الكاف، وقرأ الباقون بضم الهمزة وضم الكاف، وروي أيضا عن أبي عمرو سكون الكاف وهما بمعنى الجنى والثمر، ومنه قوله تعالى تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ [إبراهيم: ٢٥] أي جناها، وقرأ جمهور القراء بتنوين «أكل» وصفته بخمط وما بعده، قال أبو علي: البدل هذا لا يحسن لأن الخمط ليس بالأكل والأكل ليس بالخمط نفسه والصفة أيضا كذلك، لأن الخمط اسم لا صفة وأحسن ما فيه عطف البيان، كأنه بين أن الأكل هذه الشجرة ومنها ويحسن قراءة الجمهور أن هذا الاسم قد جاء بمجيء الصفات في قول الهذلي:
[الطويل]
عقار كماء الني ليس بخمطة
ولا خلة يكوي الشروب شبابها
وقرأ أبو عمرو بإضافة «أكل» إلى «خمط» وبضم كاف «أكل خمط»، ورجح أبو علي قراءة الإضافة، وقوله ذلِكَ إشارة إلى ما أجراه عليهم، وقوله وَهَلْ نُجازِي أي يناقش ويقارض بمثل فعل قدرا بقدر لأن جزاء المؤمنين إنما هو بتفضيل وتضعيف، وأما الذي لا يزاد ولا ينقص فهو الْكَفُورَ قاله الحسن بن أبي الحسن، وقال طاوس هي المناقشة، وكذلك إن كان المؤمن ذا ذنوب فقد يغفر له ولا يجازى، والكافر يجازي ولا بد، وقد قال عليه السلام «من نوقش الحساب عذب»، وقرأ جمهور القراء «يجازى» بالياء وفتح الزاي، وقرأ حمزة والكسائي «نجازي» بالنون وكسر الزاي، «الكفور» بالنصب، وقرأ مسلم بن جندب «وهل يجزي» وحكى عنه أبو عمرو الداني أنه قرأ «وهل يجزي» بضم الياء وكسر الزاي، قال الزجاج يقال جزيت في الخير وجازيت في الشر.
قال الفقيه الإمام القاضي: فترجح هذه قراءة الجمهور.
قوله عز وجل:
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١٨ الى ١٩]
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩)
هذه الآية وما بعدها وصف حالهم قبل مجيء السيل، وهي أن الله تعالى مع ما كان منحهم من الجنتين والنعمة الخاصة بهم، كان قد أصلح لهم البلاد المتصلة بهم وعمرها وجعلهم أربابها، وقدر فيها السير بأن قرب القرى بعضها من بعض حتى كان المسافر من مأرب إلى الشام يبيت في قرية ويقيل في قرية أخرى، فلا يحتاج إلى حمل زاد والْقُرَى المدن، ويقال للمجتمع الصغير قرية أيضا، وكلها من قريت أي جمعت، والقرى التي بورك فيها هي بلاد الشام بإجماع من المفسرين، و «القرى الظاهرة» هي التي بين الشام ومأرب وهي الصغار التي هي البوادي «قال ابن عباس: هي قرى عربية بين المدينة والشام وقاله الضحاك» واختلف في معنى ظاهِرَةً فقالت فرقة: معناه مستعلية مرتفعة في الآكام والظراب وهي أشرف القرى.
صفحة رقم 415
وقالت فرقة: معناه يظهر بعضها من بعض فهي أبدا في قبضة المسافر لا يخلو من رؤية شيء منها فهي ظاهرة بهذا الوجه.
قال الفقيه الإمام القاضي: والذي يظهر إليّ أن معنى ظاهِرَةً خارجة عن المدن، فهي عبارة عن القرى الصغار التي هي في ظواهر المدن، فإنما فصل بهذه الصفة بين القرى الصغار وبين القرى المطلقة التي هي المدن، وظواهر المدن ما خرج عنها في الفيافي والفحوص، ومنه قولهم نزلنا بظاهر فلانة، أي خارجا عنها، وقوله ظاهِرَةً نظير تسمية الناس إياها البادية والضاحية، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
فلو شهدتني من قريش عصابة
قريش البطاح لا قريش الظواهر
يعني الخارجين عن بطحاء مكة، وفي حديث الاستسقاء وجاء أهل الضواحي يشكون الغرق، وقوله تعالى: وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ هو ما ذكرناه من أن المسافر فيها كان يبيت في قرية ويقيل في أخرى على أي طريق سلك لا يعوزه ذلك، وقوله تعالى: سِيرُوا معناه قلنا لهم، وآمِنِينَ معناه من الخوف من الناس المفسدين، وآمِنِينَ من الجوع والعطش وآفات المسافر، ثم حكى عنهم مقالة قالوها على جهة البطر والأشر وهي طلب البعد بين الأسفار والإخبار بأنها بعيدة على القراءات الأخر وذلك أن نافعا وعاصما وحمزة والكسائي قرؤوا «باعد بين أسفارنا» بكسر العين على معني الطلب، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والحسن ومجاهد «بعّد بين أسفارنا» بشد العين وكسرها على معنى الطلب أيضا، فهاتان قراءتان معناهما الأشر بأنهم ملوا النعمة بالقرب وطلبوا استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، وفي كتاب الرماني أنهم قالوا لو كان جني ثمارنا أبعد لكان أشهى وأكثر قيمة، وقرأ ابن السميفع وسفيان بن حسين وسعيد بن أبي الحسن أخو الحسن وابن الحنفية «ربّنا» بالنصب «بعد بين أسفارنا» بفتح الباء وضم العين ونصب «بين» أيضا، وقرأ سعيد بن أبي الحسن من هذه الفرقة «بين» بالرفع وإضافته إلى الأسفار وقرأ ابن عباس وأبو رجاء والحسن البصري وابن الحنفية أيضا «ربّنا» بالرفع «باعد» بفتح العين والدال، وقرأ ابن عباس وابن الحنفية أيضا وعمرو بن فائد ويحيى بن يعمر «ربّنا» بالرفع «بعّد» بفتح العين وشدها وفتح الدال فهذه القراءة معناها الأشر بأنهم استبعدوا القريب ورأوا أن ذلك غير مقنع لهم حتى كأنهم أرادوها متصلة بالدور وفي هذا تعسف وتسحب على أقدار الله تعالى وإرادته وقلة شكر على نعمته بل هي مقابلة النعمة بالتشكي والاستضرار، وفي هذا المعنى ونحوه مما اقترن بكفرهم ظلموا أنفسهم فغرقهم الله تعالى وخرب بلادهم وجعلهم أحاديث، ومنه المثل السائر «تفرقوا أيادي سبإ وأيدي سبإ» ويقال المثل بالوجهين، وهذا هو تمزيقهم كُلَّ مُمَزَّقٍ، وروي أن رسول الله قال: إن سبأ أبو عشرة قبائل فلما جاء السيل على مأرب وهو اسم نبدهم تيامن منها ستة قبائل أي إذ تبددت في بلاد اليمن وتشاءمت منها أربعة فالمتيامنة كندة والأزد وأشعر ومذحج وأنمار الذي منها بجيلة وخثعم وطائفة قيل لها حمير بقي عليها اسم الأب الأول والتي تشاءمت لخم وجذام وغسان وخزاعة نزلت تهامة ومن هذه المتشائمة أولاد قتيلة وهم الأوس والخزرج ومنها عاملة وغير ذلك، ثم أخبر تعالى محمدا ﷺ وأمته على جهة التنبيه بأن هذه القصص فيها آيات وعبر لكل مؤمن على الكمال، ومن اتصف بالصبر والشكر فهو المؤمن الذي لا تنقصه خلة جميلة بوجه.
صفحة رقم 416