آيات من القرآن الكريم

فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ
ﮧﮨﮩﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ ﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﯧﯨﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ ﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼ ﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄ ﰆﰇﰈﰉ ﭑﭒﭓﭔ ﭖﭗﭘﭙ ﭛﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤﭥﭦ ﭨﭩﭪﭫﭬ ﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀ ﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋ ﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨ ﮪﮫﮬﮭ ﮯﮰﮱﯓﯔﯕ ﯗﯘﯙﯚ ﯜﯝﯞﯟ ﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧ ﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰﯱ ﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﯿﰀﰁﰂ ﰄﰅﰆ ﰈﰉﰊﰋﰌ ﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔ ﭑﭒﭓﭔ ﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭ ﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸ ﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊ

تخييلية تمثيلية كما في قولهم: قال الحائط للوتد لم تشقني فقال سل من يدقني، وعلى الثاني تكون مكنية وتخييلية كما في نحو لسان الحال ناطق بكذا والمشهور في أمثاله الحمل على اللازم فيكون مجازا مرسلا فيحمل العجب على الاستعظام وهو رؤية الشيء عظيما أي بالغا في الحسن أو القبح، والمراد هنا رؤية ما هم عليه بالغا الغاية في القبح، وليس استعظام الشيء مسبوقا بانفعال يحصل في الروع عن مشاهدة أمر غريب كما توهم ليقال: إن التأويل المذكور لا يحسم مادة الاشكال.
وقال أبو حيان: يؤول على أن صفة فعل يظهرها الله تعالى في صفة المتعجب منه من تعظيم أو تحقير حتى يصير الناس متعجبين منه فالمعنى بل عجبت من ضلالتهم وسوء نحلتهم وجعلتها للناظرين فيها وفيما اقترن بها من شرعي وهداي متعجبا، وقال مكي وعلي بن سليمان: ضمير عَجِبْتَ للنبي عليه الصلاة والسلام والكلام بتقدير القول أي قل بل عجبت، وعندي لو قدر القول بعد بل كان أحسن أي بل قل عجبت، والذي يقتضيه كلام السلف إن العجب فينا انفعال يحصل للنفس عند الجهل بالسبب ولذا قيل: إذا ظهر السبب بطل العجب وهو في الله تعالى بمعنى يليق لذاته عز وجل هو سبحانه أعلم به فلا يعينون المراد والخلف يعينون.
وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ أي ودأبهم أنهم إذا وعظوا بشيء لا يتعظون به أو أنهم إذا ذكر لهم ما يدل على صحة الحشر لا ينتفعون به لبلادتهم وقلة فكرهم، واستفادة الاستمرار من مقام الذم، ولعل في إذا والعطف على الماضي ما يؤيده، وقرأ ابن حبيش «ذكروا» بتخفيف الكاف وَإِذا رَأَوْا آيَةً أي معجزة تدل على صدق من يعظهم ويدعوهم إلى ترك ما هم فيه إلى ما هو خير أو معجزة تدل على صدق القائل بالحشر يَسْتَسْخِرُونَ أي يبالغون في السخرية ويقولون إنه سحر أو يطلب بعضهم من بعض أن يسخر منها،
روي أن ركانة رجلا من المشركين من أهل مكة لقيه الرسول صلّى الله عليه وسلم في جبل خال يرعى غنما له وكان من أقوى الناس فقال له: يا ركانة أرأيت إن صرعتك أتؤمن بي؟
قال: نعم فصرعه ثلاثا ثم عرض له بعض الآيات دعا عليه الصلاة والسلام شجرة فأقبلت فلم يؤمن وجاء إلى مكة فقال:
يا بني هاشم ساحروا بصاحبكم أهل الأرض فنزلت
فيه وفي أضرابه. وقرىء «يستسحرون» بالحاء المهملة أي يعدونها سحرا.

صفحة رقم 75

وَقالُوا إِنْ هذا ما يرونه من الآيات الباهرة إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر سحريته في نفسه. أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أي كان بعض أجزائنا ترابا وبعضها عظاما، وتقديم التراب لأنه منقلب عن الأجزاء البادية، وإذا إما شرطية وجوابها محذوف دل عليه قوله تعالى: أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أي نبعث وفي عاملها الكلام المشهور، وإما متمحضة للظرفية فلا جواب لها ومتعلقها محذوف يدل عليه ذلك أيضا لا هو لأن ما بعد إن واللام لا يعمل فيما قبله أي أنبعث إذا متنا، وإن شئت فقدره مؤخرا فتقديم الظرف لتقوية الإنكار للبعث بتوجيهه إلى حالة منافية له غاية المنافاة، وكذا تكرير الهمزة للمبالغة والتشديد في ذلك وكذا تحلية الجملة بأن، واللام لتأكيد الإنكار لا لإنكار التأكيد كما يوهمه ظاهر النظم الكريم فإن تقديم الهمزة لاقتضائها الصدارة. وقرأ ابن عامر بطرح الهمزة الأولى. وقرأ نافع والكسائي ويعقوب بطرح الثانية أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ مبتدأ حذف خبره لدلالة خبر أن عليه أي أو آباؤنا الأولون مبعوثون أيضا والجملة معطوفة على الجملة قبلها. وهذا أحد مذاهب في نحو هذا التركيب. وظاهر كلام أبي حيان في شرح التسهيل أن حذف الخبر واجب فقد قال: قال من نحا إلى هذا المذهب: الأصل في هذه المسألة عطف الجمل إلا أنهم لما حذفوا الخبر لدلالة ما قبل عليه أنابوا حرف العطف مكانه ولم يقدروا إذ ذاك الخبر المحذوف في اللفظ لئلا يكون جمعا بين العوض والمعوض عنه فأشبه عطف المفردات من جهة أن حرف العطف ليس بعده في اللفظ إلا مفرد. وثاني المذاهب أن يكون معطوفا على الضمير المستتر في خبر إن إن كان مما يتحمل الضمير وكان الضمير مؤكدا أو كان بينه وبين المعطوف فاصل ما وإلا ضعف العطف. ونسب ابن هشام هذا المذهب والذي قبله إلى المحققين من البصريين. وفي تأتيه هنا من غير ضعف للفصل بالهمزة بحث فقد قال أبو حيان: إن همزة الاستفهام لا تدخل على المعطوف إلا إذا كان جملة لئلا يلزم عمل ما قبل الهمزة فيما بعدها وهو غير جائز لصدارتها. والجواب بأن الهمزة هنا مؤكدة للاستبعاد فهي في النية مقدمة داخلة على الجملة في الحقيقة لكن فصل بينهما بما فصل قد بحث فيه بأن الحرف لا يكرر للتوكيد بدون مدخوله والمذكور في النحو أن الاستفهام له الصدر من غير فرق بين مؤكد ومؤسس مع أن كون الهمزة في نية التقديم يضعف أمر الاعتداد بالفصل بها لا سيما وهي حرف واحد فلا يقاس الفصل بها على الفصل بلا في قوله تعالى: ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا [الأنعام: ١٤٨].
وثالثها أن يكون عطفا على محل إن مع ما عملت فيه، والظاهر أنه حينئذ من عطف الجمل في الحقيقة، ورابعها أن يكون عطفا على محل اسم إن لأنه كان قبل دخولها في موضع رفع، والظاهر أنه حينئذ من عطف المفردات.

