آيات من القرآن الكريم

فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ
ﯦﯧﯨﯩﯪ ﯬﯭﯮﯯﯰﯱ ﯳﯴﯵﯶﯷ ﯹﯺﯻﯼ ﯾﯿﰀﰁ ﭑﭒﭓﭔ ﭖﭗ ﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢ ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳ ﭵﭶﭷﭸ ﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒ ﮔﮕﮖ ﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦ ﮨﮩﮪﮫﮬ

في بطن الحوت: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، لم يدع به رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له».
٧- كان من تتمة نعمة الله على يونس عليه السلام أنه بعد أن ألقاه الحوت، وهو في حال من الضعف، بساحل قرية من الموصل، أنبت عليه لحمايته وتظليله شجرة من يقطين. روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: طرح يونس بالعراء، وأنبت الله عليه يقطينة، قلنا: يا أبا هريرة، وما اليقطينة؟ قال:
شجرة الدّبّاء، هيأ الله له أروية «١» وحشية تأكل من خشاش الأرض- أو هشاش الأرض- فتفشج «٢» عليه، فترويه من لبنها، كل عشية وبكرة حتى نبت.
٨- بعد أن اشتد لحمه ونبت شعره، أعاده الله إلى قومه الذين يزيد عددهم عن مائة ألف، فدعاهم إلى ربه، فآمنوا لما رأوا أعلام نبوته، ليظهر الله إرادته وقدرته له في الإيمان، ولما آمنوا أزال الله الخوف عنهم، وآمنهم من العذاب، ومتعهم الله بمتاع الدنيا إلى منتهى أعمارهم.
تفنيد عقائد المشركين
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٤٩ الى ١٧٠]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣)
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨)
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣)
وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨)
لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠)

(١) الأروية: الأنثى من الوعول. [.....]
(٢) تفشج: تفرج ما بين رجليها.

صفحة رقم 144

الإعراب:
أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ إِنَّهُمْ مكسورة بعد أَلا لأنها مبتدأة، ولولا اللام في لَيَقُولُونَ لجاز فتحها على أن تكون أَلا بمعنى: حقا، تقول: أحقا أنك منطلق.
أَصْطَفَى الْبَناتِ.. قرئ بهمزة من غير مد، أصله «اصطفى» بهمزة وصل، فأدخلت عليه همزة الاستفهام، فاستغني بها عن همزة الوصل، فحذفت، مثل «أستغفرت». ومن قرأه بالمد أبدل من همزة الوصل مدة كإبدال همزة لام التعريف، نحو: آلرجل عندك، ونحو آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ [يونس ١٠/ ٥٩].
إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ مَنْ: في موضع نصب ب بِفاتِنِينَ وقرئ صالِ الْجَحِيمِ وفيه ثلاثة أوجه: إما حذف لام صالِ وهي الياء، وإما قلب اللام التي هي الياء من «صالي» إلى موضع العين، فصار «صايل» ثم حذف الياء، فبقيت اللام مضمومة، وفيه بعد، وإما أصله «صالون» جمع صال، حملا على معنى «من» فحذفت النون منه للإضافة، وحذف الواو لالتقاء الساكنين.
وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ تقديره: وما منا أحد إلا له مقام معلوم.
وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ إن: مخففة من الثقيلة، وتقديره: وإنهم كانوا ليقولون، ودخلت اللام فرقا بين المخففة والثقيلة.
البلاغة:
الْبَناتِ والْبَنِينَ بينهما طباق.
أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ: تتابع الاستفهام للتوبيخ.

