بالشفاعة لتلك الآلهة المزعومة من الأصنام وغيرها، كما لن تكون الشفاعة إلا لمن رضي الله من المؤمنين، لا الكافرين. وهذا بيان جلي يقطع الأطماع في الشفاعة الموهومة، ويبدد الآمال في النجاة من غير أمر الله ورضوانه.
وقوله: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ دليل على: كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن، تباشروا بذلك، وسأل بعضهم بعضا. والمأذون لهم في الشفاعة: الملائكة وغيرهم، في رأي جمهور المفسرين منهم الزمخشري وأبو حيان.
وقال الشوكاني في فتح القدير: هذا الفزع يكون للملائكة في كل أمر يأمر به الرب،
أخرج البخاري وأبو داود، من حديث أبي هريرة، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، ينفذهم ذلك، فإذا فزع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحقّ، وهو العلي الكبير».
إقرار المشركين بأن الله هو الرازق وإعلامهم بالحاكم ووقت الحكم
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٢٤ الى ٣٠]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠)
الإعراب:
وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً إِيَّاكُمْ ضمير منفصل منصوب معطوف على اسم «إن» ولَعَلى هُدىً إما خبر لقوله: وَإِنَّا وخبر إِيَّاكُمْ محذوف لدلالة الأول عليه، أو أن يكون خبرا للثاني، وخبر الأول محذوف لدلالة الثاني عليه. وهذا كقولهم: زيد وعمرو قائم، إما أن يجعل قائم خبرا للأول، ويقدر للثاني خبر، وإما أن يجعل خبرا للثاني، ويقدر للأول خبر.
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً.. كَافَّةً منصوب على الحال من كاف أَرْسَلْناكَ ولا يجوز جعلها حالا من الناس على المختار. وأصله «كاففة» اجتمع حرفان متحركان من جنس واحد، فسكن الأول وأدغم في الثاني، فصار كَافَّةً وتقديره: وما أرسلناك إلا كافّا للناس. ودخلت التاء للمبالغة، كعلّامة ونسّابة.
لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ.. مبتدأ مرفوع، ولَكُمْ خبره، والهاء في عَنْهُ عائدة على الميعاد.
البلاغة:
قُلْ: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ توبيخ وتبكيت.
قُلِ: اللَّهُ حذف الخبر، لدلالة السياق عليه، أي قل الله الخالق الرازق للعباد.
تَسْتَأْخِرُونَ وتَسْتَقْدِمُونَ بينهما طباق.
وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ صيغة مبالغة على وزن فعّال وفعيل.
المفردات اللغوية:
قُلْ: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يريد به تقرير قول السابق: لا يملكون، والرزق من السموات: المطر، ومن الأرض: النبات. قُلِ: اللَّهُ أي لا جواب سواه، وفيه إشعار بأنهم إن سكتوا أو تلعثموا في الجواب مخافة الإلزام، فهم مقرّون به بقلوبهم. وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ أي أحد الفريقين. لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي إما في حال هدى أو في ضلال
واضح. وهذا بعد ما تقدم من التقرير البليغ الدال على من هو على الهدى، ومن هو في الضلال.
وهذا الإبهام أبلغ من التصريح لأنه في صورة الإنصاف المسكت للخصم، وهو تلطف بهم في الدعوة إلى الإيمان إذا وفقوا له.
أَجْرَمْنا أذنبنا، أو وقعنا في الجرم، وهو الذنب. وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ لأنا بريئون منكم. يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا يوم القيامة. ثُمَّ يَفْتَحُ أي يحكم، والفتاح: الحاكم لأنه يفتح طريق الحق ويظهره، وبعد الحكم يدخل تعالى أهل الحق والإيمان الجنة، وأهل الباطل والكفر النار. وَهُوَ الْفَتَّاحُ الحاكم بالحق. الْعَلِيمُ بما يحكم به وبما يتعلق بحكمه وقضائه من المصالح.
قُلْ: أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ أي أعلموني بالدليل وجه الشركة في استحقاق العبادة، وهو استفسار عن شبهتهم بعد إلزام الحجة عليهم، زيادة في تبكيتهم. كَلَّا كلمة للزجر عن كلام أو فعل صدر من المخاطب، والمراد هنا: ردع لهم عن اعتقاد شريك لله تعالى.
بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الموصوف بالغلبة وكمال القدرة، والحكمة الباهرة في تدبيره لخلقه، فلا يكون له شريك في ملكه.
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ أي وما أرسلناك إلا للناس جميعا عربهم وعجمهم، وكَافَّةً مانعا لهم، من الكف وهو المنع عن الكفر ودعوتهم إلى الإسلام، أو جامعا لهم بالإنذار والإبلاغ، من الكف بمعنى الجمع، والتاء للمبالغة، والمعنى على الأول: إلا إرسالة عامة لهم محيطة بهم لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد، وعلى الثاني: إلا جامعا للناس في الإبلاغ والإنذار، وهو حال من الكاف، ولا يجوز جعله حالا من لِلنَّاسِ لأن تقدم حال المجرور عليه ممنوع كتقدم المجرور على الجار. بَشِيراً وَنَذِيراً مبشرا للمؤمنين بالجنة، ومنذرا للكافرين بالعذاب. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ذلك، فيحملهم جهلهم على مخالفتك، فهم لا يعلمون ما عند الله وما لهم من النفع في إرسال الرسل.
وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي ويقول المشركون من فرط جهلهم: متى يكون هذا الوعد بالعذاب الذي تعدوننا به يا محمد وصحبه، وهو قيام الساعة، أخبرونا به إن كنتم صادقين فيه. والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين. مِيعادُ يَوْمٍ وعد يوم أو زمان وعد، وهو يوم البعث أو القيامة. لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ أي هذا الميعاد المضروب لكم لا تتأخرون عنه ولا تتقدمون عليه، بل يكون لا محالة في الوقت الذي قدّر الله وقوعه فيه. وهو جواب تهديد جاء مطابقا لما قصدوه بسؤالهم من التعنت والإنكار.
المناسبة:
بعد بيان أن الأصنام ونحوها من الآلهة المزعومة لا يملكون شيئا في الكون، أبان الله تعالى أن المشركين يعترفون بأن الرازق من السماء والأرض بما ينزل من المطر وينبت من الزرع ويوجد من المعادن هو الله، فيلزمهم أن يعتقدوا بأنه لا إله غيره، وأن المحق واحد من الفريقين وغيره مبطل، والمحق هم المؤمنون لقيام الدليل على التوحيد، وأن يعلموا أن الله هو الحاكم بالحق يوم القيامة، وأنه هو الخالق الرازق، أما الشركاء فلا يخلقون ولا يرزقون.
التفسير والبيان:
قُلْ: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، قُلِ: اللَّهُ أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين عبدة الأوثان والأصنام على سبيل التوبيخ والتبكيت: من الرازق لكم من السموات بإنزال المطر، ومن الأرض بالنبات والمعادن ونحوها؟
قل لهم: هو الله الذي يرزقكم، إن لم يجيبوا، بل لا جواب لهم سواه، وقد أجابوا فعلا في آيات أخرى بأنه هو الله، قال تعالى: قُلْ: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ، وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ؟ فَسَيَقُولُونَ: اللَّهُ، فَقُلْ: أَفَلا تَتَّقُونَ [يونس ١٠/ ٣١].
وإذا اعترفتم بأن الله هو الرازق، فلم تعبدون سواه ممن لا يقدر على الرزق؟ كما قال تعالى تبكيتا وتعنيفا لهم: قُلْ: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟ قُلِ: اللَّهُ، قُلْ: أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ، لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا
[الرعد ١٣/ ١٦].
ثم دعاهم الله تعالى إلى الإيمان بالله بطريق التلطف، بعد هذا الإلزام القائم مقام الاعتراف والإقرار، فقال:
وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: إن أحد الفريقين منا، سواء معشر المؤمنين الموحدين الله الخالق الرازق، الذين يخصونه بالعبادة، أو المشركين الذين يعبدون الجمادات العاجزة عن الخلق والرزق والنفع والضرر، لعلى أحد الأمرين من الهدى أو في الضلال البيّن الوضح، فلا سبيل إلى تصويب كل منا، فإما أن نكون نحن أو أنتم على الهدى أو على الضلال، بل واحد منا مصيب، والآخر مخطئ مبطل. وهذا أسلوب فيه لطف وأدب، لاستدراج الخصم إلى أن ينظر في حاله وحال غيره، ويستعمله العرب لإعطاء الحرية للمخاطب بأن يتأمل ويعلن عن قناعة أنه مخطئ وغيره مصيب، كما يقول الرجل لصاحبه: قد علم الله الصادق مني ومنك، وإن أحدنا لكاذب.
ويلاحظ أنه ذكر كلمة «على» مع الهدى، وكلمة «في» مع الضلال لأن المهتدي كأنه مرتفع متطلع، والضال منغمس في الظلمة غريق فيها. ووصف الضلال بالمبين، ولم يصف الهدى لأن الهدى هو الطريق المستقيم الموصل إلى الحق، والمستقيم واحد، وغيره كله ضلال، بعضه أبين من بعض. وقدم الهدى على الضلال لمناسبته لوصف المؤمنين المبدوء بكلمة إِنَّا المقدم في الذكر.
ثم أعلن الله تعالى وجود الانفصال بين الفريقين واستقلال كل منهما عن الآخر بطريق التلطف مرة أخرى بنسبة الاجرام فرضا إلى المؤمنين والعمل للمشركين فقال: قُلْ: لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا، وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ أي قل أيها الرسول أيضا للمشركين: إن كانت عبادتنا لله وطاعتنا له جريمة، فلستم مسئولين عنا، ولا نسأل عما تعملون من خير أو شر. وهذا معناه التبري منهم، فلستم منا ولا نحن منكم، بل ندعوكم إلى توحيد الله وإفراد العبادة له، فإن أجبتم فأنتم منا، ونحن منكم، وإن أعرضتم وكذبتم فنحن برآء منكم، وأنتم برآء منا، كما قال الله تعالى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ: لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس ١٠/ ٤١]. وقد أضاف الاجرام إلى النفس:
أَجْرَمْنا وقال في حقهم عَمَّا تَعْمَلُونَ لئلا يحصل الإغضاب المانع من الفهم.
ثم أنذرهم الله تعالى بالقضاء والحكم الذي سيقضي به، تأكيدا للنظر والتفكر، في مجال الحساب والثواب والعذاب، فقال:
قُلْ: يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ، وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ أي قل لهم أيها الرسول أيضا. إن ربنا سيجمع بيننا في ساحة واحدة يوم الحساب، ويوم القيامة، ثم يحكم ويقضي بيننا بالحق والعدل، والله هو الحاكم العادل القاضي بالصواب، العالم بحقائق الأحوال والأمور، وبما يتعلق بحكمه من المصالح، فيجزي كل عامل بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وستعلمون يومئذ لمن العزة والنصرة والسعادة الأبدية، كما قال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ، فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ [الروم ٣٠/ ١٤- ١٦].
ثم تحداهم تعالى بالكشف عن الشركاء وقدراتهم، فقال:
قُلْ: أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ، كَلَّا، بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي قل أيها النبي لهؤلاء المشركين قولا فصلا: أروني هذه الآلهة التي جعلتموها لله أندادا، وصيرتموها شركاء ونظراء معادلين لله، حتى أراهم، وأرى ما يقدرون عليه. الحق واضح، والأمر ليس كما تزعمون، كلا أي فارتدعوا عن ادعاء المشاركة، فلا نظير ولا شريك ولا عديل لله، بل هو الله الواحد الأحد، المتفرد بالألوهية، الذي لا شريك له، ذو العزة التي قد قهر بها كل شيء، وغلب كل شيء، الحكيم في أفعاله وأقواله وشرعه وقدره، حكمة باهرة لا يعلوها شيء. وهذا التساؤل يراد به بيان فائدة الشركاء في دفع الضرر، بعد إبطال فائدتها بآية
قُلْ: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لجلب المنفعة، تمشيا مع أهداف العامة الذين لا يعبدون المعبود إلا لدفع الضرر أو لجلب المنفعة، أما الخواص فيعبدون الله لأنه يستحق العبادة لذاته.
وبعد إثبات التوحيد، أبان الله تعالى عموم الرسالة المحمدية للناس جميعا، فليست ذات نزعة عنصرية، ولا حكرا على العرب وحدهم، فقال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أي وما أرسلناك أيها النبي لقومك العرب خاصة، بل أرسلناك للناس قاطبة، عربهم وعجمهم، أبيضهم وأسودهم وأحمرهم، مبشرا من أطاع الله بالجنة، ومنذرا من عصاه بالنار، كما قال تعالى: قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف ٧/ ١٥٨] وقال سبحانه: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان ٢٥/ ١].
وفي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه مرفوعا: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي.. وذكر منها: وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة».
وفي الصحيح أيضا: «بعثت إلى الأسود والأحمر».
إلا أن أكثر الناس لا يعلمون بعموم الرسالة، ولا بمهمة التبشير والإنذار، ولا بخطورة ما هم عليه من الضلال والجهالة، ولا بالنفع في إرسال الرسل، ولا ما عند الله من الجزاء، كما قال تعالى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف ١٢/ ١٠٣] وقال سبحانه: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام ٦/ ١١٦].
وبعد بيان التوحيد ثم الرسالة، ذكر الحشر، فأخبر تعالى عن استبعاد الكفار قيام الساعة وأجاب عنه، فقال:
وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي ويقول المشركون
استهزاء وتعنتا وجهلا: متى يكون هذا الوعد الذي تعدوننا به يا محمد والمؤمنون، وهو قيام الساعة، أخبرونا به إن كنتم صادقين في قولكم. وهذا كقوله تعالى:
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها، وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ [الشورى ٤٢/ ١٨].
والجواب هو:
قُلْ: لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ، لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ أي قل لهم أيها الرسول: لكم موعد يوم مؤجل محدد لا شك فيه، هو يوم البعث والقيامة، لا تتأخرون عنه ساعة ولا تتقدمون عليه، لا يزاد ولا ينقص، بل يكون لا محالة في الوقت الذي قدّر الله وقوعه فيه. وفي هذا إنذار كاف.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- الله سبحانه وتعالى في الواقع الذي لا يقبل سواه، وفي اعتراف المشركين أنفسهم هو خالق الأرزاق الكائنة من السموات، عن المطر والشمس والقمر والنجوم وما فيها من المنافع، والخارجة من الأرض عن الماء والنبات، وبما أن الله هو الخالق الرازق فهو الذي ينبغي أن يعبد. ومن المعلوم أن العامة يعبدون الله، لا لكونه إلها، وإنما يطلبون به شيئا: إما دفع ضرر، أو جر نفع.
٢- الحق واحد لا يتعدد، فلا يعقل أن يكون كل المؤمنين والمشركين في حال واحدة من الهدى أو الضلال، بل هما متعارضان متضادان، وأحد الفريقين مهتد، وهم المؤمنون، والآخر ضال وهم المشركون.
وقد كذبهم القرآن بأسلوب يعد أحسن من تصريح الكذب، وهو أن المشركين هم الضالون حين أشركوا بالذي يرزقهم من السموات والأرض. فقوله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ كما تقول: أنا أفعل كذا،
وتفعل أنت كذا، وأحدنا مخطئ، وقد عرف من هو المخطئ. أما لو قال أحد المتناظرين للآخر: هذا الذي تقوله خطأ، وأنت فيه مخطئ، فإنه يغضب، وإذا غضب اختل الفكر وساء الفهم.
٢- أقام الله تعالى مهادنة ومتاركة بين المؤمنين والمشركين، فأعلن رسوله لهم: إنما أقصد بما أدعوكم إليه الخير لكم، لا أن ينالني ضرر كفركم، ولا يسأل أحد الفريقين عن الآخر، فلا يسأل المشركون عما اكتسب المؤمنون، ولا يسأل المؤمنون أيضا عما اقترف المشركون، كما قال تعالى: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون ١٠٩/ ٦].
٣- يجمع الله تعالى يوم القيامة أهل الإيمان وأهل الشرك، ثم يقضي بينهم بالحق والعدل، فيثيب المهتدي، ويعاقب الضال، والله هو القاضي بالحق، العليم بأحوال الخلق.
٤- يسأل المشركون: عرّفوني الأصنام والأوثان التي جعلتموها شركاء لله عز وجل، وهل شاركت في خلق شيء؟ بينوا ما هو؟ وإلا فلم تعبدونها؟! الحق أنه ليس الأمر كما زعم المشركون، فليس لله شركاء، بل هو الله ذو العزة القاهر الغالب، الحكيم في أقواله وأفعاله، يفعل ما هو مصلحة.
٥- رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم رسالة عامة للبشرية جمعاء، وليست مقصورة على العرب خاصة، ومهمة النبي تبشير من أطاع الله بالجنة، وإنذار من عصاه بالنار، ولكن أكثر الناس وهم في ذلك الوقت المشركون لا يعلمون ما عند الله تعالى.
٦- يتساءل المشركون استهزاء وعنادا وتعجيزا، فيقولون للمؤمنين: متى موعدكم لنا بقيام الساعة إن كنتم صادقين في إخباركم عنها؟