
٤- يتمنى الكافرون في أثناء العذاب في نار جهنم أن لو كانوا أطاعوا الله وأطاعوا رسوله، فآمنوا بالله وحده لا شريك له، وآمنوا برسوله صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين، وأدوا فروض الطاعة والولاء، وأخلصوا لله في أعمالهم.
٥- إنهم يقولون أيضا على سبيل الأسف والاعتذار غير المفيد: إنا أطعنا القادة والأمراء والأشراف والعلماء بدل طاعة الله تعالى، فبدّلنا الخير بالشر، وأضلونا عن السبيل الصحيح وهو توحيد الله تعالى.
٦- لا يجدون بدا من المطالبة على سبيل التشفي والانتقام بمضاعفة العذاب على أولئك المضللين: عذاب الكفر وعذاب الإضلال، أي عذبهم مثلي ما تعذّبنا فإنهم ضلّوا وأضلوا.
بل إنهم يطلبون أيضا إبعادهم وطردهم من رحمة الله إبعادا كبيرا كثيرا لأن ما كبر كان كثيرا عظيم المقدار. وهذا في كلا الطلبين يتضمن معنى جديدا، فإنهم طلبوا لهم ما ليس بحاصل وهو زيادة العذاب بقولهم: ضِعْفَيْنِ وزيادة اللعن بقولهم: لَعْناً كَبِيراً.
تحريم الإيذاء الذي لا يؤدي إلى الكفر والأمر بالتقوى
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٦٩ الى ٧١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (٦٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١)

البلاغة:
لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى تشبيه مرسل مجمل، ذكر فيه أداة الشبه، وحذف وجه التشبيه.
المفردات اللغوية:
لا تَكُونُوا مع نبيكم محمد صلّى الله عليه وسلّم كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى وهم اليهود، كقولهم: ما يمنعه أن يغتسل معنا إلا أنه آدر، أو اتهامه بالفاحشة، كما روي أن قارون حرض امرأة على قذف موسى بنفسها، فعصمه الله وبرّأه مما قالوا فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا من كثير من التهم الباطلة، منها أنه وضع ثوبه على حجر ليغتسل، فطار الثوب مع الحجر، حتى استقر أمام ملأ من بني إسرائيل، فأدركه موسى، فأخذ ثوبه، فاستتر به، فرأوه ولا أدرة به وهي نفخة في الخصية. وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً ذا جاه وقدر وقربة ووجاهة عنده تعالى.
اتَّقُوا اللَّهَ في ارتكاب ما يكرهه، فضلا عما يؤذي رسوله صلّى الله عليه وسلّم وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً قاصدا إلى الحق يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ يوفقكم للأعمال الصالحة أو يصلحها بالقبول والإثابة عليها ويتقبلها وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أي يسترها ويكفّرها بالاستقامة في القول والعمل وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي في الأوامر والنواهي فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً نال غاية مطلوبة، بالعيش في الدنيا حميدا وفي الآخرة سعيدا.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أن من يؤذي الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم يلعن ويعذب، مما يدل على أن إيذاءهما كفر، أرشد المؤمنين إلى ضرورة الامتناع من إيذاء لا يؤدي إلى الكفر، مثل عدم الرضا بقسمة النبي صلّى الله عليه وسلّم الفيء بين أصحابه.
أما إيذاء موسى فمختلف فيه، قال بعضهم: هو إيذاؤهم إياه بنسبته إلى عيب في بدنه، أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال:
قال لموسى قومه: إنه آدر، فخرج ذات يوم ليغتسل، فوضع ثيابه على حجر، فخرجت الصخرة تشتد بثيابه، فخرج موسى يتبعها عريانا، حتى انتهت به إلى مجالس بني إسرائيل، فرأوه وليس بآدر.

وقال بعضهم: إن قارون تآمر مع امرأة أن تقول عند بني إسرائيل: إن موسى زنى بي، فلما جمع قارون القوم، والمرأة حاضرة، ألقى الله في قلبها أنها صدقت، ولم تقل ما لقّنت.
قال الرازي: وبالجملة الإيذاء المذكور في القرآن كاف، وهو أنهم قالوا له:
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [المائدة ٥/ ٢٤] وقولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة ٢/ ٥٥] وقولهم: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ [البقرة ٢/ ٦١] إلى غير ذلك، فقال للمؤمنين: لا تكونوا أمثالهم إذا طلبكم الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى القتال، أي لا تقولوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [المائدة ٥/ ٢٤] ولا تسألوا ما لم يؤذن لكم فيه،
«وإذا أمركم الرسول بشيء فأتوا منه ما استطعتم» «١».
التفسير والبيان:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا، وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً أي يا أيها المؤمنون بالله ورسوله، لا تؤذوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالقول أو العمل، مما يكرهه ولا يحبه، ولا تكونوا مثل الذين آذوا موسى، كتعييبه كذبا وزورا، أو تعجيزه برؤية الله جهرا، أو تركه يقاتل وحده، أو مطالبته بأنواع من الطعام، فبرأه الله مما قالوا من الكذب والزور، وكان ذا قدر وجاه ومنزلة عند ربه، قال الحسن البصري: كان مستجاب الدعوة عند الله، وقال غيره من السلف: لم يسأل الله شيئا إلا أعطاه، ولكن منع الرؤية لما يشاء عز وجل.
ومن مظاهر إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم:
ما رواه البخاري ومسلم وأحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «قسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم قسما، فقال
تفسير الرازي: ٢٥/ ٢٣٣ والجملة الأخيرة حديث رواه الشيخان عن أبي هريرة بلفظ «وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم».

رجل من الأنصار: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، فاحمرّ وجهه، ثم قال:
رحمة الله على موسى، فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر».
وروى أحمد عن ابن مسعود أيضا قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «لا يبلّغني أحد عن أحد من أصحابي شيئا، فإني أحب أن أخرج إليكم، وأنا سليم الصدر».
وأما إيذاء موسى فالظاهر أنه كان بالطعن في تصرفاته، لا بتعييبه في بدنه، بدليل الحديث الأول عن ابن مسعود.
وبعد نهي المؤمنين عن إيذاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالقول أو بالفعل، أرشدهم إلى ما ينبغي أن يصدر عنهم من الأقوال والأفعال، أما الأفعال فالخير، وأما الأقوال فالحق لأن من أتى بالخير وترك الشر فقد اتقى الله، ومن قال الصدق قالا قولا سديدا، فقال:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ، وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً أي يا أيها المؤمنون بالله ورسوله، اتقوا الله في كل الأمور باجتناب معاصيه، والتزام أوامره وعبادته عبادة من كأنه يراه، وقولوا القول الصواب والحق في كل أموركم، ويدخل فيه قول: لا إله إلا الله، والإصلاح بين الناس، كما يدخل فيه القول في شأن زيد وزينب، ولا تنسبوا النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى ما لا يحل.
ثم وعدهم على الأمرين: الخير في الأفعال والصدق في الأقوال بأمرين فقال:
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أي وعدهم على فعل الخيرات بإصلاح الأعمال، أي بقبولها، وجعل صاحبها في الجنة خالدا فيها أبدا، وعلى القول السديد بمغفرة الذنوب الماضية، وأما ما قد يقع منهم في المستقبل فيلهمهم التوبة منها.

ثم حرضهم على الطاعة، فقال:
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً أي ومن يطع أوامر الله والرسول ويجتنب النواهي، فقد نجا من نار الجحيم، وصار إلى النعيم المقيم.
وبالرغم من أن طاعة الله هي طاعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فإنه تعالى جمع بينهما لبيان أن المطيع اتخذ عند الله عهدا، وعند الرسول صلّى الله عليه وسلّم يدا.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- لم تقتصر عناية القرآن وتحذيره على فئة من الناس دون فئة، فبعد أن ذكر الله تعالى المنافقين والكفار الذين آذوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين، حذّر المؤمنين من التعرّض للإيذاء، ونهاهم عن التشبه ببني إسرائيل في إيذائهم نبيهم موسى عليه السلام.
ومظاهر إيذاء محمد صلّى الله عليه وسلّم وموسى عليه السلام مختلف فيها، فقيل: إن أذيّتهم محمدا صلّى الله عليه وسلّم قولهم: زيد بن محمد، أو أنه قسم قسما، فقال رجل من الأنصار: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله،
فغضب النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: «رحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر».
وأما أذية موسى عليه السلام، فقال ابن عباس وجماعة: هي اتهامه بالأدرة كما تقدم.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: آذوا موسى بأن قالوا: قتل هارون، مع أنه مات في جبل في سيناء بعد خروج موسى وهارون من التيه (قلب شبه جزيرة طور سينا).
وقيل: إن أذية موسى عليه السلام رميهم إياه بالسحر والجنون، وقيل بغير ذلك. قال القرطبي: والصحيح الأول، ويحتمل أن فعلوا كل ذلك، فبرّأه الله من جميع ذلك.