
عباس «لو أنهم بدوا»، وقرأ أهل مكة ونافع وابن كثير والحسن «يسألون» أي من ورد عليهم، وقرأ أبو عمرو وعاصم والأعمش «يسلون» خفيفة بغير همز على نحو قوله سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ [البقرة: ٢١١] وقرأ الجحدري وقتادة والحسن بخلاف عنه «يساءلون» أي يسأل بعضهم بعضا. قال الجحدري «يتساءلون»، ثم سلى الله تعالى عنهم وحقر شأنهم بأن أخبر أنهم لو حضروا لما أغنوا ولما «قاتلوا إلا قتالا قليلا» لا نفع له، قال الثعلبي هو قليل من حيث هو رياء من غير حسبة ولو كان لله لكان كثيرا، ثم أخبر تعالى على جهة الموعظة بأن كل مسلم ومدع في الإسلام لقد كان يجب أن يقتدي بمحمد عليه السلام حين قاتل وصبر وجاد بنفسه. وقرأ جمهور الناس «إسوة» بكسر الهمزة، وقرأ عاصم وحده «أسوة» بضم الهمزة وهما لغتان معناه قدوة، وتأسى الرجل إذا اقتدى، ورجاء الله تعالى تابع للمعرفة به، ورجاء اليوم الآخر ثمرة العمل الصالح، وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً من خير الأعمال، فنبه عليه، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «يحسبون الأحزاب قد ذهبوا فإذا وجدوهم لم يذهبوا ودوا لو أنهم بادون في الأعراب».
قوله عز وجل:
[سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٢٢ الى ٢٤]
وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤)
وصف الله تعالى المؤمنين حين رأوا تجمع الأحزاب لحربهم وصبرهم على الشدة وتصديقهم وعد الله تعالى على لسان نبيه، واختلف في مراد المؤمنين بوعد الله ورسوله لهم، فقالت فرقة: أرادوا ما أعلمهم به رسول الله ﷺ حين أمر بحفر الخندق فإنه أعلمهم بأنهم سيحصرون وأمرهم بالاستعداد لذلك وأعلمهم بأنهم سينصرون من بعد ذلك، فلما رأوا الأحزاب قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فسلموا لأول الأمر وانتظروا آخره، وقالت فرقة: أرادوا بوعد الله ما نزل في سورة البقرة من قوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة: ٢١٤].
قال الفقيه الإمام القاضي: ويحتمل أن يكون المؤمنون نظروا في هذه الآية، وفي قول رسول الله ﷺ عند أمرهم بحفر الخندق، وأشاروا بالوعد إلى جميع ذلك، وهي مقالتان إحداهما من الله والأخرى من رسوله، وزيادة الإيمان هي في أوصافه لا في ذاته لأن ثبوته وإبعاد الشكوك عنه والشبه زيادة في أوصافه، ويحتمل أن يريد إيمانهم بما وقع وبما أخبر به رسول الله ﷺ مما لم يقع فتكون الزيادة في هذا الوجه فيمن يؤمن به لا في نفس الإيمان، وقرأ ابن أبي عبلة «وما زادوهم» بواو جمع، و «التسليم» الانقياد لأمر الله تعالى كيف جاء، ومن ذلك ما ذكرناه من أن المؤمنين قالوا لرسول الله ﷺ عند اشتداد ذلك الخوف: يا رسول الله إن هذا أمر عظيم فهل من شيء نقوله؟ فقال:

«قولوا: اللهم استر عوراتنا وأمن روعاتنا»، فقالها المسلمون في تلك الضيقات. ثم أثنى الله على رجال من المؤمنين عاهدوا الله تعالى على الاستقامة التامة فوفوا وقضوا نحبهم، أي نذرهم وعهدهم، و «النحب» في كلام العرب النذر، والشيء الذي يلتزمه الإنسان، ويعتقد الوفاء به، ومنه قول الشاعر: «قضى نحبه في ملتقى القوم هوبر»، المعنى أنه التزم الصبر إلى موت أو فتح فمات ومن ذلك قول جرير: [الطويل]
بطخفة جالدنا الملوك وخيلنا | عشية بسطام جرين على نحب |
قال القاضي أبو محمد: فهذا أدل دليل على أن النحب ليس من شروطه الموت، وقال معاوية بن أبي سفيان: إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «طلحة ممن قضى نحبه»، وروت هذا المعنى عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ يريد ومنهم من ينتظر الحصول في أعلى مراتب الإيمان والصلاح وهو بسبيل ذلك وَما بَدَّلُوا وما غيروا، ثم أكد بالمصدر، وقرأ ابن عباس على منبر البصرة «ومنهم من بدل تبديلا»، رواه عنه أبو نصرة، وروى عنه عمرو بن دينار «ومنهم من ينتظر وآخرون بدلوا تبديلا»، واللام في قوله تعالى: لِيَجْزِيَ لام الصيرورة والعاقبة، ويحتمل أن تكون لام كي، وتعذيب المنافقين ثمرة إدامتهم الإقامة على النفاق إلى موتهم والتوبة موازية لتلك الإدامة وثمرة التوبة تركهم دون عذاب فهما درجتان: إقامة على نفاق، أو توبة منه، وعنهما ثمرتان تعذيب، أو رحمة، فذكر تعالى على جهة الإيجاز واحدة من هاتين، وواحدة من هاتين، ودل ما ذكر على ما ترك ذكره ويدلك على أن معنى قوله «ليعذب» ليديم على النفاق قوله إِنْ شاءَ ومعادلته بالتوبة وبحرف أَوْ ولا يجوز أحد أن إِنْ شاءَ يصح في تعذيب منافق على نفاقه بل قد حتم الله على نفسه بتعذيبه. صفحة رقم 378