صفحة رقم 145

وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً التفات من الخطاب إلى الغيبة، والأصل: وتجعلون، للإهمال والإبعاد من رحمة الله.
المفردات اللغوية:
فَاسْتَفْتِهِمْ استخبرهم واطلب منهم الفتيا توبيخا لهم، وهو معطوف على مثله في أول السورة، فإنه تعالى أمر رسوله أولا باستفتاء قريش عن وجه إنكارهم البعث، ثم أمره باستفتائهم عن وجه القسمة، حيث جعلوا لله البنات، ولأنفسهم البنين، في قولهم: الملائكة بنات الله. أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ بزعمهم أن الملائكة بنات الله. وَلَهُمُ الْبَنُونَ فيختصون بالأعلى، ويجعلون لله الأدنى.
وَهُمْ شاهِدُونَ الخلق، لأن أمثال ذلك لا يعرف إلا بالشهود أو الحضور.
أَمْ بمعنى «بل» الإضرابية، مع همزة الاستفهام. إِفْكِهِمْ الإفك: أشد الكذب.
وَلَدَ اللَّهُ بقولهم: الملائكة بنات الله. لَكاذِبُونَ فيما ادعوه، وتدينوا به. أَصْطَفَى اختار، والاصطفاء: أخذ صفوة الشيء. وهو استفهام إنكار واستبعاد.
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ هذا الحكم الفاسد الذي لا يرتضيه عقل. أَفَلا تَذَكَّرُونَ أنه منزه عن ذلك من الولد والشريك والند والنظير. سُلْطانٌ مُبِينٌ حجة واضحة، نزلت عليكم من السماء بأن الملائكة بناته، أو أن لله ولدا. فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ
الذي أنزل عليكم. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
في ادعائكم أو قولكم ذلك.
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً أي جعل المشركون بينه تعالى وبين الملائكة نسبا أي صلة وارتباطا بقولهم: إنها بنات الله، وسموا بالجنّة لاستتارهم عن الأبصار. وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ إن الكفرة قائلي ذلك. لَمُحْضَرُونَ للنار للعذاب فيها. سُبْحانَ اللَّهِ تنزيها لله. عَمَّا يَصِفُونَ من الولد (بأن لله ولدا) والنسب إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي لكن عباد الله الذين اصطفاهم ربهم ينزهون الله تعالى عما يصفه هؤلاء، وهو استثناء منقطع.
فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ من الأصنام، وهو عود لخطابهم. ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ على الله بِفاتِنِينَ أحدا، مفسدين الناس بالإغواء، حاملين إياهم على الضلال والفتنة. وعليه: متعلق بفاتنين. إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ إلا من سبق في علم الله تعالى أنه من أهل النار يصلاها لا محالة، يقال: صلي النار: دخلها.
وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ أي قال جبريل للنبي ص: ما منا معشر الملائكة أحد إلا له مقام معلوم في السموات، يعبد الله فيه لا يتجاوزه. وهذا اعتراف الملائكة بالعبودية للرد على عبدتهم. وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ صفوفا في أداء الطاعة ومنازل الخدمة. وَإِنَّا لَنَحْنُ

صفحة رقم 146

الْمُسَبِّحُونَ
المنزهون الله عما لا يليق به. وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ أي وإن كان كفار مكة ليقولون. وَإِنْ مخففة من الثقيلة أي وإنهم.
لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ كتابا من الكتب التي أنزلت على الأمم الماضية. لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ لأخلصنا العبادة له، ولم نخالف مثلهم. فَكَفَرُوا بِهِ أي لما جاءهم القرآن الذي هو أشرف الأذكار والمهيمن عليها كفروا به. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة كفرهم.
سبب النزول:
نزول الآية (١٥٨) :
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ..: أخرج جويبر عن ابن عباس قال: أنزلت هذه الآيات في ثلاثة أحياء من قريش: سليم، وخزاعة، وجهينة: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً. ونقل الواحدي عن المفسرين أنهم قالوا: إن قريشا وأجناس العرب: جهينة وبني سلمة، وخزاعة، وبني مليح قالوا: الملائكة بنات الله.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن مجاهد قال: قال كبار قريش:
الملائكة بنات الله، فقال لهم أبو بكر الصديق: فمن أمهاتهم؟ قالوا، بنات سراة الجن، فأنزل الله وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ.
نزول الآية (١٦٥) :
وَإِنَّا لَنَحْنُ..: أخرج ابن أبي حاتم عن يزيد بن أبي مالك قال: كان الناس يصلون متبددين، فأنزل الله: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ فأمرهم النبي ص أن يصفوا.
المناسبة:
بعد افتتاح هذه السورة بتوبيخ المشركين على إنكارهم البعث، وبعد بيان قصص الأنبياء التي هي في الأعم الأغلب درس بليغ للمشركين، بدأ الله تعالى

صفحة رقم 147

ببيان عقائد المشركين وتفنيدها وتقبيحها، ومن تلك العقائد: إثبات الأولاد لله تعالى، ونسبة البنات لله بقولهم: «الملائكة بنات الله» وجعل البنين لأنفسهم، ثم افتراؤهم بجعل الملائكة إناثا لا ذكورا، ثم أعلن تعالى حملته الشديدة على المشركين، فأبان أنهم عاجزون عن إضلال أحد إلا إذا كان هو من أهل الضلال وأصحاب الجحيم، في علم الله السابق. وناسب بعدئذ إيراد تصريح الملائكة بعبوديتهم لله للرد على المشركين الذين زعموا أنهم بنات الله.
التفسير والبيان:
عطف الله تعالى هذه الآيات على قوله في أول السورة: فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا فقال: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أي استخبرهم يا محمد على سبيل التوبيخ، وسلهم مؤنبا ومقرعا ومنكرا على هؤلاء المشركين في قسمتهم وسفه عقولهم، في جعلهم لأنفسهم البنين، وهو النوع الجيد، ولله تعالى البنات التي يكرهونها أشد الكره، كما قال تعالى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [النحل ١٦/ ٥٨] أي يسوؤه ذلك، ولا يختار لنفسه إلا البنين، فكيف يجعلون لله أدنى الجنسين وهو الإناث، ولهم أعلاها وهم الذكور؟.
والمراد بالآية: بيان جور القسمة وإظهار شدة الغرابة، كيف نسبوا إلى الله تعالى النوع الذي لا يختارونه لأنفسهم؟ كما في قوله عز وجل: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى [النجم ٥٣/ ٢١- ٢٢].
أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ بل كيف حكموا على الملائكة أنهم إناث، وما شاهدوا خلقهم؟ وهذا انتقال عن الكلام الأول إلى ما هو أشد منه، فكيف جعلوهم إناثا، وهم لم يحضروا عند خلقنا لهم، وذلك لا يعلم إلا بالمشاهدة، ولم يشهدوا، فلم يقم لهم دليل يدل على قولهم، لا من النقل الصحيح، ولا من العقل السليم.

صفحة رقم 148

ونظير الآية قوله سبحانه: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً، أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ [الزخرف ٤٣/ ١٩] أي ويسألون عن ذلك يوم القيامة.
أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ: وَلَدَ اللَّهُ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي إن قولهم هذا هو من الكذب والافتراء، الذي لا دليل له ولا شبهة دليل. فكيف يقولون: صدر منه الولد، إنهم فيما يقولون أكذب الكاذبين.
وبه يتبين أنهم ذكروا في الملائكة ثلاثة أوصاف في غاية الكفر والكذب، وهي أنهم جعلوهم بنات الله، فنسبوا الولد لله، وجعلوا ذلك الولد أنثى، ثم عبدوهم من دون الله.
ثم أنكر الله تعالى عليهم حكمهم الجائر فقال:
أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ، ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟ المعنى: أي شيء يحمله على اختيار البنات دون البنين؟ كما قال تعالى:
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً؟ إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً [الإسراء ١٧/ ٤٠] أي كيف يعقل تفضيله البنات على البنين، مع أن البنين أفضل؟
أليس لكم عقول تتدبرون بها ما تقولون؟ أفلا تعتبرون وتتفكرون فتتذكروا بطلان قولكم؟.
أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ؟ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ المعنى: بل ألكم حجة واضحة على هذا القول؟ فإن كان لكم برهان، فهاتوا برهانا على ذلك، مستندا إلى كتاب منزّل من السماء عن الله تعالى أنه اتخذ ما تقولونه، إن صدقتم في ادعائكم.

