لمزيد اختصاصهن بهن، لما لهن من صلة القرابة، وكذلك الخادمات.
وأيضا ما ملكت أيمانهن من الذكور والإناث.
١٧- توّج الله تعالى آية الحجاب واستثناء المحارم بالأمر بالتقوى، كأنه قال: اقتصرن على هذا، واتقين الله فيه أن تتعدينه إلى غيره، وخصّ النساء بهذا الأمر وعيّنهن، لقلة تحفظهن وكثرة استرسالهن، ثم توعد تعالى بأنه رقيب على كل شيء بقوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً أي أنه يعلم علم شهود وحضور ومعاينة، فيجازي على ما يكون.
تعظيم النبي صلّى الله عليه وسلّم وجزاء إيذائه وإيذاء المؤمنين
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٥٦ الى ٥٨]
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨)
البلاغة:
وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً إتباع الفعل بالمصدر للتأكيد.
المفردات اللغوية:
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ محمد صلّى الله عليه وسلّم، أي يعتنون بإظهار شرفه وتعظيم شأنه.
والصلاة في اللغة: الدعاء، يقال: صلى عليه، أي دعا له. وهي من الله: الرحمة والرضوان، ومن الملائكة: الدعاء والاستغفار، ومن الأمة: دعاء وتعظيم للنبي صلّى الله عليه وسلّم. صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً
أي اعتنوا أنتم أيضا بالصلاة عليه، فإنكم أولى بذلك، وقولوا: اللهم صل وسلّم على محمد. والآية تدل على وجوب الصلاة والسلام عليه في الجملة، وتجوز الصلاة على غيره تبعا له، وتكره استقلالا لأنه في العرف صار شعارا لذكر الرسل، كما ذكر البيضاوي والشوكاني وغيرهما، فلا يقال: صلّى الله على فلان، أو فلان عليه السلام، وقد اتفق العلماء على أن الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرض على كل مسلم، وأقلها في العمر مرة.
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يرتكبون ما يكرهانه من الكفر والمعاصي وهم الكفار يصفون الله بما هو منزه عنه من الولد والشريك، ويكذبون رسوله صلّى الله عليه وسلّم. لَعَنَهُمُ اللَّهُ أبعدهم وطردهم من رحمته. عَذاباً مُهِيناً ذا إهانة وغاية في الإهانة مع الإيلام، وهو النار. بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا يرمونهم بغير جناية استحقوا بها الإيذاء، أو بغير ما عملوا. احْتَمَلُوا بُهْتاناً تحملوا كذبا. وَإِثْماً مُبِيناً أي ذنبا ظاهرا واضحا.
سبب النزول: نزول الآية (٥٧) :
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ:
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية قال: نزلت في الذين طعنوا النبي صلّى الله عليه وسلّم حين اتخذ صفية بنت حييّ زوجة له. وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس:
أنزلت في عبد الله بن أبيّ وناس معه قذفوا عائشة، فخطب النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال:
«من يعذرني في رجل يؤذيني ويجمع في بيته من يؤذيني»، فنزلت.
وروي أنها نزلت في منافقين يؤذون عليا رضي الله عنه، وقيل: في أهل الإفك كما تقدم، وقيل: في زناة كانوا يتبعون النساء وهن كارهات.
نزول الآية (٥٨) :
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ
قال ابن عباس: أنزلت في عبد الله بن أبي وناس معه قذفوا عائشة رضي الله عنها، فخطب النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: «من يعذرني من رجل يؤذيني، ويجمع في بيته من يؤذيني».
وقيل: نزلت في أناس من المنافقين كانوا يؤذون علي بن أبي طالب.
وقيل: نزلت فيمن آذى عمر لضربه جارية من الأنصار متبرجة. وقال جماعة:
نزلت في الزناة الذين كانوا يمشون في طرق المدينة يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن.
المناسبة:
بعد أن أمر الله المؤمنين بالاستئذان وعدم النظر إلى وجوه نسائه احتراما، أكمل ذلك ببيان مكانة النبي صلّى الله عليه وسلّم في الملأ الأعلى، وما يجب له من احترام في الملأ الأدنى، ثم أردفه بتبيين أضداد الاحترام، فنهى عن إيذاء الله، بمخالفة أوامره وارتكاب معاصيه، وعن إيذاء رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالطعن فيه أو في أهل بيته، أو بنسبة عيب أو نقص فيه.
التفسير والبيان:
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً أي إن الله يصلي على نبيه بالرحمة والرضوان، والملائكة تدعو له بالمغفرة ورفعة الشأن، لذا فأنتم أيها المؤمنون بالله ورسوله قولوا: اللهم صلّ وسلّم على محمد، أي ادعوا له بالرحمة ومزيد الشرف والدرجة العليا. ويلاحظ الاهتمام بالحكم من طريق مجيء الخبر مؤكدا ب «إنّ» والإتيان بالجملة الاسمية لإفادة الدوام، وأن مجيء الجملة اسمية في صدرها: إِنَّ اللَّهَ فعليه في عجزها:
يُصَلُّونَ للدلالة على أن الثناء من الله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم يتجدد على الدوام.
وهذه الآية بمثابة العلة لما ذكر قبلها من أن شأن المؤمنين ألا يؤذوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكأنه قيل: ما كان لكم أن تؤذوه لأن الله يصلي عليه والملائكة، وما دام الأمر كذلك، فهو لا يستحق إلا الاحترام والإكرام. وقد بدئت الآية بالجملة الاسمية لإفادة الدوام، وانتهت بالجملة الفعلية للإشارة إلى أن
هذا الإكرام والتمجيد يتجدد مع مرور الزمان على الدوام.
ويكون المقصود من الآية أن الله تعالى أخبر عباده بمنزلة نبيه وعبده في الملأ الأعلى بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين وأن الملائكة تصلي عليه، لذا أمر الله تعالى العالم الدنيوي بالصلاة والسلام عليه، ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين:
العلوي والسفلي جميعا.
والصلاة كما بينا من الله الرحمة، ومن الملائكة: الاستغفار، ومن المؤمنين الدعاء بالمغفرة والتعظيم لشأن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وكيفية الصلاة عليه تعرف بالأحاديث المتواترة التي منها:
ما رواه الشيخان وأحمد وغيرهم عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: «قال رجل:
يا رسول الله، أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟! قال:
قل: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد».
وأخرج مالك وأحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن أبي حميد الساعدي أنهم قالوا: يا رسول الله، كيف نصلي عليك؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قولوا: اللهم صلّ على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
وأخرج الجماعة عن أبي سعيد الخدري قلنا: «يا رسول الله، هذا السلام عليك، قد علمنا، فكيف الصلاة عليك؟ فقال: قولوا: اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم».
وأما التسليم فهو بأن يقولوا: السلام عليك يا رسول الله، ومعنى «السلام عليك» الدعاء له بالسلامة من الآفات والنقائص.
وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل الصلاة والسلام على رسول الله، منها:
ما رواه أحمد وابن ماجه عن عامر بن ربيعة قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من صلى علي صلاة لم تزل الملائكة تصلي عليه ما صلى عليه، فليقلّ عبد من ذلك أو ليكثر».
ومنها:
ما رواه أحمد أيضا والنسائي عن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاء ذات يوم، والسرور- أو البشر- يرى في وجهه، فقالوا: يا رسول الله، إنا لنرى السرور- أو البشرى- في وجهك، فقال: «إنه أتاني الملك فقال: يا محمد، أما يرضيك أن ربك عز وجل يقول: إنه لا يصلّي عليك أحد من أمّتك إلا صلّيت عليه عشرا، ولا يسلّم عليك أحد من أمتك إلا سلّمت عليه عشرا، قلت: بلى».
ومنها:
ما رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من صلى علي واحدة، صلّى الله عليه بها عشرا».
لذا أوجب الشافعي الصلاة على الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وجعلها ركنا في التشهد الأخير من الصلاة، وتستحب عنده في التشهد الأول.
واتفق العلماء على وجوب الصلاة والتسليم على النبي صلّى الله عليه وسلّم مرة في العمر، عملا بما يقتضيه الأمر صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا من الوجوب، وتكون الصلاة والسلام في ذلك ككلمة التوحيد لأن الصحيح أن الأمر لا يقتضي التكرار، وإنما هو للماهية، المطلقة عن قيد التكرار والمرة، وحصوله مرة ضرورة لتحقيق مجرد الماهية. وأما القول بالوجوب كلما ذكر، أو في كل مجلس مرة، أو الإكثار منها من غير تقيد بعدد، فهو استدلال بالأحاديث المرغبة في فعلها والمرهبة من
تركها، كقوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام ٦/ ١٦٠] الذي هو ترغيب في الإحسان.
ويسن الإكثار من الصلاة والسلام على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في يوم الجمعة وعند زيارة قبره صلّى الله عليه وسلّم، وبعد النداء للصلاة، وفي صلاة الجنازة،
روى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن أوس بن أوس الثقفي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أفضل أيامكم يوم الجمعة: فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي» قالوا: يا رسول الله، وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت؟ - يعني وقد بليت- قال: «إن الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء».
وروى أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا سمعتم مؤذنا فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى عليّ صلّى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلّت عليه الشفاعة» :
وروى النسائي عن أبي أمامة أنه قال: من السنة في الصلاة على الجنازة:
أن يكبر الإمام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سرا في نفسه، ثم يصلي على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويخلص الدعاء للجنازة، وفي التكبيرات لا يقرأ في شيء منها، ثم يسلم سرا في نفسه.
وروى أبو داود، وصححه النووي في الأذكار، كما صحح الحديث المتقدم، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما منكم من أحد يسلم علي إلا ردّ الله علي روحي حتى أردّ عليه السلام».
ولا شك بأن الإكثار من الصلاة والسلام على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مجلبة للخير
والثواب، وسبب لدخول الجنة، ومذهبة للهم والحزن، وطرد للنسيان،
أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رغم أنف رجل ذكرت عنده، فلم يصلّ علي، ورغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان، ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر، فلم يدخلاه الجنة».
وبعد الأمر بالصلاة والسلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم، عاد الكلام إلى النهي عن إيذاء الله بمخالفة أوامره وارتكاب زواجره، وإيذاء رسوله صلّى الله عليه وسلّم بوصفه بعيب أو نقص فقال:
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً أي إن الذين يصدر منهم الأذى لله ورسوله بارتكاب ما لا يرضيانه من الكفر والعصيان، كقول اليهود: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة ٥/ ٦٤] وعُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة ٩/ ٣٠] وقول النصارى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة ٩/ ٣٠] وقول المشركين: الملائكة بنات الله، والأصنام آلهة شركاء لله، وقولهم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنه شاعر، أو ساحر أو كاهن أو مجنون، إن هؤلاء الذين يؤذون الله ورسوله طردهم الله من رحمته في الدنيا والآخرة، وهيأ لهم عذابا مهينا محقرا مؤلما في نار جهنم.
وهذا دليل على أنه تعالى لم يحصر جزاءهم في الإبعاد من رحمته، بل أوعدهم وهددهم بعذاب النار الأليم. والآية عامة في كل من آذى النبي صلّى الله عليه وسلّم بشيء، فمن آذاه فقد آذى الله، كما أن من أطاعه فقد أطاع الله، كما قال الإمام أحمد. وروي عن ابن عباس أن الآية نزلت في الذين طعنوا على النبي صلّى الله عليه وسلّم في تزويجه صفية بنت حيي بن أخطب.
وبعد بيان شأن الذين يؤذون الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، أبان الله تعالى ما يناسب ذلك، وهو حكم الذين يؤذون المؤمنين، فقال:
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا، فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً أي والذين يؤذون أهل الإيمان من الرجال والنساء بوجه من وجوه الأذى من قول أو فعل، وسواء أكان الإيذاء للعرض، أو الشرف أو المال، بأن ينسبوا إليهم ما هم برآء منه، لم يعملوه ولم يفعلوه، فهو إيذاء بغير حق، كأن يشتم المؤمن أحدا، أو يضربه، أو يقتله، فقد أتوا بالكذب المحض والبهتان الكبير: وهو نسبة شيء لهم لا علم لهم به ولم يفعلوه، على سبيل العيب والإنقاص، وارتكبوا ذنبا واضحا بينا. ونظير الآية: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً، ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً
[النساء ٤/ ١١٢].
والبهتان: الفعل الشنيع، أو الكذب الفظيع.
ومن أشد أنواع الأذى: الطعن في الصحابة، والغيبة، واستباحة عرض المسلم،
روى الإمام أحمد والترمذي عن عبد الله بن المغفّل المزني قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه».
وروى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة: أنه قيل: «يا رسول الله، ما الغيبة؟ قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته».
وروى ابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «أي الربا أربى عند الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم» ثم قرأ: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً.
فإن كان الإيذاء بحق لم يحرم، مثل الإيذاء بالقصاص، والإيذاء بقطع اليد في السرقة، والإيذاء بالتعزيرات المختلفة، وقتال المرتدين،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث المتواتر الذي رواه أصحاب الكتب الستة عن أبي هريرة: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها».
فهم أبو بكر رضي الله عنه من هذا الحديث أن الزكاة حق المال، فقاتل مانعيه من أجله، وقال: «والله لو منعوني عناقا كانوا يعطونه لرسول الله، لقاتلتهم عليه» وحاجه في ذلك عمر فقال: «إلا بحقها» والزكاة حق الأموال، فانشرح صدره لما رآه أبو بكر.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- إن آية الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم تشريف له حياته وموته، وتنويه بمنزلته ومكانته السامية، والصلاة كما بينا من الله: الرحمة والرضوان، ومن الملائكة:
الدعاء والاستغفار، ومن الأمة: الدعاء والتعظيم لأمره.
٢- أمر الله تعالى عباده بالصلاة على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم دون أنبيائه تشريفا له، ولا خلاف في أنها فرض في العمر مرة، وسنة مؤكدة في كل حين لا يسع المسلم تركها، ولا يغفلها إلا من لا خير فيه.
وقد عرفنا صفة الصلاة والسلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهي صيغة الصلاة الإبراهيمية، وبينا فضل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو كما
ورد عنه فيما رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة: «من صلّى علي واحدة، صلّى الله عليه بها عشرا»
وقال أيضا: «من صلى علي في كتاب لم تزل الملائكة يصلون عليه ما دام اسمي في ذلك الكتاب» «١».
وقال سهل بن عبد الله: الصلاة
على محمد صلّى الله عليه وسلّم أفضل العبادات لأن الله تعالى تولاها هو وملائكته، ثم أمر بها المؤمنين، وسائر العبادات ليس كذلك. وقال أبو سليمان الداراني: من أراد أن يسأل الله حاجة فليبدأ بالصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم يسأل الله حاجته، ثم يختم بالصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم فإن الله تعالى يقبل الصلاتين، وهو أكرم من أن يرد ما بينهما.
وأما الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة فهي سنة مستحبة عند الجمهور، فإن تركها فصلاته مجزية، وواجبة لدى الشافعي، فمن تركها فعليه الإعادة.
وأما الصلاة على غير الأنبياء: فإن كانت على سبيل التبعية مثل: اللهم صل على محمد وآله، وأزواجه، وذريته، فهذا جائز بالإجماع، فإن أفردوا فقال جماعة: يجوز ذلك لقوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ [الأحزاب ٣٣/ ٤٣] وقوله: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ [البقرة ٢/ ١٥٧] وقوله: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [التوبة ٩/ ١٠٣]
وحديث الصحيحين عن عبد الله بن أبي أوفى قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال:
«اللهم صلّ عليهم» فأتاه أبي بصدقته فقال: «اللهم صلى على آل أبي أوفى»
وحديث جابر أن امرأته قالت: يا رسول الله، صلّ عليّ وعلى زوجي، فقال:
«صلّى الله عليك وعلى زوجك».
وقال جمهور العلماء: لا يجوز إفراد غير الأنبياء بالصلاة لأن هذا قد صار شعارا للأنبياء إذا ذكروا، فلا يلحق بهم غيرهم، فلا يقال: أبو بكر صلّى الله عليه، أو قال عليّ صلّى الله عليه، وإن كان المعنى صحيحا، كما لا يقال: محمد عز وجل، وإن كان عزيزا جليلا لأن هذا من شعار ذكر الله عز وجل. وأما ما ورد في الكتاب والسنة من ذلك، فمحمول على الدعاء لهم، ولهذا لم يثبت شعارا لآل أبي أوفى ولا لجابر وامرأته.
والصحيح أن هذا المنع من الصلاة على غير الأنبياء مكروه كراهة تنزيه لأنه شعار أهل البدع، وقد نهينا عن شعارهم.
والسلام هو في معنى الصلاة، فلا يستعمل في الغائب، ولا يفرد به غير الأنبياء، فلا يقال: علي عليه السلام، وهذا سواء في الأحياء والأموات. وأما الحاضر فيخاطب به، فيقال: سلام عليك، وسلام عليكم، أو السلام عليك أو عليكم، وهذا مجمع عليه.
وقال النووي: إذا صلى على النبي صلّى الله عليه وسلّم فليجمع بين الصلاة والتسليم، فلا يقتصر على أحدهما، فلا يقول: صلّى الله عليه فقط، ولا عليه السلام فقط لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً.
٣- إن من يؤذي الله ورسوله يستحق اللعنة والطرد من رحمة الله في الدنيا والآخرة، وله عذاب محقر مؤلم في نار جهنم. وإيذاء الله: يكون بالكفر ونسبة الصاحبة والولد والشريك إليه، ووصفه بما لا يليق به، كقول اليهود: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة ٥/ ٦٤]، وعُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة ٩/ ٣٠]، وقول النصارى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة ٩/ ٣٠]، وقول المشركين: الملائكة بنات الله، والأصنام شركاؤه.
وجاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يقول الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم، يسبّ الدهر، وأنا الدهر. أقلّب ليله ونهاره»،
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال الله تبارك وتعالى:
«يؤذيني ابن آدم يقول: يا خيبة الدهر، فلا يقولن أحدكم: يا خيبة الدهر، فإني أنا الدهر، أقلّب ليله ونهاره، فإذا شئت قبضتهما».
هكذا جاء هذا الحديث موقوفا على أبي هريرة في هذه الرواية.
وقد جاء مرفوعا عنه بلفظ آخر عند مسلم أيضا: «يؤذيني ابن آدم يسبّ الدهر، وأنا الدهر أقلّب الليل
والنهار».
وقال عكرمة: معناه بالتصوير والتعرض لفعل ما لا يفعله إلا الله بنحت الصور وغيرها،
وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لعن الله المصوّرين».
والطعن في تأمير أسامة بن زيد «١» لغزو «أبنى» قرية عند مؤتة أذية له صلّى الله عليه وسلّم، من حيث إنه كان من الموالي، ومن حيث إنه كان صغير السن لأنه كان إذ ذاك ابن ثمان عشرة سنة، ومات النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد خروج هذا الجيش إلى ظاهر المدينة، فنفّذه أبو بكر بعده صلّى الله عليه وسلّم.
جاء في صحيح البخاري عن ابن عمر قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعثا، وأمّر عليهم أسامة بن زيد، فطعن الناس في إمرته فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إن تطعنوا في إمرته، فقد كنتم تطعنون في إمرة أبيه من قبل، وايم الله إن كان لخليقا للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إليّ، وإن هذا لمن أحب الناس إليّ بعده».
وفي هذا الحديث دلالة على جواز إمامة المولى والمفضول على غيرهما ما عدا الإمامة الكبرى، ويؤكده أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قدّم سالما مولى أبي حذيفة على الصلاة بقباء، فكان يؤمهم، وفيهم أبو بكر وعمر وغيرهم من كبراء قريش.
٤- إن إيذاء المؤمنين والمؤمنات بغير حق بالأقوال أو الأفعال القبيحة بهتان وإثم واضح. ومن أنواع الأذى: التعيير بحسب مذموم، أو حرفة مذمومة، أو شيء يثقل عليه إذا سمعه.
وقد ميّز الله بين أذاه سبحانه وأذى الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأذى المؤمنين، فجعل الأول كفرا موجبا اللعن، والثاني كبيرة، فقال في أذى المؤمنين: فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً.