مكانة النبي صلّى الله عليه وسلّم ومهمته وتشريع الميراث بقرابة الرحم
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٦ الى ٨]
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨)
الإعراب:
وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ مبتدأ وخبر، أي إنهن بمنزلة الأم في التحريم، فلا يجوز لأحد أن يتزوج بهن، احتراما للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا.. أن وصلتها: في موضع نصب على الاستثناء المنقطع.
البلاغة:
وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ تشبيه بليغ، حذف منه وجه الشبه وأداة التشبيه، أي وأزواجه مثل أمهاتهم في الحرمة والتعظيم.
أَوْلى بِبَعْضٍ مجاز بالحذف، أو أولى بميراث بعض.
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ عطف الخاص على العام للتشريف والتنويه بشأنهم، بالرغم من دخول محمد ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام في جملة النبيين.
مِيثاقاً غَلِيظاً استعارة، استعار الغلظ في الأجسام الحسية للشيء المعنوي، وهو بيان حرمة الميثاق وخطورته وعظمه، للوفاء به.
لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ التفات من التكلم للغيبة لتبكيت المشركين وتقبيح فعلهم.
المفردات اللغوية:
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ في الأمور كلها في الدين والدنيا، فإنه لا يأمرهم ولا يرضى منهم إلا بما فيه صلاحهم ونجاحهم، فهو أرأف بهم وأعطف عليهم فيما دعاهم إليه مما دعتهم أنفسهم إليه إذ هو يدعو إلى النجاة وأنفسهم تدعوهم إلى الهلاك. وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ أي منزّلات منزلة الأمهات في حرمة زواجهن واستحقاق التعظيم، وفيما عدا ذلك فكالأجنبيات، ولذلك قالت عائشة: لسنا أمهات النساء. وَأُولُوا الْأَرْحامِ ذوو القرابات. بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ في التوارث من الإرث بالحلف والمؤاخاة، وهو نسخ لما كان في صدر الإسلام من التوارث بالهجرة والموالاة في الدين. فِي كِتابِ اللَّهِ فيما فرض الله تعالى وشرع أو في اللوح المحفوظ. مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ بيان لأولي الأرحام، أو صلة لأولي، أي أولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الدين، والمهاجرين بحق الهجرة، وبعبارة أخرى: الإرث بقرابة الرحم مقدم على الإرث بالإيمان والهجرة الذي كان أول الإسلام، فنسخ. كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً أي كان المذكور في الآيتين ثابتا في اللوح المحفوظ، أو في القرآن.
وَإِذْ أَخَذْنا أي واذكر. مِيثاقَهُمْ أي عهودهم بتبليغ الرسالة والدعوة إلى الدين القويم، والميثاق: العهد المؤكد. وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أي بأن يعبدوا الله، ويدعوا إلى عبادته، وذكر هؤلاء الأنبياء الخمسة من عطف الخاص على العام لأنهم مشاهير أصحاب الشرائع وأولو العزم من الرسل. وقدم نبينا تعظيما له. وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ميثاقا شديدا عظيم الشأن بالوفاء بواجب التبليغ لما أنزل إليهم من ربهم. وقيل: ميثاقا مؤكدا باليمين.
لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ أي فعلنا ذلك ليسأل الله يوم القيامة أولئك الأنبياء الصادقين الذين صدقوا عهدهم عن صدقهم في تبليغ الرسالة وعما قالوه لقومهم، تبكيتا للكافرين برسالاتهم. وَأَعَدَّ تعالى، معطوف على أَخَذْنا والمعنى: أن الله أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه، لأجل إثابة المؤمنين، وتبكيت الكافرين، وأعد للكافرين بهم عذابا مؤلما.
المناسبة:
بعد أن أبطل الله تعالى حكم التبني الخاص وأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم ليس أبا لزيد بن حارثة، أبان تعالى أن أبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم عامة لكل الأمة، وأزواجه بالنسبة للرجال في حكم حرمة الأمهات، وهي أشرف من أبوة النسب لأنها إنقاذ أبدي من
الهلاك، قال مجاهد: كل نبي أبو أمته. ثم أردف ذلك بعلو منزلته وسمو مهمته وهو تبليغ دعوة الله، وفاء بالميثاق (العهد المؤكد) الذي أخذه الله عليه وعلى سائر الأنبياء من قبله.
التفسير والبيان:
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي إن النبي محمدا صلّى الله عليه وسلّم أرأف بجماعة المؤمنين من أمته وأعطف عليهم من أنفسهم إذ هو يدعوهم إلى النجاة، وأنفسهم تدعوهم إلى الهلاك، كما
قال صلّى الله عليه وسلّم: «أنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تقتحمون فيها تقّحم الفراش» «١»
ولأنه ينزّل لهم منزلة الأب، فالنفس قد تأمر بالسوء، وأما محمد صلّى الله عليه وسلّم فهو لا يأمر إلا بالخير ولا ينطق إلا بالوحي.
فإذا كان زيد يعتز بدعوته لمحمد صلّى الله عليه وسلّم لأنها تكسبه جاها كبيرا في الدنيا والآخرة، فإن المؤمنين أصبحوا جميعا يعتزون بأبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم العامة لهم، وقد نزلت الآية تسلية لزيد، وبيانا للانتقال من الأبوة الخاصة لزيد إلى الأبوة العامة، والرأفة الشاملة التي تعم المسلمين جميعا، لا فرق فيها بين الابن الصلبي وغيره فهو يرعاهم حق الرعاية ويهديهم الطريق المستقيم.
وجعلت الولاية مطلقة لتشمل جميع الأمور الدينية والدنيوية.
وما دام محمد صلّى الله عليه وسلّم أولى من النفس، فهو أولى من جميع الناس بطريق الأولى، وحكمه مقدّم على اختيارهم لأنفسهم، ومحبته مقدمة أيضا على حب النفس التي بين الجنبين، كما قال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء ٤/ ٦٥].
نص الحديث في صحيح مسلم عن أبي هريرة: «إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارا، فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه، وأنا أخذ بحجزكم وأنتم تقحّمون فيه».
قال العلماء:
الحجزة للسراويل، والمعقد للإزار.
وثبت في صحيح البخاري وغيره: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين»
وروى البخاري في صحيحة أيضا عن أبي هريرة قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إن شئتم: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فأيّما مؤمن ترك مالا، فلترثه عصبته من كانوا، ومن ترك دينا أو ضياعا- عيالا- فليأتني، فأنا مولاه».
وفي الصحيح أيضا أن عمر رضي الله عنه قال: «يا رسول الله، والله لأنت أحبّ إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال صلّى الله عليه وسلّم: لا، يا عمر، حتى أكون أحبّ إليك من نفسك، فقال: يا رسول الله، والله لأنت أحب إلي من كل شيء حتى من نفسي، فقال صلّى الله عليه وسلّم: الآن يا عمر».
ومبعث هذا ما علم الله تعالى من توافر شفقة النبي صلّى الله عليه وسلّم على أمته، ونصحه لهم، فجعله أولى بهم من أنفسهم.
وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ أي إن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم منزلات منزلة الأمهات في الحرمة والاحترام، أي في تحريم زواجهن بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم، واستحقاق التكريم والتعظيم والتوقير، وأما في غير ذلك فهن أجنبيات، فلا يقال لبناتهم أخوات المؤمنين، ولا يحرمن على المؤمنين، ولا يحل النظر إليهن ولا الخلوة بهن، ولا ارثهن ونحو ذلك.
وهذا بالنسبة للرجال، فهم كأمهاتهم، وأما النساء فلا يقال لهن عند البعض: أمهات المؤمنات، لذا قالت عائشة رضي الله عنها لمن قالت لها:
يا أمه: أنا أم رجالكم، لا أم نسائكم. وسيأتي بيان الخلاف.
ويثبت هذا الوصف لجميع أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، حتى المطلّقة، لكن صحح إمام الحرمين وغيره قصر التحريم على المدخول بها فقط. واختار الرازي والغزالي
القطع بحل المرأة التي اختارت الدنيا من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد نزول آية التخيير الآتية.
ثم بيّن الله تعالى بقوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ حكم الميراث، وبقوله:
إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ حكم الوصية، ليبين الفرق بين ولاية النبي صلّى الله عليه وسلّم للمؤمنين، وولاية المؤمنين لأقاربهم، فالنبي صلّى الله عليه وسلّم لا يورث، فلا توارث بينه وبين أقاربه، لولايته العامة، والمؤمنون يرث بعضهم من بعض إذا كانوا ذوي قرابة، وهم أولى ببعضهم في النفع بميراث وغيره، إلا في حال بر صديق أو محتاج بالوصية، فيصير أولى من قريبه، فتقطع الوصية الإرث، فقال:
وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ أي وذوو القرابات مطلقا، سواء أكانوا أصحاب فروض أم عصبات أم ذوي أرحام أولى بمنافع بعضهم بالتوارث وغيره من بقية المؤمنين المهاجرين والأنصار، أي بحق الدين وهو الإيمان، أو بحق الهجرة، وذلك في فرض الله وشرعه وما كتبه على عباده، أو في القرآن، أو في اللوح المحفوظ.
وقوله: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ كما ذكر الزمخشري إما بيان راجع لأولي الأرحام (أي الأقرباء) والمعنى: وأولو القرابة من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى بنفع بعض أو بميراثه من الأجانب. وإما لابتداء الغاية، والمعنى:
وأولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الولاية في الدّين، ومن المهاجرين بحق الهجرة «١». وعلى هذا المعنى الثاني وهو المشهور تكون الآية إبطالا لما كان في بدء الإسلام من التوارث بالحلف والمؤاخاة بين المسلمين، فكان المهاجري يرث الأنصاري، دون قراباته وذوي رحمه، بسبب الأخوّة التي
آخى بينهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقد آخى بين أبي بكر رضي الله عنه وخارجة بن زيد، وآخى
بين عمر وشخص آخر، وآخى بين عثمان ورجل من بني زريق، وآخى بين الزبير وكعب بن مالك «١».
ويؤكد هذا المعنى
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الشيخان عن ابن عباس: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية»
والمراد: بطل حكم الهجرة وزالت الأحكام المترتبة عليها كالتوارث بها.
إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً أي ذهب الميراث بالتآخي، وبقي حكم الوصية والنصر والبر والصلة والإحسان، أي إلا أن توصوا إلى أصدقائكم الذين توالونهم وتودونهم من المؤمنين والمهاجرين وصية، والمعروف هنا:
الوصية، ومن المعلوم أن الدّين والوصية مقدّمان شرعا على الميراث، كما قال تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ [النساء ٤/ ١١].
ومعنى الآية: إن أوصيتم فغير الوارثين أولى، وإن لم توصوا فالوارثون أولى بميراثكم وبما تركتم.
كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً أي إن هذا الحكم (وهو أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض) حكم من الله مقدر مكتوب في الكتاب الأول الذي لا يبدّل ولا يغير، وإن كان تعالى قد شرع خلافه في وقت ما، لمصلحة مؤقتة، وحكمة بالغة، وهو يعلم أنه سيغيره إلى ما هو جار في قدره الأزلي، وقضائه القدري التشريعي.
وبعد بيان مكانة النبي صلّى الله عليه وسلّم بين المؤمنين، أبان الله تعالى سمو مهمته وعلو منزلته في تبليغ الشرائع، والدعوة إلى دين الله ورسالة ربه، ووفائه بتلك المهمة، عملا بمقتضى ميثاق النبيين في أنهم يبلغون رسالات الله، وكأنه تعالى من بداية السورة إلى هنا قال لنبيه تعليما للأمة، اتق الله، ولا تخف أحدا، واذكر
أن الله أخذ ميثاق النبيين في أنهم يبلغون شرائع الله، ولا يمنعهم من ذلك خوف ولا طمع، فقال:
وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً أي واذكر أيها الرسول أننا أخذنا العهد المؤكد على جميع الأنبياء ولا سيما أولو العزم منهم وهم الخمسة المذكورون في الآية في أنهم يبلغون رسالة الله إلى أقوامهم، ويقيمون دين الله تعالى، ويتناصرون ويتعاونون فيما بينهم بإكمال بعضهم رسالة من تقدمه، كما قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ، ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ، مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ، قالَ: أَأَقْرَرْتُمْ، وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي؟ قالُوا: أَقْرَرْنا، قالَ: فَاشْهَدُوا، وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران ٣/ ٨١] أي أخذ عليهم أن يعلنوا أن محمدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويعلن محمد صلّى الله عليه وسلّم أن لا نبي بعده.
ثم أكد الله تعالى ذلك الميثاق بعينه، فوصفه بالشدة والغلظ مبالغة في حرمته وعظمته وثقل تبعته (مسئوليته) والمعنى: وأخذنا منهم بذلك الميثاق ميثاقا غليظا، فالميثاق الثاني هو الأول مؤكدا باليمين، أو مكررا لبيان صفته، من طريق استعارة الغلظ من صفة الأجسام المادية إلى الأشياء المعنوية، مبالغة في بيان حرمته وعظمه وخطورته، كما بينت.
وقد خص الله تعالى بالذكر خمسة رسل هم أولو العزم، تنويها بشأنهم، وتبيان أهمية رسالاتهم، من باب عطف الخاص على العام، كما في آية أخرى:
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ، وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى ٤٢/ ١٣].
ثم ذكر الله تعالى أنه سائل الأنبياء عن التبليغ والمؤمنين عن الإجابة والمكذبين عن التكذيب، فقال:
لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ، وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً اللام في لِيَسْئَلَ قيل: إنها لام الصيرورة، أي أخذ الميثاق على الأنبياء، ليصير الأمر إلى السؤال عما فعلوا، كما قال تعالى: وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف ٧/ ٦].
قال الرازي: يعني أرسل الرسل، وعاقبة المكلفين إما حساب وإما عذاب لأن الصادق محاسب، والكافر معذب «١». والظاهر- كما قال أبو حيان- أنها لام التعليل، لام كي، أي بعثنا الرسل، وأخذنا عليهم المواثيق في التبليغ، لكي يجعل الله خلقه فرقتين: فرقة يسألها عن صدقها، على معنى إقامة الحجة، فتجيب بأنها قد صدقت الله في إيمانها وجميع أفعالها، فيثيبها على ذلك وفرقة كفرت، فينالها ما أعد لها من العذاب، فالصادقون المسؤولون على هذا المعنى: هم المؤمنون، والهاء في صِدْقِهِمْ عائدة عليهم، ويجوز أن يراد: وليسأل الأنبياء، أو ليسأل عن الوفاء بالميثاق الذي أخذه عليهم أو ليسأل الأنبياء عن تبليغهم الرسالة إلى قومهم، وفي هذا تنبيه: أي إذا كان الأنبياء يسألون فكيف بمن سواهم؟ «٢» أو ليسأل المبلّغين الذين بلغتهم الرسل. وعلى هذا، يكون المعنى:
وأخذنا من الأنبياء ميثاقهم في تبليغ الدعوة إلى دين الله، لكي نسأل المرسلين عن قيامهم بواجب التبليغ، ومعرفة ما أجابتهم به أممهم، ولأجل إثابة المؤمنين على إيمانهم وصدقهم، وعقاب الكافرين من أممهم المكذبين رسلهم الذين أعد الله لهم عذابا شديدا مؤلما موجعا هو عذاب جهنم. فقوله تعالى: وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ معطوف على قوله: أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
(٢) البحر المحيط: ٧/ ٢١٣
١- النبي صلّى الله عليه وسلّم أرأف وأعطف وأشفق على المؤمنين من أنفسهم لأن أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك، وهو يدعوهم إلى النجاة.
٢- آية النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أزال الله تعالى بها أحكاما كانت في صدر الإسلام منها:
أنه صلّى الله عليه وسلّم كان لا يصلّي على ميّت عليه دين
، فلما فتح الله عليه الفتوح
قال كما جاء في الصحيحين: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفّي وعليه دين فعليّ قضاؤه، ومن ترك مالا فلورثته».
وفي الصحيحين أيضا «فأيكم ترك دينا أو ضياعا فأنا مولاه»
والضياع: مصدر ضاع، ثم جعل اسما لكل ما يتعرض للضياع من عيال وبنين لا كافل لهم، ومال لا قيّم له. وسميت الأرض ضيعة لأنها معرضة للضياع، وتجمع ضياعا.
قال بعض العلماء: يجب على الإمام أن يقضي من بيت المال دين الفقراء اقتداء بالنبي صلّى الله عليه وسلّم فإنه قد صرح بوجوب ذلك عليه، حيث
قال: «فعلي قضاؤه».
٣- جعلت أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم أمهات المؤمنين في وجوب التعظيم والبرّ والإجلال، وحرمة النكاح على الرجال، وتحريم النظر إليهن، وحجبهن عن الرجال، بخلاف الأمهات. وهذه الأمومة لا توجب ميراثا كأمومة التبني، وجاز تزويج بناتهن، ولا يجعلن أخوات للناس، ولا أخوالهن أخوال المؤمنين وخالاتهم، فقد تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر الصديق، وهي أخت عائشة، ولم يقل: هي خالة المؤمنين. ولا يقال لمعاوية وأمثاله خال المؤمنين.
وهن في قول أمهات الرجال خاصة، لا أمهات الرجال والنساء، عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة قالت لها: يا أمّه فقالت لها: لست لك بأمّ، إنما أنا أمّ رجالكم. قال ابن العربي: وهو الصحيح «١».
وقال القرطبي: لا فائدة في اختصاص الحصر في الإباحة للرجال دون النساء، والذي يظهر لي أنهن أمهات الرجال والنساء تعظيما لحقّهن على الرجال والنساء. يدل عليه صدر الآية: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة فيكون قوله: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ عائدا إلى الجميع «١».
٤- قوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ ناسخ للتوارث بالحلف والمؤاخاة في الدين، وللتوارث بالهجرة لأن المراد بأولي الأرحام ذوي القرابة مطلقا أيا كان نوعهم، والمراد بالمؤمنين الأنصار، وبالمهاجرين قريشا، وقد فسر الإمام الشافعي رضي الله عنه الآية بذلك، وتبعه في هذا أبو بكر الرازي الجصاص من الحنفية. إلا أن الجصاص يرى فيها دليلا للحنفية على توريث ذوي الأرحام، لا من حيث إن الآية قد أريد منها هذا النوع الخاص من الوارثين، بل من حيث إن الآية اقتضت أن ذا القرابة مطلقا أولى من غيره، وأما تقديم بعض ذوي القرابة على بعض، فهذا له أدلته الخاصة.
ويقتضي ذلك أن يكون ذو الرحم (هو الصنف الذي يدلي إلى الميت بواسطة الأنثى) أولى من بيت المال، فتكون الآية حجة على من قدم بيت المال عليهم.
وظاهر الآية يدل على أن ذا الرحم أولى من مولى العتاقة، ويرى بعضهم أن مولى العتاقة مقدم على ذوي الأرحام، وهو أولى من الرد لأنه من العصبات، والعصبات أولى بالميراث من غيرهم،
وقد روي أن ابنة حمزة أعتقت عبدا، ومات وترك بنتا، فجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم نصف ميراثه لابنته ونصفه لابنة حمزة.
ونوقش
هذا بأنه لم يقل لنا الرواة: هل كان للميت ذو رحم، حتى يتم الدليل.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الحاكم والبيهقي عن ابن عمر: «الولاء لحمة كلحمة النسب»
ونوقش هذا أيضا بأن التشبيه يقتضي مطلق الاستحقاق، ولكنه لا يدل على تقديمه على غيره.
٥- قال قوم: لا يجوز أن يسمّى النبي صلّى الله عليه وسلّم أبا لقوله تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ ولكن يقال: مثل الأب للمؤمنين كما
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أبو داود: «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلّمكم».
وقال القرطبي: والصحيح أنه يجوز أن يقال: إنه أب للمؤمنين، أي في الحرمة لا في النسب، وأما قوله تعالى:
ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ فهو في النسب. وقرأ ابن عباس: «من أنفسهم، وهو أب لهم، وأزواجه أمهاتهم» وهي في مصحف أبيّ.
٦- لا مانع من الإحسان لغير الوارثين في الحياة، والوصية عند الموت لهم لقوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً أي إن ذلك جائز.
وقال محمد بن الحنفية: «إنها نزلت في جواز وصية المسلم لليهودي والنصراني» «١» أي أنه تجوز الوصية للقريب والوليّ وإن كان كافرا لأن الكافر ولي في النسب لا في الدين، فيوصى له بوصية. ويكون معنى الآية: وأولو الأرحام من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى بميراث بعض، إلا إذا كان لكم أولياء من غيرهم، فيجوز أن توصوا إليهم.
٧- رسالات الأنبياء في الأصول العامة كأصول الاعتقاد والأخلاق واحدة، وهم متناصرون متعاونون فيما بينهم، ويكمّل بعضهم رسالة البعض الآخر لقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ... الآية، أي أخذنا عهدهم على الوفاء بما أوحي إليهم، وأن يبشر بعضهم ببعض، ويصدّق بعضهم بعضا، وذلك
حكم قديم مسطور حين كتب الله ما هو كائن، وحين أخذ الله تعالى المواثيق من الأنبياء، وهو عهد وثيق عظيم على الوفاء بما التزموا من تبليغ الرسالة، وأن يصدق بعضهم بعضا.
وقد خص الله تعالى خمسة أنبياء بالذكر (وهم محمد ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى). تفضيلا لهم لأنهم أولو العزم من الرسل وأئمة الأمم، ولأنهم أصحاب الشرائع والكتب. وقدّم محمدا صلّى الله عليه وسلّم في الذكر لما
رواه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل عن قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ... فقال: «كنت أولهم في الخلق، وآخرهم في البعث، فبدأ بي قبلهم» «١».
٨- قوله تعالى: لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ فيه أربعة أوجه «٢» :
أحدها- ليسأل الأنبياء عن تبليغهم الرسالة إلى قومهم، وفي هذا تنبيه أي إذا كان الأنبياء يسألون، فكيف من سواهم؟
الثاني- ليسأل الأنبياء عما أجابهم به قومهم.
الثالث- ليسأل الأنبياء عن الوفاء بالميثاق الذي أخذه عليهم.
الرابع- ليسأل الأفواه الصادقة عن القلوب المخلصة، كما قال تعالى:
فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف ٧/ ٦].
وفائدة سؤال الأنبياء: توبيخ الكفار، كما قال تعالى لعيسى عليه السلام:
أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ [المائدة ٥/ ١١٦].
(٢) تفسير القرطبي: ١٤/ ١٢٨