صفحة رقم 76

واعترض بأن الرفع كان بالابتداء وهو عامل معنوي، وقد بطل بالعامل اللفظي. وأجيب بأن وجوده كلا وجود لشبهه بالزائد من حيث إنه لا يغير معنى الجملة وإنما يفيد التأكيد فقط. واعترض أيضا بأن الخبر المذكور كمبعوثون في الآية يكون حينئذ خبرا عنهما وخبر المبتدأ رافعه الابتداء أو المبتدأ أو هما وخبر إن رافعه إن فيتوارد عاملان على معمول واحد: وأجيب بأن العوامل النحوية ليست مؤثرات حقيقية بل هي بمنزلة العلامات فلا يضر تواردها على معمول واحد وهو كما ترى، وتمام الكلام في محله، وعلى كل حال الأولى ما تقدم من كونه مبتدأ حذف خبره وقد قال أبو حيان: إن أرباب الأقوال الثلاثة الأخيرة متفقون على جواز القول الأول وهو يؤيد القول بأولويته، وأيا ما كان فمراد الكفرة زيادة استبعاد بعث آبائهم بناء على أنهم أقدم فبعثهم أبعد على عقولهم القاصرة. وقرأ أبو جعفر وشيبة وابن عامر ونافع في رواية. وقالوا «أو» بالسكون على أنها حرف عطف وفيه الاحتمالات الأربعة إلا أن العطف على الضمير على هذه القراءة ضعيف لعدم الفصل بشيء أصلا قُلْ نَعَمْ أي تبعثون أنتم وآباؤكم الأولون والخطاب في قوله سبحانه:
وَأَنْتُمْ داخِرُونَ لهم ولآبائهم بطريق التغليب، والجملة في موضع الحال من فاعل ما دل عليه نَعَمْ أي تبعثون كلكم والحال إنك صاغرون أذلاء، وهذه الحال زيادة في الجواب نظير ما وقع في جوابه عليه الصلاة والسلام لأبي ابن خلف حين جاء بعظم قد رم وجعل يفته بيده ويقول: يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما رم
فقال صلّى الله عليه وسلم له على ما في بعض الروايات «نعم ويبعثك ويدخلك جهنم»
وقال غير واحد: إن ذلك من الأسلوب الحكيم. وتعقب بأن عد الزيادة منه لا توافق ما قرر في المعاني وإن كان ذلك اصطلاحا جديدا فلا مشاحة في الاصطلاح واكتفى في الجواب عن إنكارهم البعث على هذا المقدار ولم يقم دليل عليه اكتفاء بسبق ما يدل على جوازه في قوله سبحانه فَاسْتَفْتِهِمْ إلخ مع أن المخبر قد علم صدقه بمعجزاته الواقعة في الخارج التي دل عليها قوله سبحانه وَإِذا رَأَوْا آيَةً الآية. وهزؤهم وتسميتهم لها سحرا لا يضر طالب الحق، والقول بأن ذلك للاكتفاء بقيام الحجة عليهم في القيامة ليس بشيء. وقرأ ابن وثاب والكسائي «نعم» بكسر العين وهي لغة فيه. وقرىء «قال» أي الله تعالى أو رسوله صلّى الله عليه وسلم فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ الضمير راجع إلى البعثة المفهومة مما قبل، وقيل للبعث والتأنيث باعتبار الخبر.
والزجرة الصيحة من زجر الراعي غنمه صاح عليها. والمراد بها النفخة الثانية في الصور ولما كانت بعثتهم ناشئة عن الزجرة جعلت إياها مجازا. والفاء واقعة في جواب شرط مقدر أو تعليلية لنهي مقدر أي إذا كان كذلك فإنما البعثة زجرة واحدة أو لا تستصعبوها فإنما هي زجرة. وجوز الزجاج أن تكون للتفسير والتفصيل وما بعدها مفسر للبعث وتعقب بأن تفسير البعث الذي في كلامهم لا وجه له والذي في الجواب غير مصرح به. وتفسير ما كني عنه بنعم مما لم يعهد.
والظاهر أنه تفسير لما كني عنه بنعم وهو بمنزلة المذكور لا سيما وقد ذكر ما يقوى إحضاره من الجملة الحالية. وعدم عهد التفسير في مثل ذلك مما لا جزم لي به.
وأبو حيان نازع في تقدير الشرط فقال: لا ضرورة تدعو إليه ولا يحذف الشرط ويبقى جوابه إلا إذا انجزم الفعل في الذي يطلق عليه أنه جواب الأمر والنهي وما ذكر معهما على قول بعضهم إما ابتداء فلا يجوز حذفه والجمهور على خلاف والحق معهم، وهذه الجملة إما من تتمة المقول وإما ابتداء كلام من قبله عز وجل.
فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ أي فإذا هم قيام من مراقدهم أحياء يبصرون كما كانوا في الدنيا أو ينتظرون ما يفعل بهم وما يؤمرون به وَقالُوا أي المبعوثون، وصيغة الماضي لتحقق الوقوع يا وَيْلَنا أي يا هلاكنا احضر فهذا أوان حضورك هذا يَوْمُ الدِّينِ استئناف منهم لتعليل دعائهم الويل.
والدين بمعنى الجزاء كما في كما تدين تدان أي هذا اليوم الذي نجازى فيه بأعمالنا، وإنما علموا ذلك لأنهم

صفحة رقم 77

كانوا يسمعون في الدنيا أنهم يبعثون ويحاسبون ويجزون بأعمالهم فلما شاهدوا البعث أيقنوا بما بعده أيضا، وقوله تعالى: هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ كلام الملائكة جوابا لهم بطريق التوبيخ والتقريع، وقيل: هو من كلام بعضهم لبعض أيضا، ووقف أبو حاتم على يا وَيْلَنا وجعل ما بعده كلام الله تعالى أو كلام الملائكة عليهم السلام لهم كأنهم أجابوهم بأنه لا تنفع الولولة والتلهف، والفصل القضاء أو الفرق بين المحسن والمسيء وتمييز كل عن الآخر بدون قضاء احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا خطاب من الله تعالى للملائكة أو من الملائكة بعضهم لبعض.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تقول الملائكة للزبانية: احشروا إلخ، وهو أمر بحشر الظالمين من أماكنهم المختلفة إلى موقف الحساب وقيل من الموقف إلى الجحيم، والسباق والسياق يؤيدان الأول وَأَزْواجَهُمْ أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن منيع في مسنده والحاكم وصححه وجماعة من طريق النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: أزواجهم أمثالهم الذين هم مثلهم يحشر أصحاب الربا مع أصحاب الربا وأصحاب الزنا مع أصحاب الزنا وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر. وأخرج جماعة عن ابن عباس في لفظ أشباههم وفي آخر نظراءهم. وروي تفسير الأزواج بذلك أيضا عن ابن جبير ومجاهد وعكرمة وأصل الزوج المقارن كزوجي النعل فأطلق على لازمه وهو المماثل. وجاء في رواية عن ابن عباس أنه قال: أي نساءهم الكافرات ورجحه الرماني. وقيل قرناءهم من الشياطين وروي هذا عن الضحاك والواو للعطف وجوز أن تكون للمعية. وقرأ عيسى بن سليمان الحجازي «وأزواجهم» بالرفع عطفا على ضمير ظَلَمُوا على ما في البحر أي وظلم أزواجهم.
وأنت تعلم ضعف العطف على الضمير المرفوع في مثله، والقراءة شاذة وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام ونحوها، وحشرهم معهم لزيادة التحسير والتخجيل، وما قيل عام في كل معبود حتى الملائكة والمسيح وعزير عليهم السلام لكن خص منه البعض بقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى [الأنبياء: ١٠١] الآية.
وقيل ما كناية عن الأصنام والأوثان فهي لما لا يعقل فقط لأن الكلام في المشركين عبدة ذلك، وقيل ما على عمومها والأصنام ونحوها غير داخلة لأن جميع المشركين إنما عبدوا الشياطين التي حملتهم على عبادتها، ولا يناسب هذا تفسير أَزْواجَهُمْ بقرنائهم من الشياطين، ومع هذا التخصيص أقرب، وفي هذا العطف دلالة على أن الذين ظلموا المشركون وهم الأحقاء بهذا الوصف فإن الشرك لظلم عظيم فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ فعرفوهم طريقها وأروهم إياه، والمراد بالجحيم النار ويطلق على طبقة من طبقاتها وهو من الجحمة شدة تأجج النار، والتعبير بالصراط والهداية للتهكم بهم وَقِفُوهُمْ أي احبسوهم في الموقف إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ عن عقائدهم وأعمالهم،
وفي الحديث «لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن خمس عن شبابه فيما أبلاه وعن عمره فيما أفناه وعن ماله مما كسبه وفيما أنفقه وعن علمه ماذا عمل به»
وعن ابن مسعود يسألون عن لا إله إلا الله، وعنه أيضا يسألون عن شرب الماء البارد على طريق الهزء بهم.
وروى بعض الإمامية عن ابن جبير عن ابن عباس يسألون عن ولاية علي كرم الله تعالى وجهه
، ورووه أيضا عن أبي سعيد الخدري وأولى هذه الأقوال أن السؤال عن العقائد والأعمال، ورأس ذلك لا إله إلا الله، ومن أجله ولاية علي كرم الله تعالى وجهه وكذا ولاية إخوانه الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
وظاهر الآية أن الحبس للسؤال بعد هدايتهم إلى صراط الجحيم بمعنى تعريفهم إياه ودلالتهم عليه لا بمعنى ادخالهم فيه وإيصالهم إليه، وجوز أن يكون صراط الجحيم طريقهم له من قبورهم إلى مقرهم وهو ممتد فيجوز كون الوقف في بعض منه مؤخرا عن بعض، وفيه من البعد ما فيه، وقيل: إن الوقف للسؤال قبل الأمر المذكور والواو لا تقتضي الترتيب، وقيل الوقف بعد الأمر عند مجيئهم النار والسؤال عما ينطق به قوله تعالى ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ أي

