
فَسَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ صَوْتَ الْجَبَّارِ يَتَكَلَّمُ بِالْوَحْيِ، فَلَمَّا كشف عن قلوبهم سئلوا عَمَّا قَالَ اللَّهُ، فَقَالُوا الْحَقَّ، وَعَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَقُولُ إِلَّا حَقًّا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَصَوْتُ الْوَحْيِ كَصَوْتِ الْحَدِيدِ عَلَى الصَّفَا، فلما سمعوا خرّوا سجدا، فلما رفعوا رؤوسهم قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. وأخرج عبد ابن حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: يَنْزِلُ الْأَمْرُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا لَهُ وَقْعَةٌ كَوَقْعَةِ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّخْرَةِ، فَيَفْزَعُ له جميع أهل السموات فَيَقُولُونَ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَيَقُولُونَ: الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ: كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا لِلَّذِي قَالَ: الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» الْحَدِيثَ وَفِي مَعْنَاهُ أَحَادِيثُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قَالَ: نَحْنُ عَلَى هُدًى، وَإِنَّكُمْ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ (الْفَتَّاحُ) الْقَاضِي.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٢٨ الى ٣٣]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢)
وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣)
فِي انْتِصَابِ كَافَّةً وُجُوهٌ، فَقِيلَ: إِنَّهُ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْكَافِ فِي أَرْسَلْناكَ قَالَ الزَّجَّاجُ:
أَيْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا جَامِعًا لِلنَّاسِ بِالْإِنْذَارِ وَالْإِبْلَاغِ، وَالْكَافَّةُ بِمَعْنَى الْجَامِعُ، وَالْهَاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ كَعَلَّامَةٍ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: أَمَّا قَوْلُ الزَّجَّاجِ إِنَّ كَافَّةً بِمَعْنَى جَامِعًا، وَالْهَاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ، فَإِنَّ اللُّغَةَ لَا تُسَاعِدُ عَلَيْهِ لِأَنَّ كَفَّ لَيْسَ مَعْنَاهُ جَمَعَ، بَلْ مَعْنَاهُ مَنَعَ. يُقَالُ كَفَّ يكف: مَنَعَ يَمْنَعُ. وَالْمَعْنَى: إِلَّا مَانِعًا لَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ، وَمِنْهُ الْكَفُّ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ مِنْ خُرُوجِ مَا فِيهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، وَالْهَاءُ: لِلْمُبَالَغَةِ، كَالْعَاقِبَةِ، وَالْعَافِيَةِ، وَالْمُرَادُ: أَنَّهَا صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِلَّا رِسَالَةً كَافَّةً. وَقِيلَ: إِنَّهُ حَالَ مِنَ النَّاسِ وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا لِلنَّاسِ كَافَّةً، وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَا يَتَقَدَّمُ الْحَالَ مِنَ الْمَجْرُورِ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْإِعْرَابِ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَدْ جَوَّزَ ذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ، وَابْنُ كَيْسَانَ، وَابْنُ بَرْهَانٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

إِذَا الْمَرْءُ أَعْيَتْهُ السِّيَادَةُ نَاشِئًا | فَمَطْلَبُهَا كَهْلًا عَلَيْهِ عَسِيرُ |
تَسَلَّيْتُ طُرًّا عَنْكُمْ بَعْدَ بَيْنِكُمْ | بِذِكْرَاكُمْ حَتَّى كَأَنَّكُمْ عِنْدِي |
غَافِلًا تَعْرِضُ الْمُنْيَةُ لِلْمَرْ | ءِ فَيُدْعَى وَلَاتَ حِينَ إِبَاءِ |
المراد بالذي بَيْنَ يَدَيْهِ الدَّارُ الْآخِرَةُ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ حَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ فَقَالَ: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ الْخِطَابُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ، وَمَعْنَى مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ: مَحْبُوسُونَ فِي مَوْقِفِ الْحِسَابِ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ أَيْ: يَتَرَاجَعُونَ الْكَلَامَ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِاللَّوْمِ وَالْعِتَابِ بَعْدَ أَنْ كانوا في الدنيا متعاضدين مُتَنَاصِرِينَ مُتَحَابِّينَ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ تِلْكَ الْمُرَاجَعَةَ فَقَالَ: يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا وَهُمُ الْأَتْبَاعُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وَهُمُ الرُّؤَسَاءُ الْمَتْبُوعُونَ لَوْلا أَنْتُمْ صَدَدْتُمُونَا عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَالِاتِّبَاعِ لِرَسُولِهِ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ مُصَدِّقِينَ لِرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا مُجِيبِينَ عَلَيْهِمْ مُسْتَنْكِرِينَ لِمَا قَالُوهُ أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى أَيْ: مَنَعْنَاكُمْ عَنِ الإيمان صفحة رقم 376

بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ الْهُدَى، قَالُوا هَذَا مُنْكِرِينَ لِمَا ادَّعَوْهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الصَّدِّ لَهُمْ، وَجَاحِدِينَ لِمَا نَسَبُوهُ إِلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ بَيَّنُوا أَنَّهُمُ الصَّادُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ، الْمُمْتَنِعُونَ مِنَ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالُوا: بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ أَيْ: مُصِرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ، كَثِيرِي الْإِجْرَامِ، عَظِيمِي الْآثَامِ وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا رَدًّا لِمَا أَجَابُوا بِهِ عَلَيْهِمْ، وَدَفْعًا لِمَا نَسَبُوهُ إِلَيْهِمْ مِنْ صَدِّهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَصْلُ الْمَكْرِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْخَدِيعَةُ وَالْحِيلَةُ، يُقَالُ: مَكَرَ بِهِ إِذَا خَدَعَهُ وَاحْتَالَ عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: بَلْ مَكْرُكُمْ بِنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ، وَأُقِيمَ الظَّرْفُ مَقَامَهُ اتِّسَاعًا. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ هَذَا مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. قَالَ النَّحَّاسُ: الْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ، بَلْ مَكْرُكُمْ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَدُعَاؤُكُمْ لَنَا إِلَى الْكُفْرِ هُوَ الَّذِي حَمَلَنَا عَلَى هَذَا. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: بَلْ عَمَلُكُمْ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ مَاكِرَيْنِ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي. قَالَ الْمَبَرِّدُ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: نَهَارُهُ صَائِمٌ، وَلَيْلُهُ قَائِمٌ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ جَرِيرٍ:
لَقَدْ لُمْتِنَا يَا أُمَّ غَيْلَانَ فِي السُّرَى | وَنِمْتِ وَمَا ليل المطيّ بنائم |
فنام لَيْلِي وَتَجَلِّي هَمِّي وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ بِرَفْعِ «مَكْرٌ» مُنَوَّنًا، وَنَصْبِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَالتَّقْدِيرُ: بَلْ مَكْرٌ كَائِنٌ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو رَزِينٍ بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ مُضَافًا بِمَعْنَى الْكُرُورِ، مِنْ كَرَّ يَكُرُّ إِذَا جَاءَ وَذَهَبَ، وَارْتِفَاعُ مَكْرُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ صَدَّنَا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ صَدَّنَا مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْأَخْفَشِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ رَاشِدٍ كَمَا قَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَلَكِنَّهُ نَصَبَ مَكْرُ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: بَلْ تُكَرِّرْنَ الْإِغْوَاءَ مَكْرًا دَائِمًا لَا تَفْتُرُونَ عَنْهُ، وَانْتِصَابُ إِذْ تَأْمُرُونَنا عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ لِلْمَكْرِ، أَيْ: بَلْ مَكْرُكُمْ بِنَا وَقْتَ أَمْرِكُمْ لَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً أَيْ: أَشْبَاهًا وَأَمْثَالًا. قَالَ الْمُبَرِّدُ يُقَالُ نِدُّ فُلَانٍ فُلَانٌ:
أَيْ مِثْلُهُ وَأَنْشَدَ:
أَتَيْمًا تَجْعَلُونَ إليّ ندّا | وما تيم لذي حَسَبٍ نَدِيدِ |
الْمُرَادُ بِأَسَرُّوا هُنَا أَظْهَرُوا لِأَنَّهُ مِنَ الْأَضْدَادِ يَكُونُ تَارَةً بِمَعْنَى الْإِخْفَاءِ، وَتَارَةً بِمَعْنَى الْإِظْهَارِ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
تَجَاوَزْتُ أَحْرَاسًا وَأَهْوَالَ مَعْشَرٍ | عليّ حراصا لو يسرّون مقتلي |