر العمل على المكاسب الدنيوية فقط.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
١- إن عذاب الكفار والمجرمين أمر حق وعدل ومؤكد الوقوع.
٢- هذا الجزاء يكون بسبب العمل المنكر وهو الشرك والمعاصي، وهذا رد على من قد يقول: كيف يليق بالرحيم الكريم المتعالي عن النفع والضر أن يعذب عباده؟

صفحة رقم 94

٣- إن تنفيذ الأمر الإلهي واجتناب القبيح والمعصية يتطلبان الترغيب في الثواب، والترهيب من العقاب، لذا استثنى الله من الإخبار بالعذاب عباده الذين أخلصوا العمل لله تعالى، فهم ناجون غير معذبين.
٤- إن ثواب المؤمنين المخلصين هو الجنة، وفيها الرزق المعلوم الصفات وهو الدائم الذي لا ينقطع، المشتمل على أطيب المآكل من الثمار المختلفة الرطبة واليابسة، في بساتين يتنعمون فيها، ولهم إكرام من الله جل وعز برفع الدرجات وسماع كلامه ولقائه.
ولا ينظر بعضهم في قفا بعض، وإنما يجلسون على أسرّة يتكئون عليها متقابلين وجها لوجه، غير متدابرين.
وذلك الرزق مشتمل أيضا على أطيب المشارب من خمور تقدم لهم بكؤوس مترعة، لا يخافون انقطاعها ولا فراغها، وإنما تجري كما تجري العيون على وجه الأرض، وخمر الجنة أشد بياضا من اللبن، طيبة الطعم، وطيبة الريح، لا تغتال عقولهم، ولا تذهب بها بشربها، ولا يصيبهم منها مرض ولا صداع، ولا يسكرون منها.
ولهم أزواج من النساء العفيفات اللاتي قصرن طرفهن على أزواجهن، فلا ينظرن إلى غيرهم، وهن حسان العيون، ذوات جمال ولون بديع كبيض النعام المصون، يخالط لونها صفرة قليلة، وهو أحسن ألوان النساء.
٥- يتجاذب أهل الجنة أطراف الأحاديث المسلّية التي يتذكرونها في الدنيا، إتماما للأنس في الجنة، فيقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى لهم وعليهم في الدنيا.
ومن موضوعات أحاديثهم: قصة المؤمن والكافر، يقول المؤمن من أهل الجنة: كان لي في الدنيا قرين أي صديق ملازم، فسألني متعجبا: هل أنت من

صفحة رقم 95

المصدقين بالبعث والجزاء؟ وهل نحن مجزيون محاسبون بعد الموت، وهل يعقل أن نعود أحياء بعد أن متنا وصرنا ترابا وعظاما نخرة؟
وتتمة الموضوع أن يقول المؤمن لأهل الجنة: هل أنتم مطلعون إلى النار لننظر كيف حال ذلك القرين ومآله؟ فلم يفعلوا، وإنما اطلع هو، فوجد قرينه معذبا في وسط النار. فيقول له موبخا: والله، لقد قاربت أن توقعني في النار، وتهلكني، ولولا فضل ربي ورحمته وعصمته من الضلال والباطل، وإنعامه بالإرشاد والتوفيق إلى الحق، لكنت محضرا معك في النار مثلك.
٦- ثم يعود ذلك المؤمن إلى خطاب جلسائه الذين هم من أهل الجنة، بعد أن يعلموا أنهم لا يموتون حين يمثل الموت بصورة كبش أملح فيذبح، بعد أن كانوا لا يعلمون بذلك في أول دخولهم في الجنة، فيقول مغتبطا مبتهجا: أنحن مخلّدون منعّمون، فما نحن بميتين ولا معذّبين؟
٧- النتيجة من القصة والحديث المتبادل: هي أن الظفر بنعيم الجنان هو الفوز الأعظم، ولمثل هذا العطاء والفضل ينبغي أن يعمل العاملون العمل الصالح المؤدي إلى تلك النعمة الكبرى.
وقوله تعالى: إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ يحتمل أن يكون من كلام المؤمن لما رأى ما أعد الله له في الجنة وما أعطاه، ويحتمل أن يكون من قول الملائكة، ويحتمل أن يكون هو من قول الله عز وجل لأهل الدنيا، أي قد سمعتم ما في الجنة من الخيرات والجزاء، فليعمل العاملون لمثل هذا، كما تقدم إيجازه.

صفحة رقم 96
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية