بقاءهم على الكفر، لكنه أمر نبيه بدعوتهم إلى دينه لأنهم لا يعلمون سابق علم الله فيهم، ولتعليمنا المنهج في دعوة الناس قاطبة إلى الإيمان بالله والقرآن ورسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم والبعث والحساب والجزاء.
٥- لا أمل بعد هذا في إنذارهم ولا نفع فيه بعد أن سدوا على أنفسهم منافذ الهداية ومدارك المعرفة، ولم تتفتح بصائرهم لرؤية الحق والنور الإلهي.
٦- إنما نفع الإنذار لمن استعد للنظر في منهج الحق، ثم آمن بالقرآن كتابا من عند الله، وخشي عذاب الله وناره قبل المعاينة والحدوث، فهذا وأمثاله يغفر الله له ذنبه، ويدخله الجنة.
٧- البعث حق والإيمان به واجب، والله قادر عليه، وسيكون مستند الجزاء ما كتب من أعمال العباد، وما تركوه من آثار صالحة أو سيئة، كما أن الله أحصى كل شيء وضبطه من أمور الكائنات، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
وقد دلّ سبب نزول الآية على أن حسنات البعيدين عن المسجد مثل حسنات القريبين منه، وأنه إن تعذر عليهم الاقتراب من المسجد أو شقّ عليهم، فلا يلزم القرب منه.
قصة أصحاب القرية- أنطاكية
[سورة يس (٣٦) : الآيات ١٣ الى ٢٧]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧)
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢)
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧)
الإعراب:
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ أَصْحابَ: منصوب إما على البدل من قوله:
مَثَلًا أي واضرب لهم مثلا مثل أصحاب القرية، فالمثل الثاني بدل من الأول، وحذف المضاف، وإما لأنه مفعول ثان ل اضْرِبْ. وإِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ: بدل اشتمال من أصحاب القرية.
وإِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ بدل من إذ الأولى. وإِذْ جاءَهَا: ظرف لقوله جاءَهَا.
أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ جواب الشرط محذوف، تقديره: أئن ذكرتم، تلقيتم التذكير والإنذار بالكفر والإنكار. وأَ إِنْ: همزة استفهام دخلت على إن الشرطية.
وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي: أكثر القراء فتحوا الياء من لِيَ إشعارا بفتح الابتداء ب لا أَعْبُدُ ليبتعدوا عن صورة الوقف على الياء لأنهم لو سكنوا لكانت صورة السكون مثل صورة الوقف. أما في قوله: ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ [النمل ٢٧/ ٢٠] فالياء ساكنة.
بِما غَفَرَ لِي رَبِّي ما: إما بمعنى الذي، وغَفَرَ لِي: صلته، والعائد محذوف
تقديره: الذي غفره لي ربي، وحذف تخفيفا، وإما مصدرية، أي بغفران ربي لي، وإما استفهامية، وفيه معنى التعجب من مغفرة الله، تحقيرا لعمله وتعظيما لمغفرة ربه، لكن في هذا الوجه ضعف لأنه لو كانت استفهامية لزم حذف الألف منها، فتصير (بم).
البلاغة:
اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً إطناب بتكرار الفعل.
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً استفهام للتوبيخ.
قِيلَ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ مجاز بالحذف، أي لما أعلن إيمانه قتلوه، فقيل له: ادخل الجنة.
أَرْسَلْنا الْمُرْسَلُونَ تَطَيَّرْنا طائِرُكُمْ فيهما جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أي: ومثّل لهم مثلا، والمعنى: واضرب لهم مثلا مثل أصحاب القرية، أي اذكر لهم قصة عجيبة قصة أصحاب القرية، والمثل الثاني بيان للأول. والمثل: الصفة والحال الغريبة التي تشبه المثل في الغرابة. أَصْحابَ الْقَرْيَةِ قال القرطبي: هذه القرية: هي أنطاكية في قول جميع المفسرين. إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ هم أصحاب عيسى، بعثهم إلى أهل أنطاكية للدعوة إلى الله. فَكَذَّبُوهُما في الرسالة. فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ قوّينا وأيدنا بثالث، وقرئ: فعززنا بالتخفيف: أي غلبنا وقهرنا.
إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا أي مشاركون لنا في البشرية، فليس لكم مزية علينا تختصون بها.
وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ مما تدّعونه أنتم، ويدّعيه غيركم ممن قبلكم من الرسل وأتباعهم. إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ أي ما أنتم إلا كاذبون في ادعاء ما تدّعون من ذلك. رَبُّنا يَعْلَمُ جار مجرى القسم، وقد أكدوا الجواب بالقسم وباللام، ردا على زيادة إنكارهم.
الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي التبليغ الواضح للرسالة بالأدلة الواضحة وهي معجزات عيسى عليه السلام من إبراء الأكمه والأبرص والمريض وإحياء الميت، وليس علينا غير ذلك. تَطَيَّرْنا تشاءمنا بكم، وذلك لاستغرابهم ما ادّعوه، واستقباحهم له ونفورهم عنه. لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا تتركوا هذه الدعوة، وتعرضوا عن هذه المقالة، واللام لام القسم. لَنَرْجُمَنَّكُمْ بالحجارة. عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم، شديد.
طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أي سبب شؤمكم معكم، وهو الكفر والتكذيب، فهو سبب الشؤم لا نحن.
أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ أي: أإن وعظناكم وخوفناكم وذكرناكم بالله، ادعيتم أن فينا الشؤم عليكم، والمراد بالاستفهام: التوبيخ. مُسْرِفُونَ متجاوزون الحد في الشرك ومخالفة الحق.
وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى هو حبيب بن موسى النجار، كان قد آمن بالرسل أصحاب عيسى، ومنزله بأقصى البلد أي أبعد مواضعها، قال قتادة: «كان يعبد الله في غار، فلما سمع بخبر الرسل جاء يسعى» أي يشتد عدوا لما سمع بتكذيب القوم للرسل. وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي المعنى: أيّ مانع يمنعني من عبادة الذي خلقني، وكذلك أنتم، ما لكم لا تعبدون الله الذي خلقكم؟! وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بعد الموت، فيجازيكم بكفركم.
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً استفهام بمعنى النفي، أي لن أتخذ من غير الله الهة هي الأصنام، فأعبدها وأترك عبادة من يستحق العبادة، وهو الذي فطرني. لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً أي لا تفيدني شيئا من النفع، كائنا ما كان. وَلا يُنْقِذُونِ لا يخلصوني من الضر الذي أرادني الرحمن به. إِنِّي إِذاً أي: إذا اتخذت من دونه آلهة. لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ واضح، وهذا تعريض بهم. إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ آمنت بالذي خلقكم، فاسمعوا إيماني، فرجموه فمات. وهذا تصريح بعد التعريض تشددا في الحق.
قِيلَ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ قيل له عند موته: ادخل الجنة، تكريما له بدخولها بعد قتله، كما هي سنة الله في الشهداء. قالَ: يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ تمنى أن يعلموا بحاله، ليعلموا حسن مآله، وحميد عاقبته، فيؤمنوا مثل إيمانه.
المناسبة:
بعد بيان حال مشركي العرب الذين أصروا على الكفر، ضرب الحق تعالى لهم مثلا يشبه حالهم في الإفراط والغلو في الكفر وتكذيب الدعاة إلى الله، وهو حال أهل قرية أنطاكية شمال سورية على ساحل البحر المتوسط الذين كذبوا الرسل فدمرهم الله بصيحة واحدة، فإذا استمر المشركون على عنادهم واستكبارهم، كان إهلاكهم يسيرا كأهل هذه القرية، وتكون قصتهم مع رسل الله، كقصة قوم النبي صلّى الله عليه وسلّم معه.
التفسير والبيان:
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ أي واضرب مثلا في الغلو والعناد والكفر يا محمد لقومك الذين كذبوك بأهل قرية أنطاكية، حين
أرسل الله إليهم ثلاثة رسل من أصحاب عيسى عليه السلام الحواريين فكذبوهم، كما كذبك قومك عنادا، وأصر الفريقان على التكذيب.
والقرية: أنطاكية في رأي جميع المفسرين، والمرسلون: أصحاب عيسى أرسلهم مقررين لشريعته، في رأي ابن عباس وكثير من المفسرين.
ثم بيّن عدد الرسل فقال:
إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما، فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ، فَقالُوا: إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ أي حين أرسلنا إليهم رسولين، أرسلهما عيسى عليه السلام بأمر الله تعالى، فبادروا إلى تكذيبهما في الرسالة، فأيدناهما وقويناهما برسول ثالث، فقالوا لأهل تلك القرية: إنا مرسلون إليكم من ربكم الذي خلقكم بأن تعبدوه وحده لا شريك له، وتتركوا عبادة الأصنام.
وكان الرسولان الأولان يوحنا وبولص، والرسول الثالث شمعون وقيل: إنه بولص.
فتمسكوا كغيرهم من الأمم بشبهة البشرية، كما حكى تعالى:
قالُوا: ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا، وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ أي قال أصحاب القرية للرسل الثلاثة: أنتم مثلنا بشر تأكلون الطعام وتمشون في الأسواق، فمن أين لكم وجود مزية تختصون بها علينا، وتدّعون الرسالة؟ والله الرحمن لم ينزل إليكم رسالة ولا كتابا مما تدّعون، ويدّعيه غيركم من الرسل وأتباعهم، وما أنتم فيما تدّعون الرسالة إلا كاذبون.
وقولهم: ما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ دليل على اعترافهم بوجود الله، لكنهم ينكرون الرسالة، ويعبدون الأصنام وسائل إلى الله تعالى.
وهذه شبهة كثير من الأمم المكذبة، كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله:
ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَقالُوا: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا؟ [التغابن ٦٤/ ٦] أي تعجبوا من ذلك وأنكروه. وقوله تعالى: قالُوا: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا، فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ [إبراهيم ١٤/ ١٠].
فأجابهم الرسل:
قالُوا: رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ أي أجابتهم رسلهم الثلاثة قائلين:
الله يعلم أنا رسله إليكم، ولو كنا كذبة عليه، لانتقم منا أشد الانتقام، ولكنه سيعزّنا وينصرنا عليكم، وستعلمون لمن تكون عاقبة الدار؟ كقوله تعالى:
قُلْ: كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً، يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ، وَكَفَرُوا بِاللَّهِ، أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [العنكبوت ٢٩/ ٥٢].
ثم ذكر الرسل مهمتهم:
وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي إنما علينا أن نبلغكم ما أرسلنا به إليكم، ولا يجب علينا إلا تبليغ الرسالة بنحو واضح، فإذا استجبتم كانت لكم سعادة الدارين، وإن لم تجيبوا فستعلمون عاقبة تكذيبكم.
فعند ذلك هددهم أهل القرية:
قالُوا: إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ، وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ أي قال لهم أهل القرية: إنا تشاءمنا بكم، ولم نر خيرا في عيشنا على وجوهكم، فقد فرقتمونا وأوقعتم الخلاف فيما بيننا، ولئن لم تتركوا هذه الدعوة، وتعرضوا عن هذه المقالة، لنرجمنكم بالحجارة، وليصيبنكم منا عذاب مؤلم أو عقوبة شديدة. وقوله: وَلَيَمَسَّنَّكُمْ بيان للرجم، يعني: ولا يكون الرجم رجما قليلا بحجر أو حجرين، بل نديم ذلك عليكم إلى الموت، وهو عذاب أليم. ويرى
بعضهم أن الواو بمعنى (أو) والمراد: إما أن نقتلكم أو نسجنكم ونعذبكم في السجون.
فأجابهم الرسل:
قالُوا: طائِرُكُمْ مَعَكُمْ، أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ أي قالت لهم رسلهم: شؤمكم مردود عليكم، وهو معكم ومنكم، فسبب الشؤم هو تكذيبكم وكفركم، لا نحن، أمن أجل تذكيركم وأمرنا إياكم بتوحيد الله وإخلاص العبادة له، ادعيتم أن فينا الشؤم عليكم، وتوعدتمونا وهددتمونا؟ بل الحق أنكم قوم جاوزتم الحد في مخالفة الحق، وأسرفتم في الضلال، وتماديتم في الغي والعناد.
وهذا الموقف مشابه لموقف قوم فرعون: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا: لَنا هذِهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ، أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ [الأعراف ٧/ ١٣١] ومماثل لموقف قوم صالح: قالُوا: اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ، قالَ: طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ [النمل ٢٧/ ٤٧].
ثم أيدهم الله بنصير:
وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى، قالَ: يا قَوْمِ، اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ أي وجاء رجل من أبعد أطراف المدينة يسرع المشي لما سمع بخبر الرسل، وهو حبيب النجار، فقال ناصحا قومه:
يا قوم، اتبعوا رسل الله الذين أتوكم لإنقاذكم من الضلال، وهم مخلصون لكم في دعوتهم، فلا يطلبون أجرا ماليا على إبلاغ الرسالة، وهم على منهج الحق والهداية فيما يدعونكم إليه من عبادة الله وحده لا شريك له.
وأبان أنه يحب لهم ما يحب لنفسه:
وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ؟ أي وما يمنعني من
إخلاص العبادة للذي خلقني، وإليه المرجع والمآل يوم المعاد، فيجازيكم على أعمالكم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وفي هذا ترغيب بعبادة الله وترهيب من عقابه، ثم أكد سلامة منهجه وتقريعهم على عبادة الأصنام، فقال تعالى:
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً، إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً، وَلا يُنْقِذُونِ؟ هذا استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع، يراد به: لن أتخذ من دون الله آلهة، فأعبدها وأترك عبادة من يستحق العبادة، وهو الذي فطرني وخلقني، فإنه إن أرادني الرحمن بسوء لم تنفعني شفاعة هذه الأصنام التي تعبدونها، ولا تخلصني من ورطة السوء، فإنها لا تملك من الأمر شيئا إذ إنها لا تملك دفع الضرر ولا منعه، ولا جلب النفع، ولا تنقذ أحدا مما هو فيه.
إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي إن اتخذت هذه الأصنام آلهة من دون الله، فإني في الحقيقة والواقع في خطأ واضح، وجهل فاضح، وانحراف عن الحق.
وهذا تعريض بهم، ثم صرح بإيمانه تصريحا لا شك فيه مخاطبا الرسل:
إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ أي إني صدقت بربكم الذي أرسلكم، فاشهدوا لي بذلك عنده.
روي عن ابن عباس وكعب ووهب رضي الله عنهم: أنه لما قال ذلك، وثبوا عليه وثبة رجل واحد، فقتلوه، ولم يكن له أحد يمنع عنه. وقال قتادة:
جعلوا يرجمونه بالحجارة، وهو يقول: اللهم اهد قومي، فإنهم لا يعلمون، فلم يزالوا به حتى مات رحمه الله.
وكان من حبّه لهدايتهم:
قِيلَ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، قالَ: يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، بِما غَفَرَ لِي رَبِّي،
وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ
أي قال الله تكريما له بعد قتله: ادخل الجنة، لاستشهادك في سبيل إعلان الحق، فدخلها وهو يرزق فيها، فلما عاين نعيمها قال: يا ليت قومي يعلمون بمآلي وحسن حالي وحميد عاقبتي، فيؤمنوا مثل إيماني، فيصيروا إلى مثل ما أنا فيه من نعيم، وليتهم يعلمون بما أنعم الله عليّ من مغفرة لذنوبي، وبما جعلني في زمرة المكرمين المقربين الشهداء الذين منحهم ربهم الثواب الجزيل والفضل العميم. وهذا شأن المؤمن المخلص يحب الخير للناس جميعا، قال قتادة: لا تلقى المؤمن إلا ناصحا، لا تلقاه غاشّا.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- لم يترك الله سبحانه في قرآنه سبيلا لدعوة الناس إلى الإيمان الصحيح، سواء بالأدلة والبراهين، أو بإعمال الفكر والعقل، أو بالتأمل والمشاهدة، أو بضرب الأمثال، أو بذكر القصص للعظة والعبرة.
والمراد من بيان قصة أصحاب القرية: توضيح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بإنذار المشركين من قومه، حتى لا يحل بهم ما حلّ بكفار أهل القرية المبعوث إليهم ثلاثة رسل.
٢- يكون الرسول عادة من جنس المرسل إليهم، حتى لا يبادروا إلى الإعراض بحجة المغايرة والمخالفة، فتكون شبهة الكافرين ببشرية الرسل في غير محلها، وإنما الباعث عليها الاعتزاز بالنفس والاستعلاء والاستكبار فيما يبدو.
٣- يؤكد الرسل عادة صدقهم بالمعجزات، وأما رسل عيسى فقد ذكروا للقوم معجزاته، وأقسموا بالله أنهم رسل الله الذين بعثهم عيسى بأمر ربه، وإن كذبوهم، لم يجدوا سبيلا إلا التصريح بمهمتهم بالتحديد، وهي إبلاغ الرسالة، والاعلام الواضح في أن الله واحد لا شريك له.
٤- لا يجد المرسل إليهم في العادة ذريعة بعد دحض حجتهم إلا ادّعاء التشاؤم بالرسل. قال مقاتل في أصحاب القرية: حبس عنهم المطر ثلاث سنين، فقالوا: هذا بشؤمكم. ويقال: إنهم أقاموا ينذرونهم عشر سنين.
٥- ثم إذا ضاق الأمر بهم يلجأون عادة إلى التهديد والوعيد إما بالطرد والإبعاد من البلد، وإما بالقتل أو الرجم بالحجارة. قال الفراء في قوله:
لَنَرْجُمَنَّكُمْ: وعامة ما في القرآن من الرجم معناه القتل. وقال قتادة: هو على بابه من الرجم بالحجارة. وقيل: لنشتمنكم.
وأما قوله تعالى: وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ فهو إما القتل أي الرجم بالحجارة المتقدم، وإما التعذيب المؤلم قبل القتل كالسلخ والقطع والصلب.
٦- إن الشؤم الحقيقي من أهل القرية وهو الشرك والكفر وتكذيب الرسل، وليس هو من شؤم المرسلين، ولا بسبب تذكيرهم ووعظهم، وإنما بسبب إسرافهم في الكفر، وتجاوزهم الحدّ، والمشرك يجاوز الحدّ.
٧- لا يعدم الحق في كل زمان أنصارا له، وإن كانوا قلة، وكان أهل الباطل كثرة، فقد قيض الله مؤمنا من أهل القرية جاء يعدو مسرعا لما سمع بخبر الرسل، وناقش قومه، ورغبهم وأرهبهم، ودعاهم إلى توحيد الله واتباع الرسل، وترك عبادة الأصنام، فإن الرسل على حق وهدى، لا يطلبون مالا على تبليغ الرسالة، وهذا دليل إخلاصهم وعدم اتهامهم بمأرب دنيوي، والخالق هو الأحق بالعبادة، وهو الذي إليه المرجع والمآب، فيحاسب الخلائق على ما قدموا من خير أو شر.
أما الأصنام فلا تجلب نفعا ولا تدفع ضررا، ولا تنقذ أحدا مما ألمّ به من البلاء، فمن عبدها بعدئذ فهو في خسران ظاهر.
٨- ثم صرح مؤمن القرية مخاطبا الرسل بأنه مؤمن بالله ربهم، فليشهدوا له بالإيمان.
٩- لقد كان جزاؤه المرتقب من القوم بسبب تصلبه في الدين، وتشدده في إظهار الحق: القتل أو الموت الزؤام. وأما جزاؤه من الله فهو التكريم في جنان الخلد.
١٠- بالرغم من هذا الإيذاء والتعذيب أحبّ هذا المؤمن، كشأن كل مؤمن، أن يبادر قومه إلى الإيمان بمثل ما آمن به، ليحظوا بما حظي به من النعيم والنجاة. قال ابن عباس: نصح قومه حيّا وميتا.
وقال ابن أبي ليلى: سبّاق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين: علي بن أبي طالب وهو أفضلهم، ومؤمن آل فرعون، وصاحب يس، فهم الصدّيقون. وقد ذكره الزمخشري مرفوعا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
١١- قال القرطبي: وفي هذه الآية تنبيه عظيم، ودلالة على وجوب كظم الغيظ، والحلم عن أهل الجهل، والترؤف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي، والتشمر في تخليصه، والتلطف في افتدائه، والاشتغال بذلك عن الشماتة والدعاء عليه. ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته، والباغين له الغوائل، وهم كفرة عبدة أصنام «١».