صفحة رقم 149

ويلاحظ من تتابع هذه الاستفهامات وتكرارها مدى التوبيخ والتبكيت والإنكار الشديد لأقاويلهم، وتسفيه أحلامهم، فإن ما يقولونه لا يمكن استناده إلى عقل، بل لا يجوزه العقل أصلا.
ثم أكد الله تعالى افتراء المشركين على الله بنسبة الملائكة إليه نسبا، فقال:
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً أي جعل المشركون بين الله وبين الجن وهم هنا الملائكة صلة نسب، فقالوا: الملائكة بنات الله، وسموا جنا لاجتنانهم واستتارهم عن الأبصار.
والقائل بهذه المقالة كنانة وخزاعة، قالوا: إن الله خطب إلى سادات الجن، فزوجوه من سروات بناتهم، فالملائكة بنات الله من سروات بنات الجن، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. وما هذا إلا وهم واختراع القصاصين منهم، وقيل:
القبائل هم اليهود، قالوا لعنهم الله: إن الله صاهر الجن، فكانت الملائكة من بينهم. وكل هذا بسبب تشبيه الخالق عز وجل بالبشر، ووصفه بالمادية الجسدية، وهو كفر.
ثم أخبر الله تعالى عن عذابهم قائلا:
وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أي وتالله، لقد علمت الملائكة الذين ادعى المشركون أن بينهم وبينه تعالى نسبا، إن أولئك المشركين لمحضرون للحساب والعذاب في النار، لكذبهم وافترائهم بقولهم المتقدم.
ثم نزّه الله تعالى نفسه عن كل ما لا يليق به من نقائص البشر، قائلا.
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ أي تنزه الله تعالى وتقدس عن أن يكون له ولد، وعما يصفه به الظالمون الملحدون، وتعالى علوا كبيرا.
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي لكن عباد الله المخلصين وهم المتّبعون للحق

صفحة رقم 150

المنزل على كل نبي مرسل ناجون، فلا يحضرون إلى عذاب النار، وهذا استثناء منقطع.
ثم تحدى الله تعالى المشركين، وأثبت عجزهم عن إضلال أحد أو فتنته، فقال مخاطبا المشركين:
فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ. ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ. إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ «١» الْجَحِيمِ أي فإنكم وآلهتكم التي تعبدون من دون الله لستم بقادرين على فتنة أحد عن دينه وإضلاله إلا من هو أضل منكم ممن هو من أهل الجحيم الذي سبق في علم الله تعالى أنهم لما علم من سوء استعدادهم ممن يدخلون النار ويصلونها، وهم المصّرون على الكفر، كما قال تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها، أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ [الأعراف ٧/ ١٧٩] فهذا النوع من الناس: هو الذي ينقاد للشرك والضلالة، كما قال تعالى: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ، يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات ٥١/ ٨- ٩] أي إنما يضل به من هو مأفوك مبطل.
ثم نزه الله تعالى الملائكة مما نسبوا إليه من الكفر بهم والكذب عليهم أنهم بنات الله.
وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ هذا حكاية من الله تعالى عما تقوله الملائكة معناه: وما منا ملك إلا له مرتبة معلومة من المعرفة والعبادة والمكان، لا يتجاوزها. والمراد به الإشارة إلى درجاتهم في طاعة الله تعالى، مبالغة في العبودية لله عز وجل.
قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله ص: «ما من السماء الدنيا موضع إلا عليه ملك ساجد، أو قائم» «٢».

(١) هذا محمول على معنى من ومعناها جماعة، فالتقدير: صالون، ثم حذفت النون للإضافة، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين.
(٢)
رواه ابن مردويه عن أنس بلفظ: «أطت السماء، ويحق لها أن تئط، والذي نفس محمد بيده ما فيها موضع شبر، إلا وفيه جبهة ملك ساجد يسبّح الله بحمده».

صفحة رقم 151

وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ، وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ أي قالت الملائكة أيضا:
وإنا لنحن الصافون صفوفا في مواقف العبودية، وإنا لنحن المسبحون باللسان وبالصلاة، المنزهون الله تعالى عما لا يليق به، فنحن عبيد فقراء لله. والمقصود أن صفات الملائكة هي التذلل والعبادة لله، وليسوا كما وصفهم به الكفار من أنهم بنات الله، وهو إشارة إلى درجاتهم في المعارف، كما أن الأول إشارة إلى درجاتهم في الطاعة.
ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال: «خرج علينا رسول الله ص، ونحن في المسجد، فقال: ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربها، فقلنا: يا رسول الله، كيف تصفّ الملائكة عند ربها؟ قال: يتمّون الصفوف الأوّل، ويتراصّون في الصف».
وفي صحيح مسلم أيضا عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض مسجدا، وتربتها طهورا».
وكان عمر رضي الله عنه إذا قام للصلاة يقول: أقيموا صفوفكم، واستووا، إنما يريد الله بكم هدي الملائكة عند ربها، ويقرأ: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ تأخر يا فلان، تقدم يا فلان، ثم يتقدم فيكبّر.
ثم ذكّر تعالى بما كان يقول المشركون قبل البعثة النبوية: وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ: لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ، لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أي إن المشركين كانوا قبل بعثة النبي ص، إذا عيّروا بالجهل، قالوا: لو كان عندنا كتاب من كتب الأولين كالتوراة والإنجيل، لأخلصنا العبادة لله، ولم نكفر به، فجاءهم محمد ص بالذّكر المبين فكفروا به، وسوف يعلمون عاقبة كفرهم ومغبته. وهذا وعيد أكيد وتهديد شديد على كفرهم بربهم وبالقرآن وبالرسول ص.

صفحة رقم 152

وذلك كقوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ، فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ، ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً [فاطر ٣٥/ ٤٢] وقوله سبحانه: أَنْ تَقُولُوا: إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا، وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا: لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ، فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ، وَصَدَفَ عَنْها، سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ [الأنعام ٦/ ١٥٦- ١٥٧].
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما هو آت:
١- من أكاذيب المشركين الوثنيين وافتراءاتهم أنهم قالوا: البنات لله.
والملائكة بنات الله، والملائكة إناث، وكل ذلك باطل، لأنهم نسبوا لله الولد وهو الذي لم يلد ولم يولد، وكان يستنكفون من البنت، والشيء الذي يستنكف المخلوق منه، كيف يمكن إثباته للخالق، ولم يشهدوا كيفية تخليق الله الملائكة، فكيف يزعمون أنهم إناث؟!! ٢- لكل هذا وبخهم الله تعالى بجمل متتابعة متكررة من الاستفهامات المذكورة في الآيات، والتي تناقض الحس والعقل والمنطق والنظر، ولا دليل عليها من نقل يوثق به، ولا تعتمد على حجة وبرهان.
٣- قال كفار قريش: الملائكة بنات الله، جاعلين نسبا بينه وبينهم، والملائكة مبرؤون من هذا الزعم، ويعلمون يقينا أن أولئك الكفار محضرون للعذاب في نار جهنم.
٤- نزّه الله تعالى نفسه عما قالوا من الكذب، وعما وصفوا من المزاعم،

صفحة رقم 153

وذلك تنزيه واجب واقع لا شك فيه، يستحق ربنا به تمام الحمد والشكر على تعريفنا بما يجب لذاته الكريمة من تقديس.
٥- إن عباد الله المخلصين لله العبادة، المتبعين أوامر ربهم، هم الناجون.
٦- لا يقر هؤلاء الكفار ولا آلهتهم التي يعبدون من دون الله على حمل أحد على الضلال إلا إذا كان سبق في علم الله أنه من أهل النار، لإصراره على الكفر، وعدم استعداده للإيمان.
قال الرازي: وهذا دليل لأهل السنة على أنه لا تأثير لإغواء الشيطان ووسوسته، وإنما المؤثر قضاء الله وتقديره، لأن قوله تعالى: فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ تصريح بأنه لا تأثير لقولهم، ولا تأثير لأحوال معبوديهم في وقوع الفتنة والضلال. وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ يعني إلا من كان كذلك في حكم الله وتقديره «١». وهي رد على القدرية. فإن حكم الله وقدره لا جبر فيه ولا إكراه.
٧- وصف الملائكة أنفسهم بثلاث صفات، تعظيما لله عز وجل، واعترافا بالعبودية له، وإنكارا منهم عبادة من عبدهم، وهي: أن لكل واحد منهم مرتبة لا يتجاوزها، ودرجة لا يتعدى عنها، وأنهم صافون صفوفا في أداء الطاعات ومنازل الخدمة والعبودية، وأنهم دائما يسبحون الله تعالى، والتسبيح: تنزيه الله عما لا يليق به.
وجاءت الصفتان الثانية والثالثة بصفة الحصر، ومعناه: أنهم في مواقف العبودية لا غيرهم، وأنهم هم المسبحون لا غيرهم، وذلك يدل على أن طاعات البشر ومعارفهم بالنسبة إلى طاعات الملائكة وإلى معارفهم كالعدم، حتى يصح هذا الحصر، كما ذكر الرازي. ثم عقب على ذلك قائلا: فكيف يجوز مع هذا الحصر أن

(١) تفسير الرازي: ٢٦/ ١٧٠

صفحة رقم 154
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية