مثل هذا الفعل الفظيع «نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ٣٤» وإنما فعلنا بهم ذلك بسبب «إِنَّهُمْ كانُوا» في الدنيا «إِذا قِيلَ لَهُمْ» قولوا «لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ٣٥» عنها ويمتنعون من قولها ويأنفون من سماعها عتوا وعنادا «وَيَقُولُونَ» أيضا على طريق الإنكار «أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ ٣٦» يعنون أكرم الخلق على الله وأفضلهم وأعقلهم قاتلهم الله قد جمعوا في هذه الجملة إنكار الوحدانية وإنكار الرسالة ووصم صاحبها قال تعالى ردا عليهم «بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ» من عندنا ليس كما تزعمون أنه ساحر ومجنون فهو أكمل بشر وقد آمن بالله «وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ٣٧» قبله بما جاءكم به لأنهم كانوا مثله يدعون لنفى الشرك وإثبات التوحيد وقد وصفهم أمثالكم من الأمم السابقة بما وصفتم به رسولنا محمد الصادق الأمين «إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ ٣٨» بتجرؤكم عليه أيها الكفرة «وَما تُجْزَوْنَ» في الآخرة «إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ٣٩» في الدنيا لأن الجزاء من جنس العمل ولا يستثنى من العذاب الأخروي «إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ٤٠» بكسر اللام وفتحها كما مر في الآية ٨٤ من سورة ص في ج ١ وقبلها مجادلة أهل النار بعضهم مع بعض في الآية ٥٩ بما يشبه هذا فراجعهما «أُولئِكَ» المخلصون المقبولون عند الله «لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ٤١» لدينا بكرة وعشيا راجع الآية ٦٢ من سورة مريم من ج ١ ثم أبدل فى هذا الرزق قوله «فَواكِهُ» للتلذذ ليس إلا، لأنهم بغنى عن الأكل والشرب، وأن حجتهم محفوظة، لأن الله تكفل بتخليدها في الجنة سالمة منعمة والفاكهة تشمل جميع الثمار رطبها ويابسها ومن الطعام ما يؤكل للتلذذ لا للتقوت «وَهُمْ مُكْرَمُونَ ٤٢» عند بارئهم معظّمون «فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ٤٣»«عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ٤٤» بوجوههم إلى بعضهم وهو من آداب المجالسة كما مر في الآية ١٦ من الواقعة في ج ١ «يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ» مملوءة من الخمر الذي لم تمسه الأيدي ولم تطأه الأرجل، وقد ذكرنا في الآية ١٨ من سورة الواقعة المذكورة أن لا يقال كأس إلا وهي مملوءة بالشراب وإلا فهي زجاجة أو كوب أو إبريق وهذا الخمر ليس كخمر الدنيا وإنما هو «مِنْ مَعِينٍ» ٤٥ نهر جار أو ماء ظاهر فوق
صفحة رقم 444
الأرض يعانيه الخلق دون تكلف إلى إمعان النظر فيه ولهذا وصفها بقوله «بَيْضاءَ لَذَّةٍ» عظيمة في شربها «لِلشَّارِبِينَ» ٤٦ منها تكمل فيها لذة الحواس الخمس، وقاتل الله أبا نواس إذ يقول:
ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر
ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر
لأنه قصد اشتراك كافة حواسه بالمعصية، ولأن الشارب جهرا يخشى الخجل من الناس فلا يتم به السرور، لأنه لا يكمل إلا بالحرية المطلقة، ولأن الشارب حينما يتناول الكأس يلمسه ويشمه وينظره ويذوقه، فلم تبق إلا حاسة السمع، فإذا قال له خمر عند تقديمه له كملت لذة حواسه كلها اللهم أحرم أولياءك منها في الدنيا ومتعهم بها في الآخرة وألحقنا بهم يا ربنا. وهذه الخمرة «لا فِيها غَوْلٌ» كخمر الدنيا وهو ما يعبر عنه الأطباء بالكحول (اسبيرتو) لأنها إذا خلت منه لا تسكر كما يقولون، ويزعمون أنهم عربوها عن الأوربيين الذين يعبرون عنها بكلمة (الكول) ولا يعلمون أنها عربية في الأصل بحتة، وأن الأجانب أخذوها منّا وأبدلوا الغين بالكاف إذ لا توجد في لغتهم، مطلب ما قاله داود باشا والفرق بين خمر الدنيا والآخرة ونساء أهل الجنة وكلامهم:
ورحم الله داود باشا والي العراق في القرن الثاني عشر هجري حينما سمع أولادا يغنون في الطريق ويقولون:
يا بو زبين حمر وامدكك بإبره
كل الشرائع زلق، من يمّنا العبرة
صاح بأعلى صوته الله الله صدقتم يا أولادي بورك فيكم حقا، والله كل الشرائع زلق، لأنها نسخت، وأن من يأخذ بها بعد نسخها لا بد أن تزلق رجله فتؤديه إلى النار لذلك لا عبور إلى الجنة إلا باتباع شريعتنا أيها الأخوان فمن عندنا العبرة لأن شريعتنا توصل إلى الجنة وصار يصفّق طربا لذلك، مع أن الأولاد لا يعرفون هذا المعنى، وانما يعرفونه لما يتصورونه، وهكذا فإن من يسمع الصوت الحسن أو ضرب الدف أو الناي أو غيرها يؤولها على ما في قلبه ويصرفها لمحبوبه وهو رحمه الله من الأولياء فصرف ما سمعه إلى ما هو في قلبه، وله أخبار أخرى سنذكرها
صفحة رقم 445
فى الآية ٣٤ من سورة المائدة في ج ٣ إن شاء الله هذا ولا يخفى أن كل الخصال الحسنة أخذها عنا الأجانب ويا حسرتا نحن على العكس قلدناهم في المثالب وهم أخذوا عنا المناقب لأنهم يوم كنا ما كانوا شيا وإلا لما دارت رحانا عليهم واستولينا على بلادهم ولما رجعنا الآن القهقرى دارت لهم الكرة علينا وما ذلك إلا لتركنا أمر ديننا وما سنه لنا منقذنا الأعظم وسلفنا الصالح ولا علاج لاسترداد عزنا إلا بالرجوع إلى ديننا الذي فيه شرفنا وفيه قوتنا وبتركه ذلنا وخذلاننا ولا يصلح آخرنا إلا بما صلح به أولنا اللهم أرشدنا إلى طريق الصواب وألهمنا السداد واهدنا إلى الخير واجمع كلمتنا على الحق ووحد صفوفنا بجاهك على نفسك وحرمة أنبيائك وكتبك، وأعد لنا مجدنا ومهابتنا، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
واعلم أن الله تعالى وصف هذه الخمرة بعروها من الغول الذي هو غول العقل إذ يذهب به ولذلك نهى الله عن خمر الدنيا لأنها مملوءة منه فقد تذهب اللب وتوجع البطن وتحرق الحلق وتذيب الأمعاء وتخرش الرئة وتفتت الكبد وتحدث صداعا في الرأس ويعقبها القيء والعربدة والإفساد والسب والشتم وتورث السخرية والاستهزاء والتعيير وأشياء كثيرة لأنها أم الخبائث، وخمرة الآخرة براء من هذا كله ولم يحصل منها إلا السرور والإنشراح ولهذا وصفها الله بقوله عز قوله (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ ٤٧» أي لا تغلبهم على عقولهم فيسكرون منها ويفقدون الوعي، لأن نزف بمعنى فقد وذهب ونزع ونزح، أي أن خمر الدنيا تأخذ بعقول شاربيها، أما هذه فلا، قال الأبيرد اليربوعي:
لعمري لئن أنزفتهم أو حموتم
لبئس الندامى كنتم آل ابجرا
وعلى هذا فلا اشتراك بين خمر الدنيا والآخرة إلا بالاسم لأن حقيقة هذه غير حقيقة تلك ويكفي خمر الدنيا سوءا نتن ريحها ودوسها بالأقدام وعصرها بالأيدي الدنسة، وقيل فيها:
بنت كرم تيموها أهلها
ثم هانوها بدوس بالقدم
ثم عادوا احكموها فيهموا
ويلهم من جور مظلوم حكم
بيد ان خمر الآخرة من معين صاف لم تدنسها الأيدي وتعفسها الأرجل
صفحة رقم 446
واعلم أن العرب تعرف الغول الذي برأ الله تعالى خمرة الآخرة منه، قديما قال امرؤ القيس:
رب كأس شربت لا غول فيها
وسقيت النديم منها مزاجا
وتقدم ما يتعلق في هذا في الآية ١٩ من سورة الواقعة في ج ١ وله صلة في الآية ٢٥ من سورة المطففين الآتية إن شاء الله القائل «وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ» على أزواجهن فقط لأن نساء الجنة لا ينظرن لغير أزواجهن لفرط محبتهن لهم وعدم ميلهن لغيرهم «عِينٌ ٤٨» حسان واسعات الأعين «كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ٤٩» مستور عن النظر مصون عن اللمس كانت العرب تشبه مخدرات النساء ببيض النعام لانه يحفظه بريشه عن الغبار والريح حتى يبقى محافظا على لونه ولذلك يصفون المخدرات من النساء به فيقولون بيضة خدر في المرأة التي لم يرها أحد غير محارمها، قال امرؤ القيس:
وبيضة خدر لا يرام خباؤها
تمتعت في مطويها غير معجل
وكذلك يشبهون النساء بالبيض إذا تناسبت أعضاؤهن لأن البيضة وخاصة بيضة النعام أحسن الأشياء تناسبا وأشدها تقابلا، قال بعض الأدباء:
تناسبت الأعضاء فيها فلا ترى
بهن اختلافا بل أتين على قدر
وإن أحب ألوان النساء عند العرب البيض المشرب خداها بحمرة، الضارب صدغاها وجيدها بصفرة قليلة كبيض النعام فإنه ممزوج بصفار قليل، واعلم أن النعامة تقسم بيضها ثلاثة أقسام ثلثا تقعد عليه لتفرخه وثلثا تدفنه لتقوت به أفراخها عند خروجها من البيض وثلثا تأكله أثناء قعودها على البيض، فسبحان من ألهم كلا ما يصلحه وأحسن كل شيء خلقه وهداه لما به نفعه قال بعض المفسرين أن البيض المكنون هو الجوهر المصون في صدفه وليس هو مرادا هنا، والله أعلم، لنبوّ ظاهر اللفظ عنه، وقدمنا شيئا من هذا أيضا في الآية ٢٣ من سورة الواقعة في ج ١ وله صلة في الآية ٥٦ فما بعدها من سورة الرحمن في ج ٣ قال تعالى «فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ٥٠» أثناء الشرب كعادة أهل الدنيا قال الشاعر: