
من إمضاء عزيمته في تنفيذ أمر ربه، وقد بذل وسعه بفعل ما يفعل الذابح بالمذبوح فكأنه ذبحه بلا ريب وأن المانع الذي جعله الله لا يكون مدار القول بعدم إنفاذ ما جزم به، وصبر الولد على الألم الذي قاساه في إمرار السكين لا يقاس به صبر وتسليمهما لإمضاء هذا الأمر لا يقابله تسليم ولهذا فان الله العالم بانقيادهما لأمره انقيادا جازما حال دون ذلك، وأظهره ليطلع عليه الناس، لأنه عالم بما يقع منهما، ولذلك وهب لهما من فيض جوده كبشا وجعله فداء لصفيه إسماعيل وجزاء لخليله إبراهيم عليهما السلام فخاطبه بقوله «وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ ١٠٤» كف عن ذبح ابنك لقيامك بما أمرت به وأنك حقا «قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا» وعملت بالجزم فقبلنا فعلك وان ابنك سلّم وانقاد لأمرنا فقبلنا منه خضوعه دون جزع أو ضجر وقد أظهرنا للناس إنابتكما هذه ليعلموا أن أحدا لا يقدر على ما ابتليتما به «إِنَّا كَذلِكَ» مثل هذا العفو الذي عفونا به عن ذبحك ولدك ومثل هذا الفداء الذي فديناه به جزاء الصبر والامتثال منكما «نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ١٠٥» أمثالك وأمثال ابنك، قال تعالى «إِنَّ هذا» الامتحان الذي اختبرنا به إبراهيم وابنه وقاما به بنية خالصة وصدق محض «لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ ١٠٦» الظاهر الذي تبين به حقيقة الإخلاص «وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ١٠٧» في الجثة والقدر بنسبة المفدى «وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ١٠٨» من بعده ثناء مستمرا إلى يوم القيامة وهو «سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ ١٠٩» من الله وملائكته ورسله وعباده كافة «كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الحسن الدائم «نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ١١٠» في الدنيا والآخرة
«إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ١١١» الكاملي الإيمان «وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ١١٢» لعبادتنا وخلافتنا في الأرض لإرشاد خلقنا زيادة في جزائه الحسن.
مطلب من هو الذبيح وأنه لا يلزم من فضل الأب فضل الابن وبالعكس وأن الفرع السيء والأصل السيء لا يعد عيبا ومعنى خضراء الدمن وبقية القصة:
وهذه الآية مما تدل على أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام دلالة كافية، لأنه بعد أن قص الله تعالى علينا الابتلاء بالذبح وتنفيذ أمره فيه وفدائه له ذكر

إسحق كما ستقف عليه بعد قليل «وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ» ابنه الثاني من السيدة سارة بنت عمه والأول إسماعيل من الجارية هاجر «وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما» ذرية إبراهيم وإسحق قالوا أخرج من صلبهما الف نبي أولهم يعقوب وآخرهم عيسى عليهم السلام «مُحْسِنٌ» لنفسه ولغيره أنبياء وأولياء «وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ١١٣» بين ظلمه بتعديه حدود الله أي أن من ذريتهما كفرة ظلمة عصاة أيضا، ومن هنا يعلم أنه لا يلزم من فضل الأب فضل الابن وبالعكس، فقد يكون الأب نبيا والولد كافرا كنوح عليه السلام وابنه كنعان، وإبراهيم عليه السلام وأبيه آزر.
وفيها تنبيه على أن الخبث والطيب لا يجري أمرهما على العرف والعنصر، فقد يلد البر الفاجر والفاجر البر وهذا مما يهدم أمر الطبائع والعناصر وأن العقب السيء لم يعد عيبا ولا نقيصة على أصله وإنما ينحصر في النّاقص والعيب بالمعيب، كما أن الأصل لا يعد عيبا على الفرع من حيث الكفر وغيره ولا ينطبق هذا على قوله صلّى الله عليه وسلم إياكم وخضراء الدمن فان العرق دساس فإن هذا خاص بمن ضرب على أصلها بفاحشة خشية أن يقتص منها عنده لقوله ﷺ من زنى زني به ولو بحيطان داره أي لا ينجو من القصاص البتة ألا فليتق الله من أراد أن يحافظ على عرضه وأن الشرف يكون فيمن كان آباؤه إسلاما أكثر فهو أشرف ممن آباؤه إسلاما أقل.
وخلاصة هذه القصة على ما قاله الأخباريون هي أنه لما بشر ابراهيم بالولد قال هو ذبيح الله فلما شب قيل له أوف بنذرك، فأخذ سكينا وتعجيلا واستصحب ابنه وهو ابن ثلاث عشرة سنة أو سبع سنين وقال له لنذبح قربانا حتى بلغ به المذبح من منى قال له يا أبت أين القربان؟ قال يا بني أمرت بذبحك وكان ليلة رأى ليلة الثامن من ذي الحجة، فلما أصبح تروى أي تفكر هل رؤياه هذه من الله أو من الشيطان فسميت ليلة التروية ثم رآها ثانيا ليلة التاسع منه فعرف أنها من الله حقا فسميت ليلة عرفة ثم صمم على نحره ليلة العاشر فسميت ليلة النحر.
فاستسلم الغلام لأمر الله وقال يا أبت أفعل ما تؤمر وأشدد رباطي لئلا أضطرب واكفف ثيابي لئلا تتلطخ بالدم فتراه أمي فتحزن فينقص أجرها واستحد الشفرة وأسرع بمر السكين على حلقي ليهون علي الموت وأقرئ أمي مني السلام وأوصها

بالصبر والاستسلام، فقال إبراهيم نعم العون أنت يا بني على تنفيذ أمر الله، ففعل به ما ذكره وقبله وبكى كل منهما، ثم أضجعه ووضع السكين على حلقه وأمرّها بشدة وسرعة فلم تذبح، فحدها ثانيا وثالثا وأراد الذبح بعزم وحزم فلم تذبح، قالوا وقد ضرب الله تعالى بصفحة من نحاس على حلقه لئلا يحس بإمرار السكين ولا يبعد هذا على الله، إلا أن الحق الحق أعلم أنه تبارك وتعالى لم يرد ذبحه فلم تؤثر السكين فيه لأنه لم يودعها قوة الذبح إذ ذاك وهذا أبلغ في القدرة من خلق النحاس، قالوا ولما رآه إسماعيل أنه لم يذبحه ظن أن ذلك من شفقته عليه فقال يا أبت كبني على وجهي لئلا تدركك الرحمة علي برؤية وجهي فتمنعك الرأفة والرقة عن تنفيذ أمر الله، والحال لا يوجد شيء من ذلك، لأن طاعة الله عنده أحب إليه من ابنه ونفسه والناس أجمعين، ولكن الله تعالى لم يرد ذبحه وهذا مما يؤيد ما ذكرناه غير مرة بأن الأمر غير الإرادة راجع الآية ١٤٨ من سورة الأنعام المارة، ففعل أيضا ما أشار به عليه ابنه ووضع السكين على رقبته وجرها كالعادة فلم تذبح، ولما شدد بالجر بها انقلبت على قفاها، فعلم الله كما هو عالم من قبل صدق عزيمته وانقياد ابنه لأمره ففداه بكبش من الجنة وهو الذي قربه هابيل ابن آدم عليه السلام.
مطلب الحيوانات والجمادات التي تحشر وتبقى ورمي الجمار والحكم الشرعي في الأضحية:
وهذا الكبش وحمار عزير وكلب أهل الكهف وعصا موسى وناقة صالح تحشر وتبقى في الجنة كما جاءت بها الأخبار، أما غيرها من الحيوانات والجمادات عدا التي عبدت من دون الله فستكون ترابا والله أعلم. قال ابن عباس لو تمت ذبيحة إسماعيل عليه السلام لصار على الناس ذبح أولادهم سنة ولكن الله لطف بعباده ففداه ولهذا صارت الأضاحي سنة أو واجبة على اختلاف فيها بين المذاهب. قالوا وتعرض الشيطان لإبراهيم في المشعر محل الذبح في منى فسابقه فسبقه إبراهيم ثم ذهب إلى جمرة العقبة فتعرض له الشيطان أيضا فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات أيضا حتى ذهب، ثم أدركه عند الجمرة الكبرى فرماه بسبع حصيات أيضا حتى ذهب، فصار الرمي منذ ذلك الزمن

عادة للحاج إلى ظهور البعثة النبوية، فجعل من سنن الحج، وهو واجب في مذهب الشافعي، وفي تركه نسك وعدد الحصى التي يرمي بها سبعون حصاة سبع يوم العيد وثلاث وستون أيام التشريق الثلاث كل يوم واحد وعشرون لكل موقع من مواقع الرمي سبع، وفي رواية أخرى أن ابراهيم عليه السلام بعد بناء البيت أخذ جبريل عليه السلام يريه مناسكه ويعلمه ما ينبغي لعبادة الله وحده وإذا بإبليس عليه اللعنة تمثل له في مواطن الجمرات فقال له جبريل كبر وارمه سبع حصيات ففعل. فعلى المسلم أن يستشعر هذا بقلبه ويبعد عنه بلسانه عند الرمي فهي حركة صغيرة تعبر عن عاطفة كبيرة يستعين بها أثناء عبادته في درء نزعات الشيطان واخلاص العبادة للرحمن، وقال الغزالي في الاحياء فليقصد برمي الحجار الانقياد للأمر وإظهار الرق للعبودية وانتهاض الامتثال والتشبه بإبراهيم عليه السلام، وما قيل إن محل الرجم قبر أبي رغال قيل كاذب لأنه ليس في هذه الأمكنة وقبره معروف في محل واحد والرجم في ثلاث محال فلو كان لكان الرجم في مكان واحد وقدمنا ما فيه في سورة الفيل ج ١ فراجعه، قالوا ولما ذبح الكبش قال جبريل الله أكبر فقال إسماعيل لا إله إلا الله والله أكبر فقال ابراهيم الله أكبر ولله الحمد فصارت سنة عند الذبح وفي الحج وبعد الصلوات في العيد من زمن ابراهيم إلى يومنا هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، الحكم الشرعي: وجوب الأضحية على كل من ملك النصاب عند أبي حنيفة، ومن نذر أن يذبح ابنه لربه ذبح شاة استدلالا بهذه القصة وقال بقية الأئمة بسنيتها، هذا وقال أهل الكتابين وبعض علماء الإسلام أن الذبيح هو اسحق وبه قال عمر وابن مسعود والعباس من الأصحاب، ومن التابعين سعيد بن جبير وقتادة ومسروق وعكرمة وعطاء ومقاتل والزهري والسدي وقول لابن عباس إذ كانت هذه الرؤيا بالشام، وإنه ذهب به إلى النحر في منى وفداه الله كما مر في القصة، وقال عبد الله بن سلام وأبو بكر وابن عمر وابن عباس من الأصحاب، ومن التابعين الحسن وسعيد بن المسيب والشعبي ومجاهد والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القرظي والكلبي وفي رواية عن عطاء بن أبي رباح ويوسف بن ماهك عن ابن عباس والمقوس أنه إسماعيل، وحجة القول الأول أن الله تعالى قال وبشرناه
صفحة رقم 461
بغلام حليم فلما بلغ معه السعي أمر بذبح من بشر به وليس في القرآن أنه بشر بغير اسحق، وقال تعالى في سورة هود وبشرناه بإسحاق وقال تعالى في هذه السورة وبشرناه بإسحاق نبيا بعد قصة الذبح بما يدل على أنه تعالى إنما بشره بالنبوة لما تحمل من المشقة في قصة الذبح وأن أول الآية وآخرها يدل على أنه اسحق وقد مر في سورة يوسف أن يعقوب لما كتب الكتاب لعزيز مصر كتب من يعقوب بن اسحق ذبيح الله بما يدل على أنه هو الذبيح، وحجة القول الثاني أن الله تعالى ذكر البشارة بإسحاق في السور الأخر غير هذه بعد الفراغ من قصة الذبح، فقال تعالى (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) بما يدل على أن الذبيح غيره ولقوله في سورة هود (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) فكيف يأمره بذبح اسحق وقد وعده بأنه سيأتي منه حفيد له اسمه يعقوب، وقال تعالى (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) الآية
٧٤ من سورة الأنبياء الآتية، وكرر معناها في سور أخرى فلو كان المذبوح اسحق لما بشره ربه بأن يكون له حفيد منه وهذا القول وحده كاف الدلالة على أن الذبيح إسماعيل إذ لو كان الذبيح اسحق لحصل الشك لسيدنا إبراهيم بصحة الرؤيا لأن الله وعده بأنه سيتزوج ويأتي له ولد اسمه يعقوب فكيف يأمر بذبحه؟ هذا وأن وصف إسماعيل بالصبر دون اسحق يدل على أنه هو الذبيح لما فيه من المناسبة الصريحة ولأنه وصف بصدق الوعد بقول تعالى (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) الآية ١٥٣ من سورة مريم المارة في ج ١ حيث وعد أباه بالصبر والموافقة على ذبحه والامتثال لأمر ربه حين قص عليه رؤياه وقد وفى بذلك، وهذا كله يدل دلالة كافية على أن الذبيح هو إسماعيل ويؤيد هذا أن قرني الكبش كانتا معلقتين على الكعبة في أيدي ولد إسماعيل، وبقيت كذلك، إلى أن احترقت زمن ابن الزبير، قال الشعيبي رأيت قرني الكبش موطنين في الكعبة، وقال ابن عباس والذي نفسي بيده لقد كان أول الإسلام وان رأس الكبش لمعلق بقرنين في ميزاب الكعبة وقد وحش أي يبس. وقال الأصمعي سألت أبا عمر بن العلاء عن الذبيح أإسحاق أم إسماعيل، فقال يا أصمعي أين ذهب عقلك متى كان اسحق بمكة إنما كان إسماعيل، وان اليهود تعلم ذلك، ولكن يحسدونكم معشر العرب