صفحة رقم 78

لا ينصر بعضكم بعضا، والخطاب لهم وآلهتهم أو لهم فقط أي ما لكم لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم تزعمون في الدنيا، فقد روي أن أبا جهل قال يوم بدر: نحن جميع منتصر، وتأخير هذا السؤال إلى ذلك الوقت لأنه وقت تنجيز العذاب وشدة الحاجة إلى النصرة وحالة انقطاع الرجاء والتقريع والتوبيخ حينئذ أشد وقعا وتأثيرا، وقيل: السؤال عن هذا في موقف المحاسبة بعد استيفاء حسابهم والأمر بهدايتهم إلى الجحيم كأن الملائكة عليهم السلام لما أمروا بهدايتهم إلى النار وتوجيههم إليها سارعوا إلى ما أمروا به فقيل لهم قفوهم أنهم مسؤولون، والذي يترجح عندي أن الأمر بهدايتهم إلى الجحيم إنما هو بعد إقامة الحجة عليهم وقطع أعذارهم وذلك بعد محاسبتهم، وعطف (اهدوهم) على احْشُرُوا بالفاء إشارة إلى سرعة وقوع حسابهم، وسؤالهم ما لكم لا تناصرون الأليق أن يكون بعد تحقق ما يقتضي التناصر وليس ذلك إلا بعد الحساب والأمر بهم إلى النار فلعل الوقف لهذا السؤال في ابتداء توجههم إلى النار والله تعالى أعلم. وقرأ عيسى «أنهم» بفتح الهمزة بتقدير لأنهم، وقرأ البزي عن ابن كثير «لا تتناصرون» بتاءين بلا إدغام، وقرىء بإدغام إحداهما في الأخرى بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ منقادون لعجزهم وانسداد الحيل عليهم، وأصل الاستسلام طلب السلامة والانقياد لازم لذلك عرفا فلذا استعمل فيه أو متسالمون كأنه يسلم بعضهم بعضا للهلاك ويخذله، وجوز في الاضراب أن يكون عن مضمون ما قبله أي لا ينازعون في الوقوف وغيره بل ينقادون أو يخذلون أو عن قوله سبحانه لا تَناصَرُونَ أي لا يقدر بعضهم على نصر بعض بل هم منقادون للعذاب أو مخذولون وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ هم الأتباع والرؤساء المضلون أو الكفرة من الإنس وقرناؤهم من الجن، وروي هذا عن مجاهد وقتادة وابن زيد يَتَساءَلُونَ يسأل بعضهم بعضا سؤال تقريع بطريق الخصومة والجدال قالُوا استئناف بياني كأنه قيل: كيف يتساءلون؟ فقيل: قالوا أي الأتباع للرؤساء أو الكفرة مطلقا للقرناء إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا في الدنيا عَنِ الْيَمِينِ أي من جهة الخير وناحيته فتنهونا عنه وتصدونا قاله قتادة، ولشرف اليمين جاهلية وإسلاما دنيا وأخرى استعيرت لجهة الخير استعارة تصريحية تحقيقية، وجعلت اليمين مجازا عن جهة الخير مع أنه مجاز في نفسه فيكون ذلك مجازا على المجاز لأن جهة الخير لشهرة استعماله التحق بالحقيقة فيجوز فيه المجاز على المجاز كما قالوا في المسافة فإنها موضع الشم في الأصل لأنه من ساف التراب إذا شمه فإن الدليل إذا اشتبه عليه الطريق أخذ ترابا فشمه ليعرف أنه مسلوك أولا ثم جعل عبارة عن البعد بين المكانين ثم استعير لفرق ما بين الكلامين ولا بعد هناك، واستظهر بعضهم حمل الكلام على الاستعارة التمثيلية واعتبار التجوز في مجموع تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ لمعنى تمنعوننا وتصدوننا عن الخير فيسلم الكلام من دعوى المجاز على المجاز وكأن المراد بالخير الإيمان بما يجب الإيمان به، وجوز أن يكون المراد به الخير الذي يزعمه المضلون خيرا وأن المعنى تأتوننا من جهة الخير وتزعمون ما أنتم عليه خيرا ودين حق فتخدعوننا وتضلوننا وحكي هذا عن الزجاج.
وقال الجبائي: المعنى كنتم تأتوننا من جهة النصيحة واليمن والبركة فترغبوننا بما أنتم عليه فتضلوننا وهو قريب مما قبله، وجوزوا أن تكون اليمين مجازا مرسلا عن القوة والقهر فإنها موصوفة بالقوة وبها يقع البطش فكأنه أطلق المحل على الحال أو السبب على المسبب، ويمكن أن يكون ذلك بطريق الاستعارة وتشبيه القوة بالجانب الأيمن في التقدم ونحوه، والمعنى إنكم كنتم تأتوننا عن القوة والقهر وتقصدوننا عن السلطان والغلبة حتى تحملونا على الضلال وتقسرونا عليه وإليه ذهب الفراء، وأن يكون اليمين حقيقة بمعنى القسم ومعنى إتيانهم عنه أنهم يأتونهم مقسمين لهم على حقية ما هم عليه من الباطل، والجار والمجرور في موضع الحال، وعن بمعنى الباء كما في قوله تعالى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: ٣] أو هو ظرف لغو، وفيه بعد، وأبعد منه أن يفسر اليمين بالشهوة والهوى لأن جهة اليمين

صفحة رقم 79

موضع الكبد، وهو مخالف لما حكي عن بعض من أن من أتاه الشيطان من جهة اليمين أتاه من قبل الدين فلبس عليه الحق ومن أتاه من جهة الشمال أتاه من قبل الشهوات ومن أتاه من بين يديه أتاه من قبل التكذيب بالقيامة والثواب والعقاب ومن أتاه من خلفه خوفه الفقر على نفسه وعلى من يخلف بعده فلم يصل رحما ولم يؤد زكاة قالُوا استئناف على طرز السابق أي قال الرؤساء أو قال القرناء في جوابهم بطريق الاضراب عما قالوه لهم بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وهو إنكار لإضلالهم إياهم أي أنتم أضللتم أنفسكم بالكفر ولم تكونوا مؤمنين في حد ذاتكم لا أنّا نحن أضللناكم، وقولهم: وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ أي من قهر وتسلط نسلبكم به اختياركم بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ مجاوزين الحد في العصيان مختارين له مصرين عليه جواب آخر تسليمي على فرض اضلالهم بأنهم لم يجبروهم عليه وإنما دعوهم له فأجابوا باختيارهم لموافقة ما دعوا له هواهم، وقيل: الكل جواب واحد محصله إنكم اتصفتم بالكفر من غير جبر عليه، وقولهم: فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ تفريع على صريح ما تقدم من عدم إيمان أولئك المخاصمين لهم وكونهم قوما طاغين في حد ذاتهم وعلى ما اقتضاه وأشعر به خصامهم من كفر هؤلاء المجيبين لأولئك الطاغين وغوايتهم في أنفسهم، وضمائر الجمع للفريقين فكأنهم قالوا: ولأجل أنا جميعا في حد ذاتنا لم نكن مؤمنين وكنا قوما طاغين لزمنا قول ربنا وخالقنا العالم بما نحن عليه وبما يقتضيه استعدادنا وثبت علينا وعيده سبحانه بأنا ذائقون لا محالة لعذابه عز وجل، ومرادهم أن منشأ الخصام في الحقيقة الذي هو العذاب أمر مقضي لا محيص عنه وأنه قد ترتب على كل منا بسبب أمر هو عليه في نفسه وقد اقتضاه استعداده وفعله باختياره فلا يلومن بعضنا بعضا ولكن ليلم كل منا نفسه، ونظموا أنفسهم معهم في ذلك للمبالغة في سد باب اللوم والخصام من أولئك القوم، والفاء في قولهم: فَأَغْوَيْناكُمْ أي فدعونا كم إلى الغي لتفريع الدعاء المذكور على حقية الوعيد عليهم لا لمجرد التعقيب كما قيل، وعلية ذلك للدعاء باعتبار أن وجوده الخارجي متعلقا بهم كان متفرعا عن ذلك في نفس الأمر لا باعتبار أن إصداره وإيقاعه منهم على المخاطبين كان بملاحظة ذلك كما تلاحظ العلل الغائية في الأفعال الاختيارية لأن الظاهر أو رؤساء الكفر لم يكونوا عالمين في الدنيا حقية الوعيد عليهم، نعم لا يبعد أن يكون القرناء من الشياطين عالمين بذلك من أبيهم، وكذا تسمية دعائهم إياهم إلى ما دعوهم إليه إغواء أي دعاء إلى الغي بناء على أن الكلام المذكور من الرؤساء باعتبار نفس الأمر التي ظهرت لهم في يوم القيامة، ومثل هذا يقال في قولهم: إِنَّا كُنَّا غاوِينَ بناء على أنهم إنما علموا ذلك يوم التساؤل والخصام، والجملة مستأنفة لتعليل ما قبلها، وكأن ما أشعر به التفريع باعتبار تعلق الإغواء بالمخاطبين وهذا باعتبار صدور الإغواء نفسه منهم، وهو تصريح بما يستفاد من التفريع السابق.
ويجوز أن يكون إشارة إلى وجه ترتب إغوائهم إياهم على حقية الوعيد عليهم وهو حب أن يتصف أولئك المخاطبون بنحو ما اتصفوا به من الغي ويكونوا مثلهم فيه. وملخص كلامهم أنه ليس منافي حقكم على الحقيقة سوى حب أن تكونوا مثلنا وهو غير ضار لكم وإنما الضار سوء اختياركم وقبح استعدادكم فذلك الذي ترتب عليه حقية الوعيد عليكم وثبوت هذا العذاب لكم، وجوز أن يقال: إنهم نفوا عنهم الإيمان والاعتقاد الحق وأثبتوا لهم الطغيان ومجاوزة الحد في العصيان حيث لم يلتفتوا إلى ما يجب الاعتقاد الصحيح مع كثرته وظهوره ورتبوا على ذلك مع ما يقتضيه البحث حقية الوعيد وفرعوا على مجموع الأمرين أنهم دعوهم إلى الغي مرادا به الكفر لاعتقاد أمر فاسد لا مجرد عدم الإيمان أي عدم التصديق بما يجب التصديق به بدون اعتقاد أمر آخر يكفر باعتقاده، وأشاروا إلى وجه ترتب ذلك على ما ذكر وهو محبة أن يكونوا مثلهم فكأنهم قالوا: كنتم تاركين الاعتقاد الحق غير ملتفتين إليه مع ظهور أدلته

صفحة رقم 80

وكثرتها وكنا جميعا قد حق علينا الوعيد فدعوناكم إلى ما نحن عليه من الاعتقاد الفاسد حبا لأن تكونوا أسوة أنفسنا وهذا كقولهم رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا [القصص: ٦٣] قال الراغب: هو إعلام منهم أنا قد فعلنا بهم غاية ما كان في وسع الإنسان أن يفعل بصديقه ما يريد بنفسه أي أفدناهم ما كان لنا وجعلناهم أسوة أنفسنا وعلى هذا فأغويناكم إنا كنا غاوين انتهى، وجوز على هذا التقدير أن يكون فَأَغْوَيْناكُمْ مفرعا على شرح حال المخاطبين من انتفاء كونهم مؤمنين وثبوت كونهم طاغين وعن الآيات معرضين، وقولهم فَحَقَّ عَلَيْنا إلخ اعتراض لتعجيل بيان أن ما الفريقان فيه أمر مقضي لا ينفع فيه القيل والقال والخصام والجدال، ويجوز على هذا أن يراد بضمير الجمع في فَحَقَّ عَلَيْنا إلخ الرؤساء أو القرناء لا ما يعمهم والمخاطبين وأشاروا بذلك إلى أن ما هم فيه يكفي عن اللوم ويومىء إلى زيادة عذابهم، ولا يخفى أن تجويز الاعتراض لا يخلو عن اعتراض، وتجويز كون الضمير في عَلَيْنا إلخ للرؤساء أو القرناء يجري على غير هذا الاحتمال فتدبر.
وأيا ما كان فقولهم إِنَّا لَذائِقُونَ هو قول ربهم عز وجل ووعيده سبحانه إياهم، ولو حكي كما قيل لقيل إنكم لذائقون ولكنه عدل إلى لفظ المتكلم لأنهم متكلمون بذلك من أنفسهم. ونحوه قول القائل:

لقد زعمت هوازن قل مالي وهل لي غير ما أنفقت مال
ولو حكى قولها لقال قل مالك ومنه قول المحلف للحالف احلف لأخرجن ولتخرجن الهمزة لحكاية لفظ الحالف والتاء لإقبال المحلف على المحلف. وقال بعض الأجلة: قول الرب عز وجل هو قوله سبحانه وتعالى:
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: ٨٥] والربط على ما تقدم أظهر فَإِنَّهُمْ أي الفريقين المتسائلين، والكلام تفريع على ما شرح من حالهم يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ يتساءلون والمراد به يوم القيامة فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ كما كانوا مشتركين في الغواية. واستظهر أن المغوين أشد عذابا وذلك في مقابلة أوزارهم وأوزار مثل أوزارهم فالشركة لا تقتضي المساواة إِنَّا كَذلِكَ أي مثل ذلك الفعل البديع الذي تقتضيه الحكمة التشريعية نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أي بالمشركين لقوله سبحانه وتعالى: إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ بطريق الدعوة والتلقين لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ عن القبول.
وفي إعراب هذه الكلمة الطيبة أقوال: الأول أن يكون الاسم الجليل مرفوعا على البدلية من اسم لا باعتبار المحل الأصلي وهو الرفع على الابتداء بدل بعض من كل وإلا مغنية عن الربط بالضمير. وإذا قلنا إن البدل في الاستثناء قسم على حدة مغاير لغيره من الإبدال اندفع عن هذا الوجه كثير من القيل والقال وهو الجاري على ألسنة المعربين والخبر عليه عند الأكثرين مقدر والمشهور تقديره موجود، والكلمة الطيبة في مقابلة المشركين وهم إنما يزعمون وجود آلهة متعددة ولا يقولون بمجرد الإمكان على أن نفي الوجود في هذا المقام يستلزم نفي الإمكان وكذا نفي الإمكان عمن عداه عز وجل يستلزم ثبوت الوجود بالفعل له تعالى.
وجوز تقديره مستحق للعبادة ونفي استحقاقها يستلزم نفي التعدد لكن لا يتم هذا التقدير على تفسير الإله بالمستحق بالعبادة كما لا يخفى.
واختار البازلي تقدير الخبر مؤخرا عن إلا الله بناء على أن تقديره مقدما يوهم كون الاسم مستثنى مفرغا من ضمير الخبر وهو لا يجوز عند المحققين وأجازه بعض وهو القول الثاني، والثالث ونسب إلى الكوفيين أن إلا عاطفة والاسم الجليل معطوف على الإله باعتبار المحل وهي عندهم بمنزلة لا العاطفة في أن ما بعدها يخالف ما قبلها إلا أن لا لنفي الإيجاب وإلا لإيجاب النفي، والرابع أن الاسم الكريم هو الخبر ولا عمل لها فيه على رأي سيبويه من أن الخبر

صفحة رقم 81

مرفوع بما كان مرفوعا به قبل دخولها فلا يلزم عملها في المعارف على رأيه وهو لازم على رأي غيره، وضعف هذا القول به وكذا بلزوم كون الخاص خبرا عن العام.
وكون الكلام مسوقا لنفي العموم والتخصيص بواحد من أفراد ما دل عليه العام لا يجدي نفعا ضرورة أن لا هذه عند الجمهور من نواسخ المبتدأ والخبر، والخامس أن إلا بمعنى غير وهي مع اسمه عز اسمه صفة لاسم لا باعتبار المحل أي لا إله غير الله تعالى في الوجود، ولا خلل فيه صناعة وإنما التخلل فيه كما قيل معنى لأن المقصود نفي الألوهية عن غيره تعالى وإثباتها له سبحانه وعلى الاستثناء يستفاد كل من المنطوق وعلى هذا لا يفيد المنطوق إلا نفي الألوهية من غيره تعالى دون إثباتها له عز وجل، واعتبار المفهوم غير مجمع عليه لا سيما مفهوم اللقب فإنه لم يقل به إلا الدقائق وبعض الحنابلة، والسادس ونسب إلى الزمخشري أن لا إله في موضع الخبر وإلا الله في موضع المبتدأ والأصل الله إله فلما أريد قصر الصفة على الموصوف قدم الخبر وقرن المبتدأ بإلا إذ المقصور عليه هو الذي يلي إلا والمقصور هو الواقع في سياق النفي والمبتدأ إذا قرن بإلا وجب تقديم الخبر عليه كما هو مقرر في موضعه، وفيه تمحل مع أنه يلزم عليه أن يكون الخبر مبنيا مع لا وهي لا يبنى معها إلا المبتدأ وإنه لو كان الأمر كما ذكر لم يكن لنصب الاسم الواقع بعد الأوجه وقد جوزه جماعة في هذا الترتيب وترك كلامهم لواحد إن التزمته لا تجد لك ثانيا فيه، والسابع أن الاسم المعظم مرفوع بإله كما هو حال المبتدأ إذا كان وصفا فإن إلها بمعنى مألوه من أله إذا عبد فيكون قائما مقام الفاعل وسادا مسد الخبر كما في ما مضروب العمران.
وتعقب بمنع أن يكون إله وصفا وإلا لوجب إعرابه وتنوينه ولا قائل به. ثم إن هذه الكلمة الطيبة يندرج فيها معظم عقائد الإيمان لكن المقصود الأهم منها التوحيد ولذا كان المشركون إذا لقنوها أولا يستكبرون وينفرون وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ يعنون بذلك قاتلهم الله تعالى النبي صلّى الله عليه وسلم. وقد جمعوا بين إنكار الوحدانية وإنكار الرسالة. ووصفهم الشاعر بالمجنون قيل تخليط وهذيان لأن الشعر يقتضي عقلا تاما به تنظم المعاني الغريبة وتصاغ في قوالب الألفاظ البديعة. وفيه نظر وكم رأينا شعراء ناقصي العقول ومنهم من يزعم أنه لا يحسن شعره حتى يشرب المسكر فيسكر ثم يقول، نعم كل من الوصفين هذيان في حقه صلّى الله عليه وسلم بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ رد عليهم وتكذيب لهم ببيان أن ما جاء به عليه الصلاة والسلام من التوحيد هو الحق الثابت الذي قام عليه البرهان وأجمع عليه كافة المرسلين فأين الشعر والجنون من ساحته صلّى الله عليه وسلم الرفيعة الشأن.
وقرأ عبد الله «وصدق» بتخفيف الدال «المرسلون» بالواو رفعا أي وصدق المرسلون في التبشير به وفي أنه يأتي آخرهم إِنَّكُمْ بما فعلتم من الإشراك وتكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام والاستكبار لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ والالتفات لإظهار كمال الغضب عليهم بمشافهتهم بهذا الوعيد وعدم الاكتراث بهم وهو اللائق بالمستكبرين. وقرأ أبو السمال وأبان رواية عن عاصم لَذائِقُوا الْعَذابِ بالنصب على أن حذف النون للتخفيف كما حذف التنوين لذلك في قول أبي الأسود:
فألفيته غير مستعتب... ولا ذاكر الله إلا قليلا
بجرّ ذاكر بلا تنوين ونصب الاسم الجليل. وهذا الحذف قليل في غير ما كان صلة لأل. أما فيما كان صلة لها فكثير الورود لاستطالة الصلة الداعية للتخفيف نحو قوله:
الحافظو عورة العشيرة لا... يأتيهم من ورائهم نطف
ونقل ابن عطية عن أبي السمال أنه قرأ «لذائق» بالإفراد والتنوين «العذاب» بالنصب، وخرج الإفراد على أن

