
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٥١ الى ٥٤]
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤)وجواب لَوْ محذوف. وكذلك مفعول تَرى. والفزع: حالة من الخوف والرعب تعترى الإنسان عند ما يشعر بما يزعجه ويخيفه. والفوت: النجاة والمهرب.
وهذا الفزع للكافرين يكون عند خروجهم من قبورهم للبعث والحساب، أو عند قبض أرواحهم.
أى: ولو ترى- أيها العاقل- حال الكافرين، وقت خروجهم من قبورهم للحساب، وقد اعتراهم الفزع والهلع.. لرأيت شيئا هائلا، وأمرا عظيما...
وقوله فَلا فَوْتَ أى: فلا مهرب لهم ولا نجاة يومئذ من الوقوف بين يدي الله- تعالى- للحساب، ولمعاقبتهم على كفرهم وجحودهم...
وقوله: وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ معطوف على فَزِعُوا أى: فزعوا دون أن ينفعهم هذا الفزع، وأخذوا ليلقوا مصيرهم السيئ من مكان قريب من موقف الحساب.
قال الآلوسى: والمراد بذكر قرب المكان، سرعة نزول العذاب بهم والاستهانة بهم وبهلاكهم، وإلا فلا قرب ولا بعد بالنسبة إلى الله- عز وجل-... » «١».
وَقالُوا آمَنَّا بِهِ أى: وقال هؤلاء الكافرون عند ما رأوا العذاب المعد لهم في الآخرة:
آمنا بالله- تعالى- وبأنه هو الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لا معبود بحق سواه، وآمنا بهذا الدين الذي جاءنا به رسوله محمد صلّى الله عليه وسلم.
وقوله- سبحانه-: وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ بيان لعدم انتفاعهم بما قالوه من إظهار الإيمان في هذا الوقت.

والتناوش: التناول. يقال: فلان ناش الشيء ينوشه نوشا إذا تناوله. ومنه قولهم:
تناوشوا بالرماح، أى: تناول بعضهم بعضا بها.
أى: لقد قالوا بعد البعث آمنا بهذا الدين، ومن أين لهم في الآخرة تناول الإيمان والتوبة من الكفر، وكان ذلك قريبا منهم في الدنيا فضيعوه، وكيف يظفرون به في الآخرة وهي بعيدة عن دار الدنيا التي هي محل قبول الإيمان.
فالجملة الكريمة تمثيل لحالهم في طلب الخلاص بعد أن فات أوانه، وأن هذا الطلب في نهاية الاستبعاد كما يدل عليه لفظ أَنَّى.
قال صاحب الكشاف: والتناوش والتناول أخوان. إلا أن التناوش تناول سهل لشيء قريب...
وهذا تمثيل لطلبهم ما لا يكون، وهو أن ينفعهم إيمانهم في هذا الوقت، كما ينفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا. مثلت حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة- أى: من مكان بعيد-، كما يتناوله الآخر من قيس ذراع تناولا سهلا لا تعب فيه... » «١».
وقوله- سبحانه- وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ أى: قالوا آمنا بأن يوم القيامة حق، والحال أنهم قد كفروا به من قبل في الدنيا، عند ما دعاهم إلى الإيمان به رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
وقوله- تعالى-: وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ بيان لما كانوا عليه في الدنيا من سفاهة في القول، وجرأة في النطق بالباطل، وفيما لا علم لهم به.
والعرب تقول لكل من تكلم فيما لا يعلمه: هو يقذف ويرجم بالغيب، والجملة الكريمة معطوفة على قوله: وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ.
أى: لقد كفروا بهذا الدين في الدنيا، وكانوا ينطقون بأقوال لا علم لهم بها، وبينها وبين الحق والصدق مسافات بعيدة. فقد نسبوا إلى الله- تعالى- الولد والشريك، ويقولون في الرسول صلّى الله عليه وسلّم إنه ساحر... ، وفي شأن البعث: إنه لا حقيقة له، وفي شأن القرآن: إنه أساطير الأولين.
فالمقصود بالآية تقريعهم وتجهيلهم، على ما كانوا يتفوهون به من كلام ساقط، بينه وبين الحقيقة مسافات بعيدة.
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة ببيان حرمانهم التام مما يشتهونه فقال:

وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ.
وقوله حِيلَ فعل مبنى للمجهول مأخوذ من الحول بمعنى المنع والحجز. تقول حال الموج بيني وبين فلان. أى: منعني من الوصول إليه، ومنه قوله- تعالى-: وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ.
أى: وحجز وفصل بين هؤلاء المشركين يوم القيامة وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ ويتمنون من قبول إيمانهم في هذا اليوم، أو من العفو عنهم في هذا اليوم، أو من العفو عنهم ورجوعهم إلى الدنيا.. حيل بينهم وبين كل ذلك، كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ أى: كما هو الحال بالنسبة لأمثالهم ونظرائهم الذين سبقوهم في الكفر.
إِنَّهُمْ كانُوا جميعا على نمط واحد فِي شَكٍّ من أمر هذا الدين مُرِيبٍ أى:
موقع في الريبة.
وبعد: فهذا تفسير وسيط لسورة «سبأ» نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

تفسير سورة فاطر
صفحة رقم 313
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة وتمهيد١- سورة فاطر هي السورة الخامسة والثلاثون في ترتيب المصحف، وكان نزولها بعد سورة الفرقان- كما ذكر صاحب الإتقان «١».
وهي من السور المكية الخالصة، وتسمى أيضا- بسورة «الملائكة».
قال القرطبي: هي مكية في قول الجميع. وهي خمس وأربعون آية «٢».
٢- سورة فاطر هي آخر السور التي افتتحت بقوله- تعالى-: الْحَمْدُ لِلَّهِ وقد سبقها في هذا الافتتاح سور: الفاتحة، والأنعام، والكهف، وسبأ.
قال- سبحانه- في افتتاح سورة فاطر: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ، يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
٣- ثم تحدث- سبحانه- بعد ذلك عن مظاهر نعمه على عباده ورحمته بهم، فقال:
ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها، وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ....
٤- ثم توجه السورة الكريمة نداءين إلى الناس، تأمرهم في أولهما بشكر الله- تعالى- على نعمه، وتنهاهم في ثانيهما عن الاغترار بزينة الحياة الدنيا وعن اتباع خطوات الشيطان..
قال- سبحانه-: يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ... وقال- جل شأنه-: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ.
(٢) تفسير القرطبي ج ١٤ ص ٣١٨.

٥- وبعد أن تسلى السورة الكريمة الرسول صلّى الله عليه وسلّم عما أصابه من أعدائه، تأخذ في بيان مظاهر قدرة الله- تعالى- في خلقه، فتذكر قدرته- سبحانه- في إرسال الرياح والسحب، وفي خلقه للإنسان من تراب، وفي إيجاده للبحرين: أحدهما عذب فرات سائغ شرابه، والثاني: ملح أجاج، وفي إدخاله الليل في النهار، والنهار في الليل، وفي تسخيره الشمس والقمر..
قال- تعالى-: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ، وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا، وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها، وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ، لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى، ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ، وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ.
٦- ثم وجه- سبحانه- نداء ثالثا إلى الناس، بين لهم فيه: افتقارهم اليه- تعالى- وحاجتهم إلى عونه وعطائه، وتحمل كل إنسان لمسئولياته ولنتائج أعماله..
كما بين لهم- سبحانه- أن الفرق بين الهدى والضلال، كالفرق بين الإبصار والعمى، وبين النور والظلمات، وبين الحياة والموت، وبين الظل والحرور.
قال- تعالى-: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ، وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ. وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ، إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ، وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ.
٧- ثم عادت السورة الكريمة إلى الحديث عن مظاهر قدرة الله- تعالى- ورحمته بعباده، وعن الثواب العظيم الذي أعده- سبحانه- لمن يتلون كتابه ولمن يحافظون على فرائضه- وعن عقابه الأليم للكافرين الجاحدين لنعمه..
قال- تعالى-: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها، وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها، وَغَرابِيبُ سُودٌ. وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ، إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ. إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً، يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ.
ثم قال- سبحانه-: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ، لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ.
٨- ثم انتقلت السورة الكريمة في أواخرها إلى الحديث عن جهالات المشركين، حيث عبدوا من دون الله- تعالى- مالا يملك لهم ضرا ولا نفعا، وعن مكرهم السيئ الذي لا يحيق

إلا بأهله، وعن نقضهم لعهودهم حيث أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ، فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً...
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة ببيان سعة رحمته بالناس فقال: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا، ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ، وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً.
٩- وهكذا نرى سورة فاطر قد طوفت بالنفس الإنسانية في أرجاء هذا الكون، وأقامت الأدلة على وحدانية الله- تعالى- وقدرته. عن طريق نعم الله- تعالى- المبثوثة في الأرض وفي السماء، وفي الليل وفي النهار، وفي الشمس وفي القمر: وفي الرياح وفي السحب، وفي البر وفي البحر.. وفي غير ذلك من النعم التي سخرها- سبحانه- لعباده.
كما نراها قد حددت وظيفة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وساقت له ما يسليه ويزيده ثباتا على ثباته، وما يرشد كل عاقل إلى حسن عاقبة الأخيار، وسوء عاقبة الأشرار.
وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..