
وقوله تعالى: ﴿وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ﴾ قال ابن عباس وأكتر المفسرين: يريد من تحت أقدامهم (١).
وقال آخرون: من حيث كانوا؛ لأنهم حيث كانوا فهم من الله قريب، لا يبعدون عنه ولا يفوتونه (٢).
وقال أبو إسحاق: وجواب لو محذوف، المعنى: لو ترى ذلك لرأيت ما تعتبر به عبرة عظيمة (٣).
وقال صاحب النظم: قوله: ﴿فَلَا فَوْتَ﴾ منظوم بما بعده، وهو قوله: ﴿وَأُخِذُوا﴾ والتقدير: ولو ترى إذ فزعوا وأخذوا من مكان قريب فلا فوت، أي: فلا يفوتون.
وقال الزجاج: أي فلا فوت لهم، لا يمكنهم أن يفوتوا (٤).
٥٢ - وقوله: ﴿وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ﴾ قال مقاتل: بالقرآن (٥). وقال غيره: بمحمد -صلى الله عليه وسلم- (٦).
﴿وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ﴾ قال أبو إسحاق: (التناوش: التناول، أي: وكيف لهم أن يتناولوا ما كان مبذولًا لهم، وهو الإيمان والتوبة، وكان قريبًا
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ٢٢/ ١٠٩، "تفسير الماوردي" ٤/ ٤٥٨، "معاني القرآن" للنحاس ٥/ ٤٢٦.
(٣) لم أقف على قول الزجاج، وليس هو في "معاني القرآن" له.
(٤) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٥٨
(٥) لم أقف عليه عن مقاتل، وليس في "تفسيره".
(٦) وبه قال قتادة. انظر: "تفسير القرطبي" ١٤/ ٣١٥، "زاد المسير" ٦/ ٤٦٩.

منهم، وكيف يتناولونه حين بعد عنهم، ومن همز فلأن واو التناوش مضمومة وكل واو مضمومة ضمتها لازمة جاز إبدال الهمزة منها، نحو: أدور وتقاوم، قال: يجوز أن يكون التناوش من النئيش، وهو الحركة في الإبطاء والمعنى: من أين لهم أن يتحركوا فيما لا حيلة لهم فيه) (١).
وقال الفراء: (هما متقاربان، مثل: ذمت الرجل وذأمته، إذا عبته) (٢). وقال أبو علي: المعنى كيف (٣) يتناولونه من بعد، وهم لم يتناولونه من قرب في حين الاختيار والانتفاع بالإيمان، والتناوش: التناول من: نشت تنوش، قال:
تنوش البرير حين نال اهتصارها (٤)
وقال: وهي تنوش الحوض نوشًا من علا فمن علا (٥).
(٢) "معاني القرآن" ٢/ ٣٦٥.
(٣) في (ب): (وكيف).
(٤) عجز بيت هكذا جاء في النسخ، وهو تصحيف، والبيت هو:
فما أم خسف بالعلاية شادن | تنوش البرير حيث طاب اهتصارها |
ومعنى البيت: العلاية: موضع، وفارد: تروى شادن ومشدن، والمعنى توي وتحرك، وتنوش: أي تتنا ول، والبرير: ثمر الأراك، واهتصارها: جذبها غصن الأراك وكسرها إياه. "شرح أشعار الهذليين" ١/ ٧١.
(٥) صدر بيت من الرجز لغيلان بن حريث، وعجزه:
نوشأ به تقطع أجواز الفلا
وصدره جاء في جميع النسخ كما أثبته، والصحيح: وهي تنوش الحوض نوشًا من علا.
انظره منسوبًا إليه في: "مجاز القرآن" ٢/ ١٥٠، "اللسان" ٦/ ٣٦٢، "تاج العروس" =

فمن لم يهمز جعله تفاعلًا من النوش الذي هو التناول، ومن همز احتمل أمرين: أحدهما: أنه أبدل من الواو الهمزة لانضمامها مثل: أقتت وأدؤر، والآخر: أن يكون من النأش، وهو التطلب (١)، والهمزة منه عين، قال رؤبة:
أقحمني جار أبي الخاموش | إليك نأش القدر النئوش |
قال ابن عباس: يريد تناول التوبة يومئذ لا يقبل (٣).
وقال قتادة: أني لهم أن يتناولوا التوبة (٤).
روي عن ابن عباس في تفسير هذه الآية أنه قال: يسألون الرد وليس بحين رد (٥). وهذا معنى وليس بتفسير.
ومعنى البيت: يصف إبلًا وردت حوضًا وتناولت ما فيه تناولًا من فوق، والأجواز: جمع جوز، وهو الوسيط.
(١) هكذا في النسخ! وهو خطأ، والصواب: الطلب، كما في "الحجة" ٦/ ٢٤.
(٢) "مجاز القرآن" ٢/ ١٥١.
(٣) لم أقف عليه
(٤) انظر: "معاني القرآن" للنحاس ٥/ ٤٢٨، وأورده السيوطي في "الدر" ٦/ ٧١٥، وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد.
(٥) انظر: "الطبري" ٢٢/ ١١٠، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" ٢/ ٤٢٤، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وأورده السيوطي في "الدر" ٦/ ٧١٥، وزاد نسبته للفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

وقال قتادة: يقذفون بالغيب يرجمون بالظن، يقولون لا بعث ولا جنة ولا نار (١). وعلى هذا المعنى: وقد كانوا يتكلمون بما غاب عنهم ويحكمون عليه بالكذب في الدنيا، وهو قوله: ﴿مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾. قال مجاهد: في الدنيا، وقد بعدت الدنيا من الآخرة جدًا عند إنقضائها وقيام الساعة (٢). وعلى هذين القولين، قوله: ﴿وَيَقْذِفُونَ﴾ معطوف على ما قبله.
وقال مقاتل: ﴿وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ﴾ أي: ويتكلمون بالإيمان وقد غاب عنهم الإيمان عند نزول العذاب، فلم يقدروا عليه (٣)، وهو قوله: ﴿مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾. وعلى هذا، ويقذفون مستأنف؛ لأنه خبر عنهم أنهم آمنوا حين لا ينفعهم الإيمان بعد أن كفروا في الدنيا.
وشرح ابن قتيبة هذه الآيات فقال: (يقول: ولو ترى يا محمد فزعهم حين لا فوت ولا مهرب لهم ولا ملجأ يفوتون به ويلجأون إليه، وهذا نحو قوله: ﴿فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾ أي: نادوا حين لات مهرب. ﴿وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ﴾: يعني: القبور.
٥٢ - ﴿وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ﴾ أي: بمحمد. ﴿وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ﴾ أي: التناول، أي: كيف لهم بنيل ما طلبوا من الإيمان في هذا الوقت الذي يقال فيه كافر ولا يقبل فيه توبة.
وقوله: ﴿مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ زيد بعد ما بين مكانهم يوم القيامة، وبين
(٢) انظر: "تفسير مجاهد" ص ٥٢٩، "الماوردي" ٤/ ٤٥٩، "معاني القرآن" للنحاس ٥/ ٤٢٩
(٣) في تفسير مقاتل سقطت هذه الآية من الأصل، وعلقت بالهامش، ولكنها غير واضحة، ولم أقف عليه.