صفحة رقم 82

التقدير لجمع ذائق، وقيل: على تقدير إن جمعكم لذائق. وقرىء «لذائقون» بالنون «العذاب» بالنصب على الأصل وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي إلا جزاء ما كنتم تعملونه من السيئات أو إلا بما كنتم تعملونه منها إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ استثناء منقطع من ضمير ذائقوا وما بينهما اعتراض جيء به مسارعة إلى تحقيق الحق ببيان أن ذوقهم العذاب ليس إلا من جهتهم لا من جهة غيرهم أصلا فإلا مؤولة بلكن وما بعد كخبرها فيصير التقدير لكن عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق وفواكه إلخ.
ويجوز أن يكون المعنى لكن عباد الله المخلصين ليسوا كذلك، وقيل استثناء منقطع من ضمير تُجْزَوْنَ على أن المعنى تجزون بمثل ما عملتم لكن عباد الله المخلصين يجزون أضعافا مضاعفة بالنسبة إلى ما عملوا. ولا يخفى بعده، وأبعد منه جعل الاستثناء من ذلك متصلا بتعميم الخطاب في «تجزون» لجميع المكلفين لما فيه مع احتياجه إلى التكلف الذي في سابقه من تفكيك الضمائر، والْمُخْلَصِينَ صفة مدح حيث كانت الإضافة للتشريف أُولئِكَ أي العباد المذكورون، وفيه إشارة إلى أنهم ممتازون بما اتصفوا به من الإخلاص في عبادته تعالى عمن عداهم امتيازا بالغا، وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإشعار بعلو طبقتهم وبعد منزلتهم في الفضل.
وهو مبتدأ وقوله تعالى: لَهُمْ أما خبر له وقوله سبحانه: رِزْقٌ مرتفع على الفاعلية للظرف وإما خبر مقدم ورِزْقٌ مبتدأ مؤخر والجملة خبر المبتدأ والمجموع كالخبر للمستثنى المنقطع على ما أشرنا إليه أو استئناف لما أفاده الاستثناء إجمالا بيانا تفصيليا وقوله تعالى: مَعْلُومٌ أي معلوم الخصائص ككونه غير مقطوع ولا ممنوع حسن المنظر لذيذ الطعم طيب الرائحة إلى غير ذلك من الصفات المرغوبة، فلا يقال: إن الرزق لا يكون معلوما إلا إذا كان مقدرا بمقدار وقد جاء في آية أخرى يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ [غافر: ٤٠] وما لا يدخل تحت الحساب لا يحد ولا يقدر فلا يكون معلوما، وقيل المراد معلوم الوقت لقوله تعالى وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم: ٦٢] وعن قتادة الرزق المعلوم الجنة، وتعقب بأنه فِي جَنَّاتِ بعد يأباه. واعترض بأنه إذا كان المعنى وهم مكرمون فيها لم يكن به بأس. أجيب بأن جعلها مقر المرزوقين لا يلائم جعلها رزقا وأما إذا كان قيدا للرزق فهو ظاهر الإباء، وكون المساكن رزقا للساكن فإذا اختلف العنوان لم يكن به بأس لا يدفع ما قرر كما لا يخفى على المنصف، وقوله تعالى:
فَواكِهُ بدل من رِزْقٌ بدل كل من كل، وفيه تنبيه على أنه مع تميزه بخواصه كله فواكه أو خبر مبتدأ محذوف والجملة مستأنفة أي ذلك الرزق فواكه والمراد بها ما يؤكل لمجرد التلذذ دون الاقتيات وجميع ما يأكله أهل الجنة كذلك حتى اللحم لكونهم مستغنين عن القوت لإحكام خلقتهم وعدم تحلل شيء من أبدانهم بالحرارة الغريزية ليحتاجوا إلى بدل يحصل من القوت، فالمراد بالفاكهة هنا غير ما أريد بها في قوله تعالى وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [الواقعة: ٢٠، ٢١] وهي هناك بالمعنى المعروف فلا منافاة. وجوز أن يكون عطف بيان للرزق المعلوم فوجه الاختصاص ما علم به من بين الأرزاق أنه فواكه، وقيل هو بدل بعض من كل، وتخصيصها بالذكر لأنها من أتباع سائر الأطعمة فتدل على تحقق غيرها وَهُمْ مُكْرَمُونَ عند الله تعالى لا يلحقهم هوان وذلك أعظم المثوبات وأليقها بأولي الهمم، ولعل هذا إشارة إلى النعيم الروحاني بعد النعيم الجسماني الذي هو بواسطة الأكل.
وقيل مكرمون في نيل الرزق حيث يصل إليهم من غير كسب وكد وسؤال كما هو شأن أرزاق الدنيا.
وقرىء «مكرّمون» بالتشديد فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي في جنات ليس فيها إلا النعيم على أن الإضافة على معنى لام الاختصاص المفيدة للحصر. والظرف متعلق بمكرمون أو بمعلوم أو بمحذوف حال من المستكن في

صفحة رقم 83

مُكْرَمُونَ أو خبر ثان لأولئك أو لَهُمْ وقوله تعالى: عَلى سُرُرٍ يحتمل أن يكون حالا من المستكن في مُكْرَمُونَ أو في الظرف قبله وأن يكون خبرا فيكون قوله سبحانه مُتَقابِلِينَ حالا من المستكن فيه أو في مُكْرَمُونَ أو في الظرف أعني فِي جَنَّاتِ وأن يتعلق بمتقابلين فيكون حالا من المستكن في غيره.
وأشير بتقابلهم إلى استئناس بعضهم ببعض فبعضهم يقابل بعضا للاستئناس والمحادثة. وفي بعض الأحاديث أنه ترفع عنهم الستور أحيانا فينظر بعضهم إلى بعض، وقرأ أبو السمال «سرر» بفتح الراء وهي لغة بعض تميم وكلب يفتحون ما كان جمعا على فعل من المضعف إذا كان اسما، واختلف النحويون في الصفة فمنهم من قاسها على الاسم ففتح فيقول ذلل بفتح اللام على تلك اللغة. ومنهم من خص ذلك بالاسم وهو مورد السماع. وقوله تعالى: يُطافُ عَلَيْهِمْ إما استئناف لبيان ما يكون لهم في مجالس أنسهم أو حال من الضمير في مُتَقابِلِينَ أو في أحد الجارين:
وجوز كونه صفة لمكرمون. وفاعل الطواف على ما قيل من مات من أولاد المشركين قبل التكليف. ففي الصحيح أنهم خدم أهل الجنة. وقد صرح به في موضع آخر وهو قوله تعالى يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ [الواقعة: ١٧] وقوله سبحانه يَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ [الطور: ٢٤] بِكَأْسٍ أي بخمر كما روي عن ابن عباس وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وغيرهما عن الضحاك قال: كل كأس ذكره الله تعالى في القرآن إنما عنى به الخمر. ونقل ذلك أيضا عن الحبر والأخفش وهو مجاز مشهور بمنزلة الحقيقة. وعليه قول الأعشى:
وكأس شربت على لذة... وأخرى تداويت منها بها
ويدل على أنه أراد بها الخمر إطلاقا للمحل على الحال قوله شربت وتقدير شربت ما فيها تكلف، والقرينة هاهنا ما يأتي بعد. وجوز تفسيره بمعناه الحقيقي وهو إناء فيه خمر، وأكثر اللغويين على أن إناء الخمر لا يسمى كأسا حقيقة إلا وفيه خمر فإن خلا منه فهو قدح، والخمر ليس بمتعين، قال في البحر: الكأس ما كان من الزجاج فيه خمر أو نحوه من الأنبذة ولا يسمى كأسا إلا وفيه ذلك، وقال الراغب: الكأس الإناء بما فيه من الشراب ويسمى كل واحد منهما بانفراده كأسا يقال كأس خال ويقال شربت كأسا وكأس طيبة، ولعل كلامه أظهر في أن تسمية الخالي كأسا مجاز، وحكي عن بعضهم أنه قال: الكأس من الأواني كل ما اتسع فمه ولم يكن له مقبض ولا يراعى كونه لخمر أو لغيره مِنْ مَعِينٍ في موضع الصفة لكأس أي كائنة من شراب معين أو نهر معين أي ظاهر للعيون جار على وجه الأرض كما تجري الأنهار أو خارج من العيون والمنابع. وأصله معيون من عان الماء إذا ظهر أو نبع على أن ميمه زائدة أو هو من معن فهو فعيل على أن الميم أصلية.
ووصف به خمر الجنة تشبيها لها بالماء لكثرتها حتى تكون أنهارا جارية في الجنان. ويؤذن ذلك برقتها ولطافتها وأنها لم تدس بالأقدام كخمر الدنيا كما ينبىء عن دوسها بها قوله:
بنت كرم يتموها أمها... ثم هانوها بدوس بالقدم
ثم عادوا حكموها فيهم... ويلهم من جور مظلوم حكم
وقوله الآخر:
وشمولة من عهد عاد قد غدت... صرعى تداس بأرجل العصار
لانت لهم حتى انتشوا فتمكنت... منهم فصاحت فيهم بالثار
وهذا مبني على أنها خمر في الحقيقة، وجوز أن تكون ماء فيه لذة الخمر ونشأته فالوصف بذلك ظاهر، وتفيد

صفحة رقم 84

الآية وصف مائهم باللذة والنشأة، وما ذكر أولا هو الظاهر نعم قال غير واحد: لا اشتراك بين ما في الدنيا وما في الجنة إلا بالأسماء فحقيقة خمر الجنة غير حقيقة خمر الدنيا وكذا سائر ما فيهما بَيْضاءَ وصف آخر للكأس يدل على أنها مؤنثة. وعن الحسن أن خمر الجنة أشد بياضا من اللبن. وأخرج ابن جرير عن السدي أن عبد الله قرأ «صفراء» وقد جاء وصف الخمر الدنيا بذلك كما في قول أبي نواس:

صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها لو مسها حجر مسته سراء
والمشهور أن هذا بعد المزج وإلا فهي قبله حمراء كما قال الشاعر:
وحمراء قبل المزج صفراء بعده أتت في ثيابي نرجس وشقائق
حكت وجنة المحبوب صرفا فسلطوا عليها مزاجا فاكتست لون عاشق
لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وصفت بالمصدر للمبالغة بجعلها نفس اللذة، وجوز أن تكون لذة تأنيث لذ بمعنى لذيذ كطب بمعنى طبيب حاذق، وأنشدوا قوله:
ولذ كطعم الصرخدي تركته بأرض العدا من خشية الحدثان
يريد وعيش لذيذ كطعم الخمر المنسوب لصرخد بلد بالشام، وفسره الزمخشري بالنوم وأراد أنه بمعنى لذيذ غلب على النوم لا أنه اسم جامد، وقوله:
بحديثك اللذ الذي لو كلمك أسد الفلاة به أتين سراعا
وفي قوله تعالى لِلشَّارِبِينَ دون لهم إشارة إلى أنها يلتذ بها الشارب كائنا من كان لا فِيها غَوْلٌ أي غائلة كما في خمر الدنيا من غاله يغوله إذا أفسده، وقال الراغب: الغول إهلاك الشيء من حيث لا يحس به يقال غاله يغوله غولا واغتاله اغتيالا، ومنه سمي السعلاة غولا، والمراد هنا نفي أن يكون فيها ضرر أصلا.
وروى البيهقي وجماعة عن ابن عباس أنه قال في ذلك ليس فيها صداع وفي رواية ابن أبي حاتم عنه لا تغول عقولهم من السكر، وأخرج الطستي عنه أن نافع بن الأزرق قال: أخبرني عن قوله تعالى لا فِيها غَوْلٌ فقال: ليس فيها نتن ولا كراهية كخمر الدنيا قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ فقال: نعم أما سمعت قول امرئ القيس:
رب كأس شربت لا غول فيها وسقيت النديم منها مزاجا
وفي رواية أخرى عنه أنه فسر ذلك بوجع البطن، وروي ذلك عن مجاهد وابن زيد وابن جبير واختير التعميم وأن التنصيص على مخصوص من باب التمثيل، وتقديم الظرف على ما قيل للتخصيص، والمعنى ليس فيها ما في خمور الدنيا من الغول، وفيه كلام في كتب المعاني وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ أي لا يسكرون كما روي عن ابن عباس وغيره، وهو بيان لحاصل المعنى، وأصل النزف نزع الشيء وإذهابه بالتدريج يقال نزفت الماء من البئر إذا نزحته ونزعته كله منها شيئا بعد شيء، ونزف الهم دمعه نزعه كله، ويقال شارب نزيف أي نزفت الخمر عقله بالسكر وأذهبته كما ينزف الرجل البئر وينزع ماءها فكأن الشارب ظرف للعقل فنزع منه، فلا ينزفون مبنيا للمفعول كما قرأ الحرميان والعربيان معناه لا تنزع عقولهم أي لا تنزع الخمر عقولهم ولا تذهبها أو الفاعل هو الله تعالى وتعدية الفعل بعن قيل لتضمينه معنى يصدرون، وقيل عن للتعليل والسببية، وأفرد هذا الفساد بالنفي وعطف على ما يعمه لأنه من عظم فساده كأنه جنس برأسه، وله سميت الخمر أم الخبائث، والمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار. وقرأ حمزة والكسائي

صفحة رقم 85

«ينزفون» بضم الياء وكسر الزاي وتابعهما عاصم في الواقعة على أنه من أنزف الشارب إذا صار ذا نزف أي عقل أو شراب نافد ذاهب فالهمزة فيه للصيرورة، وقيل للدخول في الشيء ولذا صار لازما فهو مثل كبه فأكب، وهو أيضا بمعنى السكر لنفاد عقل السكران أو نفاد شرابه لكثرة شربه فيلزمه عليهما السكر ثم صار حقيقة فيه، قال الأبيرد اليربوعي:

لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم لبئس الندامى كنتم آل أبجرا
وفي البحر أن أنزف مشترك بين سكر ونفذ فيقال أنزف الرجل إذا سكر وأنزف إذا نفد شرابه، وتعدية الفعل للتضمين كما سبق، وجوز إرادة معنى النفاد من غير إرادة معنى السكر أي لا ينفد ولا يفنى شرابهم حتى ينغص عيشهم وليس بذاك. وقرأ ابن أبي إسحاق «ينزفون» بفتح الياء وكسر الزاي، وطلحة بفتح الياء وضم الزاي، والمراد في جميع ذلك نفي السكر على ما هو المأثور عن الجمهور. ومن الغريب ما أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال:
في الخمر أربع خصال السكر والصداع والقيء والبول فنزه الله تعالى خمر الجنة عنها لا فيها غول لا تغول عقولهم من السكر ولا هم عنها ينزفون لا يقيئون عنها كما يقيء صاحب خمر الدنيا عنها، وهو أقرب لاستعمال النزف في الأمور الحسية كنزف البئر والركية وما أشبه القيء وإخراج الفضلات من الجوف بنزف البئر وإخراج مائها عند نزحها، ولولا أن الجمهور على ما سمعت أولا حتى ابن عباس في أكثر الروايات عنه لقلت: إن هذا التفسير هو الأولى وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ قصرن أبصارهن على أزواجهن لا يمددن طرفا إلى غيرهم قاله ابن عباس ومجاهد وابن زيد فمتعلق القصر محذوف للعلم به، والكلام إما على ظاهره أو كناية عن فرط محبتهن لأزواجهن وعدم ميلهن إلى سواهم، وقيل المراد لا يفتحن أعينهن دلالا وغنجا، والوصف على القولين متعد، وجوز كونه قاصرا على أن المعنى ذابلات الجفن مراضه، وما أحيل ذبول الأجفان في الغواني الحسان، ولذا كثر التغزل بذلك قديما وحديثا، ومنه قول ابن الأزدي:
مرضت سلوتي وصح غرامي من لحاظ هي المراض الصحاح
والطرف في كل ذلك طرفهن، وجوز أن يكون الوصف متعديا والطرف طرف غيرهن، والمعنى قاصرات طرف غيرهن عن التجاوز إلى سواهن لغاية حسنهن فلا يتجاوزهن طرف الناظر إليهن كقول المتنبي:
وخصر تثبت الأبصار فيه كأن عليه من حدق نطاقا
وقد ذكر هذا المعنى أيضا ابن رشيق في قول امرئ القيس:
من القاصرات الطرف لو دب محول من الذر فوق الأنف منها لأثرا
وهو لعمري رشيق بيد أني أقول: الظاهر هنا أن العندية في مجالس الشرب إتماما للذة فلعل الأوفق للغيرة وإن كانت الحظيرة حظيرة قدس المعنى الأول، والجمهور قد قصروا الطرف عليه ولا يظن بهم أنهم من القاصرين، والجملة قيل عطف على ما قبلها، وقيل: في موضع الحال أي يطاف عليهم بكأس والحال عندهم نساء قاصرات الطرف عِينٌ جمع عيناء وهي الواسعة العين في جمال، ومنه قيل للبقر الوحشي عين، وقيل: العيناء واسعة العين أي كثيرة محاسن عينها، والحق أن السعة اتساع الشق والتقييد بالجمال يدفع ما عسى أن يقال، وما ألطف وأظرف ذكر عين بعد قاصرات الطرف كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ البيض معروف وهو اسم جنس الواحدة بيضة ويجمع على بيوض كما في قوله:

صفحة رقم 86

والمراد تشبيههن بالبيض الذي كنه الريش في العش أو غيره في غيره فلم تمسه الأيدي ولم يصبه الغبار في الصفاء وشوب البياض بقليل صفرة مع لمعان كما في الدر، والأكثرون على تخصيصه ببيض النعام في الأداحي لكونه أحسن منظرا من سائر البيض وأبعد عن مس الأيدي ووصول ما يغير لونه إليه، والعرب تشبه النساء بالبيض ويقولون لهن بيضات الخدور، ومنه قول امرئ القيس:

بتيهاء قفر والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها
وبيضة خدر لا يرام خباؤها تمتعت من لهو بها غير معجل
والبياض المشوب بقليل صفرة في النساء مرغوب فيه جدا قيل وكذا البياض المشوب بقليل حمرة في الرجال وأما البياض الصرف فغير محمود ولذا ورد في الحلية الشريفة أبيض ليس بالأمهق.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس وهو وغيره عن ابن جبير وابن أبي حاتم وابن حرير عن السدي أن البيض المكنون ما تحت القشر الصلب بينه وبين اللباب الأصفر والمراد تشبيههن بذلك بعد الطبخ في النعومة والطراوة فالبيضة إذا طبخت وقشرت ظهر ما تحت القشرة على أتم نعومة وأكمل طراوة، ومن هنا تسمع العامة يقولون في مدح المرأة: كأنها بيضة مقشرة، ورجح ذلك الطبري بأن الوصف بمكنون يقتضيه دون المشهور لأن خارج قشر البيضة ليس بمكنون، وفيه أن المتبادر من البيض مجموع القشر وما فيه وأكلت كذا بيضة الأكل فيه قرينة إرادة ما في القشر دون المجموع إذ لا يؤكل عادة وحينئذ لا يتم ما قاله الطبري فالأول هو المقبول، ومعنى المكنون فيه ظاهر على ما سمعت، وقد نقل الخفاجي هذا المعنى عن بعض المتأخرين وتعقبه بأنه ناشىء من عدم معرفة كلام العرب وكأنه لم يقف على روايته عن الحبر ومن معه وإلا لا يتسنى له ما قال، ولعل الرواية المذكورة غير ثابتة وكذا ما حكاه أبو حيان عن الحبر من أن البيض المكنون الجوهر المصون لنبو ظاهر اللفظ عن ذلك، وقالت فرقة: المراد تشبيههن بالبيض في تناسب الأجزاء والبيضة أشد الأشياء تناسب أجزاء والتناسب ممدوح، ومن هنا قال بعض الأدباء متغزلا:
تناسب الأعضاء فيه فلا ترى بهن اختلافا بل أتين على قدر
وأنت تعلم بعد فرض تسليم أن تناسب الأجزاء في البيضة معروف بينهم أن الوصف بالمكنون مما لا يظهر له دخل في التشبيه، واستشكل التشبيه على ما تقدم بآية عروس القرآن كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن: ٥٨] فإنها ظاهرة في أن في ألوانهن حمرة وأين هذا من التشبيه بالبيض المكنون على ما سمعت قبل فيتعين أن يراد التشبيه من حيث النعومة والطراوة كما روي ثانيا أو من حيث تناسب الأجزاء كما قيل أخيرا. وأجيب بأنه يجوز أن يكون المشبهات بالبيض المكنون غير المشبهات بالياقوت والمرجان، وكون البياض المشوب بالصفرة أحسن الألوان في النساء غير مسلم بل هو حسن ومثله في الحسن البياض المشوب بحمرة على أن الأحسنية تختلف باختلاف طباع الرائين، وللناس فيما يعشقون مذاهب. والجنة فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
وقيل يجوز أن يكون تشبيههن بالبيض المكنون بالنظر إلى بياض أبدانهن المشوب بصفرة ما عدا وجوههن وتشبيههن بالياقوت والمرجان بالنظر إلى بياض وجوههن المشوب بحمرة، وقيل تشبيههن بهذا ليس من جهة أن بياضهن مشوب بحمرة بل تشبيههن بالياقوت من حيث الصفاء وبالمرجان من حيث الإملاس وجمال المنظر.
وإذا أريد بالمرجان الدرر الصغار كما ذهب إليه جمع دون الخرز الأحمر المعروف يجوز أن يكون التشبيه من حيث البياض المشوب بصفرة فلا إشكال أصلا فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ معطوف على يُطافُ وما بينهما معترض أو من متعلقات الأول أي يشربون فيتحادثون على الشرب كما هو عادة المجتمعين عليه قال محمد ابن فياض:

صفحة رقم 87

وما بقيت من اللذات إلا محادثة الكرام على الشراب
ولثمك وجنتي قمر منير يجول بوجهه ماء الشباب
وعبر بالماضي مع أن المعطوف عليه مضارع للإشعار بالاعتناء بهذا المعطوف بالنسبة إلى المعطوف عليه فكيف لا يقبلون على الحديث وهو أعظم لذاتهم التي يتعاطونها مع ما في ذلك من الإشارة إلى تحقق الوقوع حتما وتساؤلهم عن المعارف والفضائل وما جرى لهم وعليهم في الدنيا، وما أحلى تذكر ما فات عند رفاهية الحال وفراغ البال قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ في تضاعيف محاورتهم إِنِّي كانَ لِي في الدنيا قَرِينٌ مصاحب يَقُولُ لي على طريق التوبيخ بما كنت عليه من الإيمان والتصديق بالبعث المفضي إلى ما أنا عليه اليوم إِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أي بالبعث كما ينبىء عنه قوله سبحانه أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ أي لمبعوثون ومجازون من الدين بمعنى الجزاء وقيل لمسوسون مربوبون من ذاته إذا ساسه ومنه
الحديث «العاقل من دان نفسه».
وقرىء «المصّدقين» بتشديد الصاد من التصدق واعترضت هذه القراءة بأن الكلام عليها لا يلائم قوله سبحانه أَإِذا مِتْنا إلخ، وتعقب بأن فيه غفلة عن سبب النزول، أخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن عطاء الخراساني قال: كان رجلان شريكان وكان لهما ثمانية آلاف دينار فاقتسماها فعمد أكبرهما فاشترى بألف دينار أرضا فقال صاحبه: اللهم إن فلانا اشترى بألف دينار أرضا وإني أشتري منك بألف دينار أرضا في الجنة فتصدق بألف دينار ثم ابتنى صاحبه دار بألف دينار فقال: اللهم إن فلانا قد ابتنى دار بألف دينار وإني أشتري منك في الجنة دارا بألف دينار فتصدق بألف دينار ثم تزوج امرأة فأنفق عليها ألف دينار فقال: اللهم إن فلانا تزوج امرأة فأنفق عليها ألف دينار وإني أخطب إليك من نساء الجنة بألف دينار فتصدق بألف دينار ثم اشترى خدما ومتاعا بألف دينار فقال: اللهم أن فلانا اشترى خدما ومتاعا بألف دينار وإني أشتري منك خدما ومتاعا في الجنة بألف دينار فتصدق بألف دينار ثم أصابته حاجة شديدة فقال لو أتيت صاحبي هذا لعله ينالني منه معروف فجلس على طريقه حتى مر به في حشمه وأهله فقام إليه فنظر الآخر فعرفه فقال:
فلان قال نعم فقال: ما شأنك؟ فقال: أصابتني بعدك حاجة فأتيتك لتصيبني بخير قال: فما فعلت بمالك؟ فقص عليه القصة فقال: أإنك لمن المصدقين بهذا اذهب فو الله لا أعطيك شيئا فرده فقضى لهما أن توفيا فكان مال المتصدق الجنة ومال الآخر النار وفيهما نزلت الآية، وقيل هما اخوان ورثا ثمانية آلاف دينار واقتسماها فكان من خبرهما ما كان، وكان الاثنان من بني إسرائيل وهذا السبب يدل على أن أحدهما كان مصدقا ومتصدقا أيضا والآخر وهو القرين أنكر عليه أنه أنفق ليجازي على إنفاقه بما هو أعظم وأبقى فقد ضيع بزعمه ماله فيما لا أصل له وهو الجزاء الأخروي ولا يكون هذا بدون البعث فلذا أنكره، وليت شعري كيف يتوهم عدم الملاءمة مع قوله تعالى أَإِنَّا لَمَدِينُونَ ولعله أنسب بتلك القراءة، وحاصل المعنى أنت المتصدق طلبا للجزاء في الآخرة فهل نحن بعد ما نفنى نبعث ونجازى، وذكر العظام مع التراب مع أن ذكر التراب يكفي ويغني عن ذلك لتصوير حال ما يشاهده ذلك الشخص من الأجساد البالية من مصير اللحم وغيره ترابا عليه عظام نخرة ليذكره ويخطر بباله ما ينافي مدعاه، وكونه للتنزل في الإنكار أو للتأكيد لا يرجحه بل يجوزه قالَ أي ذلك القائل الذي كان قرين لجلسائه بعد ما حكي لهم مقالة قرينة له في الدنيا هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ على أهل النار لأريكم ذلك القرين الذي قال لي ما حكيت لكم، والمراد من الاستفهام العرض أو الأمر على ما قيل، والغرض من ذلك إراءتهم سوء حال القرين ليؤنسهم نوع إيناس وقيل يريد بذلك بيان صدقه فيما حكاه، ولا يخفى أن ظن الكذب في غاية البعد واطلاع أهل الجنة على أهل النار ومعرفة من فيها مع ما بينهما من التباعد غير بعيد بأن يخلق الله تعالى فيهم حدة نظر ويعرفهم من أرادوا الاطلاع عليه، ولعلهم إذا أرادوا ذلك وقفوا على الأعراف

صفحة رقم 88

فاطلعوا على من أرادوا من أهل النار وقيل إن لهم طاقات في الجنة ينظرون منها من علو إلى أهل النار وعلم القائل بأن القرين من أهل النار لعلمه بأنه كان ينكر البعث ومنكره منهم قطعا والأصل بقاؤه على الكفر وقيل علم ذلك بأخبار الملائكة عليهم السلام إياه، وقيل قائل هَلْ أَنْتُمْ إلخ هو الله تعالى أو بعض الملائكة عليهم السلام يقول للمتحادثين من أهل الجنة هل تحبون أن تطلعوا على أهل النار لأريكم ذلك القرين فتعلموا أين منزلتكم من منزلتهم، وقيل القائل من كان له قرين والمخاطبون بأنتم الملائكة عليهم السلام وفي الكلام حذف كأنه قيل: فقال لهذا القائل حاضروه من الملائكة قرينك هذا يعذب في النار فقال للملائكة الذين أخبروه: هل أنتم مطلعون ولا يخفى ما فيه فَاطَّلَعَ أي على أهل النار فَرَآهُ أي فرأى قرينه فِي سَواءِ الْجَحِيمِ أي في وسطها، ومنه قول عيسى بن عمر لأبي عبيدة كنت أكتب حتى ينقطع سوائي، وسمي الوسط سواء لاستواء المسافة منه إلى الجوانب. وقرأ أبو عمرو في رواية حسين الجعفي مُطَّلِعُونَ بإسكان الطاء وفتح النون «فأطلع» بضم الهمزة وسكون الطاء وكسر اللام فعلا ماضيا مبنيا للمفعول، وهي قراءة ابن عباس وابن محيصن وعمار بن أبي عمار وأبي سراج وقرىء «مطّلعون» مشددا «فاطلّع» مشددا أيضا مضارعا منصوبا على جواب الاستفهام.
وقرىء مطلعون بالتخفيف «فأطلع» مخففا فعلا ماضيا و «فأطلع» مخففا مضارعا منصوبا. وقرأ أبو البرهسم وعمار بن أبي عمار فيما ذكره خلف عنه «مطلعون» بتخفيف الطاء وكسر النون «فاطّلع» ماضيا مبنيا للمفعول ورد هذه القراءة أبو حاتم وغيره لجمعها بين نون الجمع وياء المتكلم والوجه مطلعي كما قال عليه الصلاة والسلام «أو مخرجي هم» ووجهها أبو الفتح على تنزيل اسم الفاعل منزلة المضارع فيقال عنده ضاربونه مثلا كما يقال يضربونه وعليه قوله:

هم الآمرون الخير والفاعلونه إذا ما خشوا من محدث الدهر معظما
وأنشد الطبري قول الشاعر:
وما أدري وظني كل ظن أمسلمني إلى قومي شراحي (١)
ومثله قول الآخر:
فهل فتى من سراة الحي يحملني وليس حاملني إلا ابن حمال
وهذه النون عند جمع نون الوقاية ألحقت مع الوصف حملا له على الفعل وليست مثل النون في القراءة. وفي البيت وإن كان إلحاق كل للحمل. وقال بعضهم: إنها نون التنوين وحركت لالتقاء الساكنين، ورد بأنه سمع إلحاقها مع أل كقوله: وليس الموافيني ومع أفعل التفضيل كما وقع في الحديث غير الدجال أخوفني عليكم.
ويعلم من هذا عدم اختصاص إلحاقها بالشعر نعم هو في غيره قليل، وضعف بعضهم ما وجه به أبو الفتح وقال:
إن ذلك لا يقع إلا في الشعر وخرجت أيضا على أنها من وضع المتصل موضع المنفصل وأريد بذلك أن الأصل مطلعون إياي ثم جعل المنفصل متصلا فقيل مطلعوني ثم حذفت الياء واكتفى عنها بالكسرة كما في قوله تعالى فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ [الحج: ٤٤، سبأ: ٤٥، فاطر: ٢٦، الملك: ١٨] ومثله يقال في الفاعلونه في البيت السابق، ورد ذلك أبو حيان بأن ما ذكر ليس من محال المنفصل حتى يدعي أن المتصل وقع موقعه وادعى أولوية تخريج أبي الفتح، والبيت قيل مصنوع لا يصح الاستشهاد به، وقيل: إن الهاء هاء السكت حركت للضرورة وهو فرار من ضرورة لأخرى إذ تحريكها وإثباتها في الوصل غير جائز، وللنحاة في مسألة إثبات النون مع إضافة الوصف إلى الضمير كلام
(١) قال الفراء يريد شراحيل اه منه. [.....]

صفحة رقم 89

طويل، حاصله أن نحو ضاربك وضارباك وضاربوك ذهب سيبويه إلى أن الضمير فيه في محل جر بالإضافة ولذا حذف التنوين ونون التثنية والجمع، وذهب الأخفش وهشام إلى أن الضمير في محل نصب وحذفها للتخفيف حتى وردتا ثابتين كما في الفاعلونه وأ مسلمني فالنون عندهما في الأخير ونحوه تنوين حرك لالتقاء الساكنين وقد سمعت ما فيه، وحديث الحمل على الفعل على العلات أحسن ما قيل في التوجيه، هذا وطلع وأطلع بالتشديد وأطلع بالتخفيف بمعنى واحد والكل لازم ويجيء الاطلاع متعديا يقال أطلعه على كذا فاطلع، و «مطلعون» في قراءة أبي عمرو بمعنى مطلعون بالتشديد ونائب فاعل أطلع ضمير القائل والفاعل هم المخاطبون واطلاعهم إياه باعتبار التسبب كأنه لما أراد الاطلاع وأحب أن لا يستبد به أدبا عرض عليهم أن يطلعوا فرغبوا وأطلعوا فكان ذلك وسيلة إلى اطلاعه فكأنهم هم الذين أطلعوه ففاء فَاطَّلَعَ فصيحة والعطف على مقدر، والمعنى على القراءة التي بعدها هل أنتم مطلعون حتى أطلع أنا أيضا فاطلعوا وأطلع هو بعد ذلك فرآه في سواء الجحيم ولا بد من تقدير اطلع بعد ذلك ليصلح ترتب فَرَآهُ على ما قبله وهَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ عليه بمعنى الأمر تأدبا ومبالغة وعلى القراءة الثانية وهي قراءة التخفيف في الكلمتين والثانية فعل ماض المعنى كما في قراءة الجمهور، وكذا على القراءة التي بعدها، وعن قراءة أبي البرهسم ومن معه هل أنتم مطلعي فأطلعوه فرآه إلخ، واطلاعهم إياه إذا كان الخطاب للجلساء بطريق التسبب كأنه طلب أن يطلعوا ليوافقهم فيطلع وهو إذا كان (١) الخطاب للملائكة عليهم السلام على ما يتبادر إلى الذهن، وعن صاحب اللوامح إن طلع وأطلع اطلاعا بمعنى أقبل وجاء والقائم مقام الفاعل على قراءة أطلع مبنيا للمفعول ضمير المصدر أو جار ومجرور محذوفان أي اطلع به لأن اطلع لازم كأقبل وقد علمت أن اطلع يجيء متعديا كأطلعت زيدا. ورد أبو حيان الاحتمال الثاني بأن نائب الفاعل لا يجوز حذفه كالفاعل فتأمل جميع ما ذكرنا ولا تغفل قالَ أي القائل لقرينه تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ أي لتهلكني، وفي قراءة عبد الله «لتغوين»، و «إن» مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة. وفي البحر أن القسم فيه التعجب من سلامته منه إذ كان قرينه قارب أن يرديه وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي على وهي التوفيق والعصمة لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ للعذاب كما أحضرته أنت وأضرابك أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إلخ رجوع إلى محاورة جلسائه بعد إتمام الكلام مع قرينه تبجحا وابتهاجا بما أتاح الله تعالى له من الفضل العظيم والنعيم المقيم وتعريضا للقرين بالتوبيخ، وجوز أن يكون من كلام المتسائلين جميعا وأن يكون من تتمة كلام القائل يسمع قرينه على جهة التوبيخ له، واختير الأول، والهمزة للتقرير وفيها معنى التعجب والفاء للعطف على مقدر يقتضيه نظم الكلام على ما ذهب إليه الزمخشري ومتبعوه أي أنحن مخلدون فما نحن بميتين أي ممن شأنه الموت كما يؤذن به الصفة المشبهة.
وقرىء «بمائتين» إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى التي كانت في الدنيا وهي متناولة عند أهل السنة لما في القبر بعد الإحياء للسؤال لعدم الاعتداد بالحياة فيه لكونها غير تامة ولا قارة وزمانها قليل جدا، والاستثناء مفرغ من مصدر مقدر كأنه قيل أفما نحن بميتين موتة إلا موتتنا الأولى، وجوز أن يكون منقطعا أي لكن الموتة الأولى كانت لنا في الدنيا وعلمهم بأنهم لا يموتون ناشىء من إخبار أنبيائهم لهم في الدنيا وإعلامهم إياهم بأن أهل الجنة لا يموتون أو من قول الملائكة عليهم السلام لهم حين دخول الجنة طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزمر: ٧٣] وقولهم ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ [الحجر: ٤٦] وقيل إن أهل الجنة أول ما دخلوا لا يعلمون أنهم لا يموتون فإذا جيء بالموت على صورة كبش أملح وذبح فنودي يا أهل الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت فحينئذ يعلمونه فيقولون ذلك

(١) قوله وهو إذا كان الخطاب إلخ كذا في أصله وانظر اه.

صفحة رقم 90
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية