أي الحرب «إِلَّا قَلِيلًا» (١٨) بقدر ما
يرون موقعها ثم ينصرفون عنها، وهؤلاء المنافقون شديد والبخل على المؤمنين ولهذا يقول الله تعالى «أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ» بأن تنصروا وتغلبوا وتغنموا، ولذلك فإنهم لا يأتون الحرب إلا إتيانا قليلا لينظروا من الغالب «فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ» من قبل العدو «رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ» يا سيد الرسل «تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ» في موقعها يمينا وشمالا من شدة الرعب ترى أحدهم «كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ» أي مثل دوران عين المحتضر «فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ» وأمنوا لقاء العدو «سَلَقُوكُمْ» خاطبوكم مخاطبة عنيفة في مقاسمة الغنائم يقولون قاتلنا معكم وناضلنا عنكم وبنا غلبتم عدوكم «بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ» سليطة ذرية تفعل بالمخاطب فعل الحديد بالرجل وتراهم «أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ» أي الغنيمة يشاقون المؤمنين فيها فلا يريدون أن يتركوا شيئا إلا قاسموهم عليه وطالبوهم فيه ولو عقال بعير «أُولئِكَ» الذين هذه صفتهم «لَمْ يُؤْمِنُوا» بقلوبهم، ولا عبرة بما نطقت به ألسنتهم من الإيمان لأنه رياء وخوف من أن تقتلوهم «فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ» التي عملوها من جهاد وغيره «وَكانَ ذلِكَ» الإحباط وعدم انتفاعهم من أعمالهم «عَلَى اللَّهِ يَسِيراً» (١٩) هينا جدا شأنه شأن غيره، إذ لا يعسر على الله شيء، وهم عند الله كذلك لا وزن لهم ولا قيمة ولا مكانة «يَحْسَبُونَ» هؤلاء المنافقون الخاسرون «الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا» ينهزموا لشدة جبنهم ويعتقدون ثباتهم ومقاومتهم المؤمنين، مع أن هزيمتهم لا بد منها تأييدا لوعد الله الذي وعده المؤمنين على رغم أنف المنافقين والكافرين «وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ» مرة ثانية «يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ» أي يتمنون أن يكونوا في البادية ليأمنوا على أنفسهم منهم لشدة فزعهم من الموت بأن يكونوا «فِي الْأَعْرابِ» بينهم في البادية لا بالحاضرة مع أهل المدينة وتراهم عن بعد «يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ» وما آل إليه أمركم «وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا» (٢٠) بما يقدمون به عذرهم وارائتهم أنفسهم للناس أنهم مع المجاهدين فيا أيها المنافقون
«لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» وقدوة صالحة بأن تنصروا دين الله وتعلوا كلمته وتصبروا على ما يصيبكم مثله، لا أن تتخلفوا عنه وتنخزلوا من سواده وتهربوا من الجهاد، ولكن هذه القدوة
ما أنتم لها بأهل ولا ترجى منكم لأنها لا تكون إلا «لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ» إيمانا صادقا وإيقانا خالصا عن نية حسنة «وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً» (٢١) في السراء والضراء عن عقيدة صالحة لا المنافقين الذين يؤمنون بألسنتهم فقط ولا يذكرون الله إلا قليلا رياء وسمعة. وبعد أن وصف الله المنافقين بما وقع منهم وبما هم عليه نعت المؤمنين بما سيصدر منهم فقال جل قوله «وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ» من النصر والظفر قد آن أوانه «وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» بما وعدا وهذا بمقابلة قول المنافقين ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا «وَما زادَهُمْ» مجيء الأحزاب وإحاطتهم بهم وتثبيط المنافقين هزيمتهم «إِلَّا إِيماناً» بالله ورسوله «وَتَسْلِيماً» (٢٢) لأمرهما وانتظارا لوعدهما.
قال تعالى «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ» من الثبات للقاء العدو عكس المنافقين إذ زادهم اللقاء جبنا وإنكارا لما وعدهم الله ورسوله وتكذيبا وجحودا، أما هؤلاء الكرام «فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ» فمات شهيدا في واقعة أحد المارة وفاء بنذره وعهده وميثاقه على الاستمرار في القتال حتى النهاية «وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ» الشهادة، ويتوقعها باشتياق للفوز بما عند الله من الكرامة للشهداء المار ذكرهم في الآية ١٦٩ من آل عمران والآية ١٥٧ من البقرة المارتين، والأوبة بالسعادة «وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا» (٢٣) ما في وعدهم بل ثبتوا عليه وقاموا به ووقوه كاملا «لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ» إذ لا حتم عليه في تعذيب الكافر ولا جزم عليه في إثابة المؤمن «أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ» بأن يشرح صدورهم للإيمان فيدخلهم الجنة بفضله «إِنَّ اللَّهَ كانَ» ولن يزال «غَفُوراً» لمن يشاء من عباده «رَحِيماً» (٢٤) بمن شاء منهم لا قيد عليه في شيء أبدا «وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ» وحنقهم وقبض صدورهم وضيق ذرعهم وانكماش وجوههم واكفهرار ألوانهم «لَمْ يَنالُوا خَيْراً» نصرا ولا ظفرا ولا غنيمة من المؤمنين البتة بل نكسوا على رؤوسهم وردوا على أعقابهم مدحورين «وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ» بتسليط الريح العظيمة التي لم تقاوم لأنها من غضب الله أعاذنا الله منه والجنود التي أرسلها الله على الأحزاب الغير مرثية لا نعلمها
نحن، وإنما يعلمها الذي أرسلها وهربوا غاضبين بعضهم على بعض لما وقع بينهم من الخلاف وسوء الظن الآتي ذكره في القصة «وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا» لا يقاوم «عَزِيزاً» (٢٥) لا يغلب ولهذا شتتهم وطردهم دون قتال.
مطلب في غزوة الخندق وما سلط فيها على الأحزاب وهزيمتهم
وخلاصة هذه القصة قالوا إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما أمر بإجلاء بني النضير من ديارهم على أثر نقضهم العهد كما ستأتي قصتهم مفصلة أول سورة الحشر الآتية إن شاء الله، وإنما لم نذكرها في موقعها لأنها كانت قبل واقعة الأحزاب كما أشرنا إليه في الآية (٧) لأن الله تعالى نوه بها في سورة الحشر لئلا يحصل التكرار الذي لا زلنا نتحاشاه، اتفق سلام بن الحقيق وحيي بن اخطب وكنانة بن الربيع وأبو عمّار الوائلي مع أبي سفيان من قريش وعيينة بن حصن الفزاري والحارث بن عرب المري عن غطفان ومسعر بن رفيلة عن أشجع وحزّبوا الأحزاب وغزوا المدينة في عشرة آلاف، وتوثقوا في هذه المعاهدة على أن يستأصلوا محمدا وأصحابه، فلما بلغ الخبر حضرة الرسول أشار إلى سلمان الفارسي يحفر الخندق حول المدينة للحصار فيها، فقبل رأيه وقسم كل أربعين ذراعا على عشرة رجال وطلب المهاجرون أن يكون سلمان معهم، والأنصار كذلك، ولما لم يكن من الطرفين قال صلّى الله عليه وسلم سلمان منا أهل البيت، فكان مع المهاجرين، لأن حضرة الرسول منهم، قال سلمان وبعد أن باشر كل يحفر سهمه ظهرت صخرة مروة صمّاء أعيتهم، فاستنجدوا برسول الله فأخذ معول سلمان وضربها ثلاث ضربات في كل ضربة يبرق منها بريق يضيء ما بين لابتي المدينة ويكبر النبي والمسلمون تكبير فتح حتى فتتها، فقال سلمان بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئا ما رأيت مثله قط، فقال للقوم أرأيتم ما يقول سلمان، قالوا نعم، وقال سلمان إنه رأى في البرقة الأولى أن قصور الحيرة أضاءت له ومدائن كسرى، وفي الثانية قصور قيصر من أرض الروم، وفي الثالثة قصور صنعاء من اليمن، وقال صلّى الله عليه وسلم أخبرني جبريل أن أمتي ستظهر عليها الدول الثلاث المذكورة فاستبشر المسلمون وحمدوا الله تعالى، قال محمد بن اسحق لما فرغ من الخندق وصلت قريش وغطفان ومن تابعهم فنزلت بجنب أحد، وخرج رسول الله والمسلمون ونزلوا السلع وأمر
بالنساء والزراري أن يرفعوا إلى الأطام، وذهب حيي بن اخطب إلى كعب بن أسعد القرظي وأفنعه بنقض العهد مع رسول الله على أنه وقريشا إذا لم يستأصلوا محمدا واتباعه أن يكون معه، فرضي وبلغ حضرة الرسول ذلك فأرسل سعد بن معاذ يستقصي خبر نقض العهد، فذهب فوجده كما سمع، فقال صلّى الله عليه وسلم الله أكبر ابشروا يا معشر المسلمين بالنصر والغلبة والظفر، ثم لما رأوا كثرة الأعداء وانضمام المعاهدين إليهم واحاطتهم بهم اشتد الخوف، إذ ان العدو تقرب منهم وحاصرهم من فوق ومن تحت كما ذكر الله ولولا الخندق لا قتحموهم، ولكن من كان الله وليه لا يتسلط عليه أحد. ثم نجم النفاق وجاهر به معقب بن بشير أخو بني عمرو بن عوف قائلا أن محمدا يعدنا بكسرى وقيصر واليمن وأحدنا لا يقدر أن يذهب إلى الغائط، يندد بما قاله سلمان رضي الله عنه آنفا من رؤيته في البريق وما تفضل به حضرة الرسول من أن أمته ستظهر عليهم. وقال اويس بن قبطي من بني حارثة أن بيوتنا عورة، فأنزل الله فيهما (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) الآيتين المارتين، ودام الحصار بضعا وعشرين ليلة، وعظم البلاء على المسلمين واختلّت داخليتهم بالمنافقين الذين يلقون بالأراجيف بين الناس ويعظمون الأعداء ويقللون المؤمنين ويعرضون بوعد الله ورسوله، ولما رأى حضرة الرسول ذلك أراد أن يعطي ثلث عمارة المدينة إلى قائدي غطفان عيينة والحارث ويرجعا عن مؤازرة قريش إزالة لما رأى من ضجر المؤمنين وخوفهم واستبطائهم نصر الله وقد ذلوا من عدوهم وإذا ذل العرب ذل الإسلام كله، وقد خاف صلّى الله عليه وسلم من التفرقة الناشئة عن احساسهم بالضعف والاختلاف الذي يؤدي إلى التباغض والتحاسد والاستنثار، فاستشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فقالا له إذا كان الله أمرك بهذا فلا بد منه، وإلا فقبل أن نتشرف بالإسلام ما كانوا يطمعون بشجرة واحدة فكيف بعد تشرفنا به والله ما نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين، فقال صلّى الله عليه وسلم لا والله لما يأمرني الله وإنما وعدني النصر والظفر إلا أني رأيت العرب رمتكم عن قوس
واحد وقد رأيتم ما فعل المنافقون، فأردت كسر شوكتهم، واجمعوا على مواصلة الحصار وعدم البحث فيما ذكره حضرة الرسول، ثم أن عمرو بن ود العامري وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن وهب ت (٣٠)
ونوفل بن عبد الله ومرداس تلبسوا للقتال وهيجوا غيرهم وأرادوا اقتحام المدينة، فلما رأوا الخندق قالوا هذه مكيدة لم تعرفها العرب، وبعد أن تراشقوا بالنبل اقتحموا الخندق بخيولهم، فقام صلّى الله عليه وسلم ونفر من المسلمين وقال علي لعمرو انك كنت تعاهد الله أن لا يدعوك رجل الى خصلتين إلا أخذت إحداهما، قال أجل، قال إني أدعوك إلى الإسلام، قال لا، قال أدعوك للنزال، قال يا ابن أخي لا أحب قتلك، فقال علي والله اني أحب قتلك، فقال إذا أنازلك، وعظم ذلك على المسلمين لما يعلمون من شدة بطش عدو الله عمرو وخوفهم على عليّ، فبرز له رضي الله عنه وقالوا خرج الإسلام كله إلى الكفر كله، فوفّق الله عليا وقتل عمرا ومعه رجلان قتلهما أيضا وهزم بقية أصحابه، وبقي جسد نوفل بن عبد الله بالخندق، فسأل قومه الرسول أن يبيعهم جثته، فسمح لهم بها مجانا في ساعة هم أحوج فيها لكل شيء، ولا جرم فهو معدن السماح وأصل الفضل، وجرح سعد بن معاذ وصار يقول والحربة في يده لا بأس بالموت إذا حان الأجل، وقال اللهم إن أبقيت شيئا من عرب قريش فأبقني أجاهد من آذى رسولك، وإلا فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تقر عيني في قريظة، قال محمد بن اسحق كانت صفية بنت عبد المطلب في قارع حصن حسان بن ثابت وكان مع النساء والصبيان، قالت فمرّ بنا يهودي، فقلت يا حسان لعله يدل على عورتنا فدونك اقتله، قال لقد عرفت ما أنا لذلك، قالت فاعتمرت وأخذت عمودا فنزلت فقتلته، قالت فقلت يا حسان تعال فاسلبه لأنه رجل، قال مالي بسلبه حاجة، وذلك لشدة جبنه خشي أن يحيا أن يكون به رمق حياة فيقاومه، وما أشبه جبن حسان بجبن أبي دلامة إذ يقول:
وفي الهيجاء ما جرّبت نفسي | ولكن في الهزيمة كالغزال |
إذا صوت العصفور طار فؤاده | وليث شديد الناب عند الثرائد |
آل عمران المارة وقد حان الأجل المقدر لنصرة الرسول وإجابة طلبه وتنفيذ وعده فسخر نعيما المذكور بما ألقاه الله في قلبه ليقضي الله أمرا كان مفعولا، وقال يا رسول الله أسلمت وقومي لا يعلمون، فأمرني بما شئت، فقال صلّى الله عليه وسلم خذّل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة، فذهب إلى بني قريظة قال لهم تعرفون ودي لكم خاصة، قالوا لا نتهمك، قال ولكن اكتموا علي قولي، قالوا نعم، قال إن قريشا وغطفان الذين ظاهرتموهم على قتال محمد ليسوا كهيئتكم لأن البلد بلدكم فيه أموالكم ونساؤكم لا يمكنكم النحول منه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان إن لم يصيبوا شيئا لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين هذا الرجل ولا طاقة لكم به، فالرأي أن لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن من أشرافهم على أن يقاتلوا معكم حتى تناجزوا محمدا، قالوا رأي نافع، ثم تركهم وذهب ليلته إلى قريش فقال لهم قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمدا، وقد بلغني أمر رأيت أن أنصحكم به فاكتموا عليّ، قالوا نفعل، قال إن معشر يهود قريظة ندموا وأرسلوا إلى محمد بأنه هل يرضيك أن نأخذ رجالا من أشراف قريش وغطفان ونرسلهم لك، فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي، فرضي منهم ذلك، فاجمعوا أمركم وانظروا ما ترون، فقد أعذر من أنذر، وقد أديت ما علي لكم، ثم تركهم وذهب إلى غطفان وقال لهم أنتم أهلي وعشيرتي وأحب الناس إلي، قالوا صدقت، قال فاكتموا علي، قالوا نفعل، فقال لهم ما قال لقريش وحذرهم أن يبعثوا رهائن إلى اليهود، فلما أيقنوا ما أرشدهم إليه نعيم ونصحهم به بعث أبو سفيان ورءوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان يقولون لهم إنا لسنا بدار إقامة، وقد هلك الخف والحافر، فاستعدوا للقتال حتى نتاجز محمدا، فارسلوا إليهم أن اليوم سبت لا يعمل فيه شيء على أنا لا نقاتل محمدا بعده حتى تعطونا رهائن من كبار رجالكم لأننا نخشى ان فرستكم الحرب تسيروا لبلادكم وتتركونا، فرجع الرسل وأخبروا قومهم، فقالوا كلهم إن ما أخبر به نعيم لحق، فأرسلوا خبرا لبني قريظة انا لا نرسل لكم أحدا فإن كنتم تريدون القتال قاتلوا وإلا فانظروا ما ترون، فقال بنو قريظة بعضهم لبعض إن ما ذكره نعيم لصحيح وهو حق ونصح، وخذل
صفحة رقم 467
الله بينهم بما ألهم نعيما، وأرسل عليهم ريحا شديدة، وكانت الليالي شاتية باردة جدا، فجعلت تكفأ القدور وتطرح الأواني، وأرسل الله عليهم جنودا من جنوده تقيم القاعد وتقعد القائم فاختل نظامهم وتفرقت آراءهم، وأوقع الله في قلوبهم الرعب والحيرة، ولما بلغ رسول الله ما فعل نعيم وما وقع بينهم من التخاذل وسوء ظن بعضهم ببعض أرسل حذيفة بن اليمان ليأتيه بخبرهم وقال له لا تحدثن شيئا حتى ترجع إلي ودعى له، قال حذيفة فأخذت سهمي وانطلقت، فإذا الريح وجنود الله التي لم تر تفعل بهم فعلا عجيبا. فلا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا خباء، وإذا أبو سفيان قاعدا، ولولا وصية رسول الله لقتلته، وإذا هو قام فقال يا معشر قريش ليأخذ كل منكم بيد جليسه فلينظر من هو، فأخذت أنا بيد رجل، فقال لي من أنت قلت سبحان الله أما تعرفني؟ فسكت، فقال أبو سفيان يا قريش ما أصبحتم بدار إقامة وقد أخلفتنا بنو قريظة وهلك الخف والحافر وألقينا من هذه الريح ما ترون، فارتحلوا إني مرتحل، وقام وركب جمله وهو معقول فأطلق عقاله وهو راكب، فسمعت غطفان بما فعلت قريش ففعلت مثلها، وثاروا ثورة رجل واحد راجعين إلى بلادهم، فرجعت أبشّر رسول الله، فصار يضحك، وفشا خبرهم وأعز الله رسوله صلّى الله عليه وسلم وأخزى أعداءه.
مطلب لا يسمى ما وقع من حضرة الرسول وما في بعض آيات القرآن شعرا لفقد شروطه وقصة بني قريظة:
روي البخاري ومسلم عن أنس قال: خرج رسول الله إلى الخندق، فإذا المهاجرون والأنصار يحقرون في غداة باردة ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال:
اللهم إن العيش عيش الآخرة | فاغفر للأنصار والمهاجرة |
نحن الذين بايعوا محمدا | على الجهاد ما حيينا أبدا |
والله لولا الله ما اهتدينا | ولا تصدقنا ولا صلينا |