آيات من القرآن الكريم

وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا
ﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ

﴿وَأَنزلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (٢٧) ﴾.
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ لَمَّا قَدِمَتْ جُنُودُ الْأَحْزَابِ، وَنَزَلُوا عَلَى الْمَدِينَةَ، نَقَضُوا مَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَهْدِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِسِفَارَةِ حُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ النَّضَري -لَعَنَهُ اللَّهُ -دَخَلَ حِصْنَهُمْ، وَلَمْ يَزَلْ بِسَيِّدِهِمْ كَعْبِ بْنِ أَسَدٍ حَتَّى نَقَضَ الْعَهْدَ، وَقَالَ لَهُ فِيمَا قَالَ: وَيْحَكَ، قَدْ جِئْتُكَ بِعِزِّ الدَّهْرِ، أَتَيْتُكَ بِقُرَيْشٍ وَأَحَابِيشِهَا، وَغَطَفَانَ وَأَتْبَاعِهَا، وَلَا يَزَالُونَ هَاهُنَا حَتَّى يَسْتَأْصِلُوا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ. فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ: بَلْ وَاللَّهِ أَتَيْتَنِي بذُلِّ الدَّهْرِ. وَيْحَكَ يَا حيي، إنك مشؤوم، فَدَعْنَا (١) مِنْكَ. فَلَمْ يَزَلْ يَفْتِلُ فِي الذِّروة والغَارب حَتَّى أَجَابَهُ، وَاشْتَرَطَ لَهُ حُيي (٢) إِنْ ذَهَبَ الْأَحْزَابُ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَمْرِهِمْ شَيْءٌ، أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُمْ فِي الْحِصْنِ، فَيَكُونُ لَهُ (٣) أُسْوَتُهُمْ. فَلَمَّا نَقَضت قريظةُ، وَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَاءَهُ، وَشَقَّ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ جِدًّا، فَلَمَّا أَيَّدَ اللَّهُ ونَصَر، وَكَبَتَ الْأَعْدَاءَ وردَّهم خَائِبِينَ بِأَخْسَرِ صَفْقَةٍ، وَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا، وَوَضَعَ النَّاسُ السِّلَاحَ. فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْتَسِلُ (٤) مِنْ وَعْثَاءِ تِلْكَ الْمُرَابَطَةِ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ إِذْ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ مُعْتَجِرًا بِعِمَامَةٍ مِنْ إِسْتَبْرَقٍ، عَلَى بَغْلَةٍ عَلَيْهَا قَطِيفَةٌ [مِنْ] (٥) دِيبَاجٍ، فَقَالَ: أوضَعت السِّلَاحَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: لَكِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تَضَعْ أَسْلِحَتَهَا، وَهَذَا الْآنَ رُجُوعِي مِنْ طَلَبِ الْقَوْمِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَنْهَضَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ. وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ لَهُ: عذيرَك مِنْ مُقَاتِلٍ، أَوَضَعْتُمُ السِّلَاحَ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: لَكِنَّا لَمْ نَضَعْ أَسْلِحَتَنَا بَعْدُ، انْهَضْ إِلَى هَؤُلَاءِ. قَالَ: "أَيْنَ؟ ". قَالَ: بَنِي قُرَيْظَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُزَلْزِلَ عَلَيْهِمْ. فَنَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فَوْرِهِ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالْمَسِيرِ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَكَانَتْ عَلَى أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَقَالَ: "لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ". فَسَارَ النَّاسُ، فَأَدْرَكَتْهُمُ الصَّلَاةُ فِي الطَّرِيقِ، فَصَلَّى بَعْضُهُمْ فِي الطَّرِيقِ وَقَالُوا: لَمْ يُرِدْ مِنَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا تَعْجِيلَ السَّيْرِ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا نُصَلِّيهَا إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ. فَلَمْ يُعَنِّف وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ. وَتَبِعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدِ اسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَأَعْطَى الرَّايَةَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. ثُمَّ نَازَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَاصَرَهُمْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الْحَالُ، نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ -سَيِّدِ الْأَوْسِ -لِأَنَّهُمْ كَانُوا حُلَفَاءَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ يُحْسِنُ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، كَمَا فعل عبد الله بن أبي بن سَلُولَ فِي مَوَالِيهِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، حِينَ اسْتَطْلَقَهُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَظَنَّ هَؤُلَاءِ أَنَّ سَعْدًا سَيَفْعَلُ فِيهِمْ كَمَا فَعَلَ ابْنُ أُبَيٍّ فِي أُولَئِكَ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ سَعْدًا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَانَ قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ فِي أكحَله أَيَّامَ الْخَنْدَقِ، فَكَوَاهُ رسول الله ﷺ في أَكْحَلِهِ، وَأَنْزَلَهُ فِي قُبَّةٍ فِي الْمَسْجِدِ لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ. وَقَالَ سَعْدٌ فِيمَا دَعَا بِهِ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ أَبْقَيْتَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْئًا فَأَبْقِنِي لَهَا. وَإِنْ كُنْتَ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَافْجُرْهَا وَلَا تُمِتْنِي حَتَّى تُقرّ عَيْنِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ. فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ، وقَدّر عَلَيْهِمْ أَنْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ بِاخْتِيَارِهِمْ طَلَبًا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ اسْتَدْعَاهُ رسول الله ﷺ من المدينة ليحكم فيهم، فلما

(١) في ت: "دعنا".
(٢) في أ: "حتى".
(٣) في ت: "لهم".
(٤) في ت: "يغسل رأسه".
(٥) زيادة من ت، ف، أ.

صفحة رقم 397

أقبل وهو راكب [على حمار] (١) قد وطَّؤوا لَهُ عَلَيْهِ، جَعَلَ الْأَوْسُ يَلُوذُونَ بِهِ وَيَقُولُونَ: يَا سَعْدُ، إِنَّهُمْ مَوَالِيكَ، فَأَحْسِنْ فِيهِمْ. وَيُرَقِّقُونَهُ عَلَيْهِمْ وَيُعَطِّفُونَهُ، وَهُوَ سَاكِتٌ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِمْ. فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ قَالَ: لَقَدْ آنَ لِسَعْدٍ أَلَّا تَأْخُذَهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ. فَعَرَفُوا أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَبْقِيهِمْ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْخَيْمَةِ الَّتِي فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ". فَقَامَ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، فَأَنْزَلُوهُ إِعْظَامًا وَإِكْرَامًا وَاحْتِرَامًا لَهُ فِي مَحَلِّ وِلَايَتِهِ، لِيَكُونَ أَنْفَذَ لِحُكْمِهِ فِيهِمْ. فَلَمَّا جَلَسَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنْ هَؤُلَاءِ -وَأَشَارَ إِلَيْهِمْ -قَدْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ، فَاحْكُمْ فِيهِمْ بِمَا شِئْتَ". قَالَ: وَحُكْمِي نَافِذٌ عَلَيْهِمْ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: وَعَلَى مَنْ فِي هَذِهِ الْخَيْمَةِ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: وَعَلَى مَنْ هَاهُنَا. -وَأَشَارَ إِلَى الْجَانِبِ الَّذِي فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وَهُوَ مُعْرِضٌ بِوَجْهِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِجْلَالًا (٢) وَإِكْرَامًا وَإِعْظَامًا -فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَعَمْ". فَقَالَ: إِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتلتهم، وتُسبْى ذُرِّيَّتُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ حَكَمْتَ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ" (٣). وَفِي رِوَايَةٍ: "لَقَدْ حكمتَ بِحُكْمِ المَلك". ثُمَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَخَادِيدِ فَخُدّت فِي الْأَرْضِ، وَجِيءَ بِهِمْ مُكْتَفِينَ، فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ، وَكَانُوا مَا بَيْنَ السَّبْعِمِائَةِ إِلَى الثَّمَانِمِائَةِ، وَسَبَى مَنْ لَمْ يُنبت مِنْهُمْ مَعَ النِّسَاءِ وَأَمْوَالِهِمْ (٤)، وَهَذَا كُلُّهُ مُقَرِّرٌ مُفَصَّلٌ بِأَدِلَّتِهِ وَأَحَادِيثِهِ وَبَسْطِهِ فِي كِتَابِ السِّيرَةِ، الَّذِي أَفْرَدْنَاهُ مُوجَزًا ومقتصَّا (٥). وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَنزلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ﴾ أَيْ: عَاوَنُوا الْأَحْزَابَ وَسَاعَدُوهُمْ عَلَى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ يَعْنِي: بَنِي قُرَيْظَةَ مِنَ الْيَهُودِ، مِنْ بَعْضِ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَانَ قَدْ نَزَلَ آبَاؤُهُمُ الْحِجَازَ قَدِيمًا، طَمَعًا فِي اتِّبَاعِ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِه﴾ [الْبَقَرَةِ: ٨٩]، فَعَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿مِنْ صَيَاصِيهِم﴾ يَعْنِي: حُصُونُهُمْ. كَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وعِكْرِمة، وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ، والسُّدِّي، وَغَيْرُهُمْ (٦) وَمِنْهُ سُمِّيَتْ صَيَاصِي الْبَقَرِ، وَهِيَ قُرُونُهَا؛ لِأَنَّهَا أَعْلَى شَيْءٍ فِيهَا.
﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾ : وَهُوَ الْخَوْفُ؛ لأنهم كانوا مالؤوا الْمُشْرِكِينَ عَلَى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ (٧) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ مَنْ يَعْلَمُ كَمَنْ لَا يَعْلَمُ، فَأَخَافُوا الْمُسْلِمِينَ وَرَامُوا قَتْلَهُمْ ليَعزّوا (٨) فِي الدنيا، فانعكس

(١) زيادة من ت، ف، والبداية والنهاية.
(٢) في ت: "إجلالا له".
(٣) رواه ابن إسحاق في السيرة كما في البداية والنهاية (٤/١٢٣) من طريق عاصم بن عمر، عن عبد الرحمن بن عمر، عن علقمة بن وَقَّاصٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فذكره، وأظن في السند خطأ. ورواه ابن سعد في الطبقات (٣/٤٢٦) من طريق محمد بن صالح التمار، عن سعد بن إبراهيم، عن عامر بن سعد، عن أبيه سعد بن أبي وقاص مرفوعا بلفظ: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات"، وأصله في صحيح البخاري من دون قوله: "فوق سبع سموات" برقم (٣٠٤٣) من حديث أبي سعيد الخدري.
(٤) السيرة النبوية لابن هشام (٢/٢٣٩).
(٥) في ت، ف، أ: "وبسيطا".
(٦) في ت: "كذا قال مجاهد وغير واحد من السلف" وفي أ: "كذا قال مجاهد وغيرهم من السلف".
(٧) في ف: "النبي".
(٨) في ت، ف، أ: "ليغزوهم".

صفحة رقم 398

عَلَيْهِمُ الْحَالُ، وَانْقَلَبَ الْفَالُ (١)، انْشَمَرَ (٢) الْمُشْرِكُونَ فَفَازُوا بِصَفْقَةِ الْمَغْبُونِ، فَكَمَا رَامُوا الْعِزَّ ذُلُّوا (٣)، وَأَرَادُوا اسْتِئْصَالَ الْمُسْلِمِينَ فَاسْتُؤْصِلُوا، وَأُضِيفَ إِلَى ذَلِكَ شَقَاوَةُ الْآخِرَةِ، فَصَارَتِ الْجُمْلَةُ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الصَّفْقَةُ الْخَاسِرَةُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا﴾ (٤)، فَالَّذِينَ قُتِلُوا هُمُ الْمُقَاتِلَةُ، وَالْأُسَرَاءُ هُمُ الْأَصَاغِرُ وَالنِّسَاءُ.
قَالَ (٥) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هُشَيْم بْنُ بَشِيرٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ عَطِيَّةَ الْقُرَظِيِّ قَالَ: عُرضتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ قُرَيْظَةَ فَشَكُّوا فيَّ، فَأَمَرَ بِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْظُرُوا: هَلْ أَنْبُتُ بَعْدُ؟ فَنَظَرُوا فَلَمْ يَجِدُونِي أَنْبُتُ، فَخَلَّى عَنِّي وَأَلْحَقَنِي بِالسَّبْيِ.
وَكَذَا رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ كُلُّهُمْ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، بِهِ (٦). وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: "حَسَنٌ صَحِيحٌ". وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْج، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، بِنَحْوِهِ (٧).
وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ﴾ أَيْ: جَعَلَهَا لَكُمْ مِنْ قتلكم (٨) لهم ﴿وَأَرْضًا لَمْ تَطَؤوهَا﴾ قِيلَ: خَيْبَرُ. وَقِيلَ: مَكَّةُ. رَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ. وَقِيلَ: فَارِسُ وَالرُّومُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ مُرَادًا.
﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾ : قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ قَالَ: أَخْبَرَتْنِي (٩) عَائِشَةُ قَالَتْ: خَرَجْتُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ أَقْفُو النَّاسَ، فَسَمِعْتُ وَئِيدَ الْأَرْضِ وَرَائِي، فَإِذَا أَنَا بِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَمَعَهُ ابْنُ أَخِيهِ الْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ يَحْمِلُ مجَنَّه، قَالَتْ: فَجَلَسْتُ إِلَى الْأَرْضِ، فَمَرَّ سَعْدٌ وَعَلَيْهِ دِرْع مِنْ حَدِيدٍ قَدْ خَرَجَتْ مِنْهُ أَطْرَافُهُ، فَأَنَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أَطْرَافِ سَعْدٍ، قَالَتْ: وَكَانَ سَعْدٌ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ وَأَطْوَلِهِمْ، فَمَرَّ وَهُوَ يَرْتَجِزُ (١٠) وَيَقُولُ:
لَبَّثْ قَلِيلًا يَشْهدُ الهَيْجَا حَمَلْ... مَا أحْسَنَ الموتَ إِذَا حَانَ الأجَلْ...
قَالَتْ: فَقُمْتُ فَاقْتَحَمْتُ حَدِيقَةً، فَإِذَا فِيهَا نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا فِيهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ تَسْبغَة (١١) لَهُ -تَعْنِي الْمِغْفَرَ -فَقَالَ عُمَرُ: مَا جَاءَ بِكِ؟ لَعَمْرِي وَاللَّهِ إِنَّكِ لِجَرِيئَةٌ (١٢)، وَمَا يؤمنُك أَنْ يَكُونَ بَلَاءٌ أَوْ يَكُونَ تَحَوّز. قَالَتْ: فَمَا زَالَ يَلُومُنِي حَتَّى تَمَنَّيْتُ أن الأرض انشقت بي (١٣)

(١) في ت، أ: "وانقلب عليهم الفال".
(٢) في أ: "اشمر".
(٣) في ت: "فلما راموا العز أذلوا".
(٤) في ت:"يقتلون ويأسرون".
(٥) في ت: "روى".
(٦) المسند (٥/٣١١) وسنن أبي داود برقم (٤٤٠٤) وسنن الترمذي برقم (١٥٨٤) وسنن النسائي (٨/٩٢) وسنن ابن ماجه برقم (٢٥٤٢).
(٧) النسائي في السنن الكبرى برقم (٨٦١٩).
(٨) في ت، ف: "قبلكم".
(٩) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده عن".
(١٠) في ت: "يرتجل".
(١١) في ت: "مشيقة" وفي ف: "نشيقة".
(١٢) في ت: "محدبة".
(١٣) في ت، ف: "لي".

صفحة رقم 399

سَاعَتَئِذٍ، فَدَخَلْتُ فِيهَا، فَرَفَعَ الرَّجُلُ التَّسْبِغَةَ (١) عَنْ وَجْهِهِ، فَإِذَا هُوَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ فَقَالَ: يَا عُمَرُ، وَيْحَكَ، إِنَّكَ قَدْ أَكْثَرْتَ مُنْذُ الْيَوْمِ، وَأَيْنَ التَحَوُّز أَوِ الْفِرَارُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ قَالَتْ: وَيَرْمِي سَعْدًا رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، يُقَالُ لَهُ ابْنُ العَرقة بِسَهْمٍ (٢)، وَقَالَ لَهُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ العَرقة فأصابَ أكْحَلَه فَقَطَعَهُ، فَدَعَا اللَّهَ سَعْدٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ، لَا تُمِتْنِي حَتَّى تُقر عَيْنِي مِنْ قُرَيْظَةَ. قَالَتْ: وَكَانُوا حُلَفَاءَهُ وَمَوَالِيَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَتْ: فَرَقَأَ كَلْمُه، وَبَعَثَ اللَّهُ الرِّيحَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ، وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا. فَلَحِقَ أَبُو سُفْيَانَ ومَنْ مَعَهُ بِتِهَامَةَ، وَلَحِقَ عُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ ومَنْ مَعَهُ بِنَجْدٍ، وَرَجَعَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ فَتَحَصَّنُوا فِي صَيَاصِيهِمْ، وَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الْمَدِينَةِ وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ فَضُرِبَتْ عَلَى سَعْدٍ فِي الْمَسْجِدِ، قَالَتْ: فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنَّ عَلَى ثَنَايَاهُ لَنَقْعُ الْغُبَارِ، فَقَالَ: أو قد وَضَعْتَ السِّلَاحَ؟ لَا وَاللَّهِ مَا وَضَعَتِ الْمَلَائِكَةُ بَعْدُ السِّلَاحَ، اخْرُجْ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَقَاتِلْهُمْ. قَالَتْ: فَلَبِسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأْمَتَهُ، وَأَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالرَّحِيلِ أَنْ يَخْرُجُوا، [فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (٣) فَمَرَّ عَلَى بَنِي غَنْم (٤) وَهُمْ جِيرَانُ الْمَسْجِدِ حَوْلَهُ فَقَالَ: ومَنْ مَرَّ بِكُمْ؟ قَالُوا: مَرَّ بِنَا دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ -وَكَانَ دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ تُشْبِهُ لِحْيَتُهُ، وَسِنُّهُ وَوَجْهُهُ جِبْرِيلَ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَاصَرَهُمْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، فَلَمَّا اشْتَدَّ حِصَارُهُمْ وَاشْتَدَّ الْبَلَاءُ قِيلَ لَهُمْ: انْزِلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَاسْتَشَارُوا أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ الذَّبْحُ. قَالُوا: نَنْزِلُ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ [فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "انْزِلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ". فَنَزَلُوا وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ] (٥) فَأُتِيَ بِهِ عَلَى حِمَارٍ عَلَيْهِ إِكَافٌ مِنْ لِيفٍ قَدْ حُمِل عَلَيْهِ، وحَفّ بِهِ قَوْمُهُ، فَقَالُوا: يَا أَبَا عَمْرٍو، حُلَفَاؤُكَ وَمُوَالِيكَ وَأَهْلُ النِّكَايَةِ، ومَنْ قَدْ عَلِمْتَ، قَالَتْ: وَلَا يَرْجعُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ، حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْ دُورِهِمُ الْتَفَتَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: قَدْ آنَ لِي أَلَّا أُبَالِيَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ. قَالَ (٦) : قَالَ أَبُو سَعِيدٍ (٧) : فَلَمَّا طَلَعَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ فَأَنْزِلُوهُ". فَقَالَ عُمَرُ: سَيِّدُنَا اللَّهُ. قَالَ: "أَنْزِلُوهُ". فَأَنْزَلُوهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "احْكُمْ فِيهِمْ". قَالَ سَعْدٌ: فَإِنِّي أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ تَقْتُلَ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَتَسْبَيَ ذَرَارِيَهُمْ، وَتَقْسِمَ أَمْوَالَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ". ثُمَّ دَعَا سَعْدٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ، إِنْ كُنْتَ أبقيتَ عَلَى نَبِيِّكَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْئًا، فَأَبْقِنِي لَهَا. وَإِنْ كُنْتَ قَطَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ. قَالَ: فَانْفَجَرَ كَلْمُه، وَكَانَ قَدْ بَرِئَ مِنْهُ إِلَّا مِثْلَ الخُرْص، وَرَجَعَ إِلَى قُبَّتِهِ الَّتِي ضَرَبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَحَضَره رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ قَالَتْ: فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنِّي لِأَعْرِفُ بُكَاءَ أَبِي بَكْرٍ مِنْ بُكَاءِ عُمَرَ، وَأَنَا فِي حُجْرَتِي. وَكَانُوا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿رُحَمَاءُ بَيْنَهُم﴾.
قَالَ عَلْقَمَةُ: فَقُلْتُ: أيْ أُمَّهْ، فَكَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ؟ قَالَتْ: كَانَتْ عَيْنُهُ لَا تَدْمَعُ عَلَى أَحَدٍ، وَلَكِنَّهُ كَانَ إِذَا وَجِدَ فَإِنَّمَا هُوَ آخذ بلحيته (٨).

(١) في ف: "النشيقة".
(٢) في ت، ف: "بسهم له".
(٣) زيادة من ت، ف، أ، والمسند.
(٤) في ت، ف: "تميم".
(٥) زيادة من ت، ف، أ، والمسند.
(٦) في ت، ف، أ: "قالت".
(٧) في أ: "أبو سعد".
(٨) المسند (٦/١٤١).

صفحة رقم 400
تفسير القرآن العظيم
عرض الكتاب
المؤلف
أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي
تحقيق
سامي سلامة
الناشر
دار طيبة للنشر والتوزيع
سنة النشر
1420
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
8
التصنيف
كتب التفسير
اللغة
العربية