
شرح الكلمات:
اذكروا نعمة الله عليكم: أي اذكروا نعمة الله أي دفاعنا عنكم لتشكروا ذلك.
جنود: أي جنود المشركين المتحزبين.
ريحا وجنوداً لم تروها: هي جنود الملائكة والريح ريح الصبا وهي التي تهب من شرق.
بما تعملون بصيراً: أي بصيراً بأعمالكم من حفر الخندق والاستعدادات للمعركة.
إذ جاءوكم من فوقكم: أي بنو أسد وغطفان أتوا من قبل نجد من شرق المدينة.
ومن أسفل منكم: أي من غرب وهم قريش وكنانة.
وإذ زاغت الأبصار: أي مالت عن كل شيء إلا عن العدو تنظر إليه من شدة الفزع.
وبلغت القلوب الحناجر: أي منتهى الحلقوم من شدة الخوف.
وتظنون بالله الظنون (١) : أي المختلفة من نصر وهزيمة، ونجاة وهلاك.
هنالك ابتلي المؤمنون: أي ثم في الخندق وساحة المعركة أختبر المؤمنون.
وزلزلوا زلزالاً شديداً: أي حركوا حراكاً قويا من شدة الفزع.
والذين في قلوبهم مرض: أي شيء من النفاق لضعف عقيدتهم.
ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا: أي ما وعدنا من النصر ما هو إلا غروراً وباطلا.
يا أهل يثرب لا مقام لكم: أي يا أهل المدينة لا مقام لكم حول الخندق فارجعوا إلى دياركم.
إن بيوتنا عورة: أي غير حصينة.
إن يريدون إلا فرارا: أي من القتال إذ بيوتهم حصينة.
ولو دخلت عليهم: أي المدينة أي دخلها العدو الغازي.
ثم سئلوا الفتنة: أي ثم طلب إليهم الردة إلى الشرك لآتوها أي أعطوها وفعلوها.
وما تلبثوا بها إلا يسيرا: أي ما تريثوا ولا تمهلوا بل أسرعوا الإجابة وارتدوا.

معنى الآيات:
قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ (١) جُنُودٌ﴾ الآيات هذه قصة غزوة (٢) الخندق أو الأحزاب قصها تبارك وتعالى على المؤمنين في معرض التذكير بنعمه تعالى عليهم ليشكروا بالانقياد والطاعة لله ورسوله وقبول كل ما يشرع لهم لإكمالهم وإسعادهم في الحياتين فقال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي يا من آمنتم بالله ربا وإلهاً وبمحمد نبياً ورسولاً وبالإسلام دينياً وشرعاً ﴿اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ﴾ المتمثلة في دفع أكبر خطر قد حاق بكم وهو اجتماع جيوش عدة على غزوكم في عقر داركم وهم جيوش قريش وأسد وغطفان وبنو قريظة من اليهود ألبهم عليهم وحزّب أحزابهم حيي بن أخطب النضري يريد الانتقام من الرسول والمؤمنين إذ أجلوهم عن المدينة وأخرجوهم منها فالتحقوا بيهود خيبر وتيما، ولما بلغ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبرهم أمر (٣) بحفر الخندق تحت سفح جبل سلع غربي المدينة، وذلك بإشارة سلمان الفارسي رضي الله عنه إذ كانت له خبرة حربية علمها من ديار قومه فارس.
وتم حفر الخندق في خلال شهر من الزمن وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعطي لكل عشرة أنفار أربعين ذراعاً أي عشرين متراً، وما إن فرغوا من حفره حتى نزلت جيوش المشركين وكانوا قرابة اثني عشر ألفاً ولما رأوا الرسول والمسلمين وراء الخندق تحت جبل سلع قالوا هذه مكيدة لم تكن العرب تعرفها فتناوشوا بالنبال ورمى عمرو عبد ود القرشي بفرسه في الخندق فقتله علي رضي الله عنه ودام الحصار والمناوشة وكانت الأيام والليالي باردة والمجاعة ضاربة أطنابها قرابة الشهر. وتفصيل الأحداث للقصة فيما ذكره تعالى فيما يلي:
فقوله تعالى ﴿إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ﴾ هي جنود المشركين من قريش ومن بني أسد وغطفان ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا﴾ لما (٤) جاءتكم جنود المشركين وحاصروكم في
٢ - اختلف في السنة التي كان فيها غزوة الأحزاب فقال قوم كانت سنة خمس وقال آخرون كانت سنة أربع وكانت في شوال، وسميت بغزوة الأحزاب لتحزب المشركين على قتال الرسول والمؤمنين فصاروا حزباً واحداً.
٣ - روى البخاري ومسلم عن البراء بن عازب قال لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني الغبار جلدة بطنه وكان كثير الشعر فرأيته يرتجز بكلمات ابن رواحة يقول:
اللهم لولا أنت ما هدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا
وثبت الأقدام إن لاقينا
٤ - هي جنود الملائكة الذين كانوا يلقون الرعب في قلوب المشركين حتى تخاذلوا وقرروا العودة إلى بلادهم.

سفح السلع أرسلنا عليهم ريحاً وهي ريح الصبا المباركة التي قال فيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نصرت بالصبا (١) وأهلكت عاد بالدبور وهي الريح الغربية. وفعلت بهم الصبا الأفاعيل حيث لم تبق لهم ناراً إلا أطفأتها ولا قدراً على الأثافي إلا أراقته، ولا خيمة ولا فسطاطاً إلا أسقطته وأزالته حتى اضطروا إلى الرحيل وقوله ﴿وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا﴾ وهم الملائكة فأصابتهم بالفزع والرعب الأمر الذي أفقدهم كل رشدهم وصوابهم ورجعوا يجرون أذيال الخيبة والحمد لله وقوله تعالى ﴿وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً﴾ أي بكل أعمالكم من حفر الخندق والمشادات والمناورات وما قاله وعمله المنافقون لم يغب عليه تعالى شيء وسيجزيكم به المحسن بالإحسان والمسيء بالإساءة.
وقوله تعالى: ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ﴾ أي المشركون ﴿مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ أي من الشرق وهم غطفان بقيادة عيينة بن حصن وأسد ﴿وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ﴾ وهم قريش وكنانة أي من الجنوب الغربي وهذا تحديد لساحة المعركة، وقوله ﴿وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ﴾ أي مالت عن كل شيء فلم تبق تنظر إلا إلى القوات الغازية من شدة الخوف، ﴿وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾ أي ارتفعت بارتفاع الرئتين فبلغت منتهى الحلقوم (٢). وقوله ﴿وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَ﴾ المختلفة من نصر وهزيمة وسلامة وعطب، وهذا تصوير للحال أبدع تصوير وهو كما ذكر تعالى حرفيّا.
وقوله تعالى ﴿هُنَالِكَ﴾ أي في ذلك المكان والزمان الذي حدق العدو بكم ﴿ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ أي اختبرهم ربهم ليرى الثابت على إيمانه الذي لا تزعزعه الشدائد والفتن من السريع الانهزام والتحول لضعف عقيدته وقلة عزمه وصبره. وقوله تعالى ﴿وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً﴾ أي أُزعجوا وحرّكوا حراكا شديداً لعوامل قوة العدو وكثرة جنوده، وضعف المؤمنين وقلة عددهم، وعامل المجاعة والحصار، والبرد الشديد وما أظهره المنافقون من تخاذل وما كشفت عنه الحال من نقض بني قريظة عهدهم وانضمامهم إلى الأحزاب وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُون (٣) َ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ أي النفاق لضعف إيمانهم
٢ - وقيل هذا من باب المبالغة على إضمار كادت أي ارتفعت من أماكنها لشدة الخوف حتى كادت تبلغ الحناجر جمع حنجرة، قال الشاعر:
إذا ما غضبنا غضبة مضرية
هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
أي كادت تقطر، والحنجرة والحنجور حرف الحلق أي طرفه.
٣ - من بين القائلين طعمة بن أبيرق ومعتب بن قشير وجماعة قالوا يوم الخندق كيف يعدنا كنوز كسرى وقيصر ولا يستطيع أحد منا أن يتبرز.

﴿مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ﴾ أي من النصر ﴿إِلَّا غُرُوراً﴾ أي باطلا: وذلك أنهم لما كانوا يحفرون الخندق واستعصت عليهم صخرة فأبت أن تنكسر فدعي لها الرسول صلى لله عليه وسلم فضربها بالمعول ضربة (١) تصدعت لها وبرق منها بريقٌ أضاء الساحة كلها فكبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكبر المسلمون، ثم ضربها ثانية فصدعها وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتي المدينة فكبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تكبير الفتح وكبر المسلمون وضرب ثالثة فكسرها وبرقت لها برقة كسابقتيها وكبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكبر المسلمون ثم أخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيد سلمان فرقى من الخندق فقال سلمان بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئاً ما رأيته قط فالتفت رسول الله إلى القوم فقال هل رأيتم ما رأى سلمان؟ قالوا نعم يا رسول الله فأعلمهم أنه على ضوء ذلك البريق رأى قصور مدائن كسرى كأنياب الكلاب وإن جبريل أخبرني أن أمتي ظاهرة عليها كما رأيت في الضربة الثانية القصور الحمراء من أرض الروم وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ورأيت في الثالثة قصور صنعاء وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا أبشروا أبشروا فاستبشر المسلمون وقالوا الحمد لله موعود صدق. فلما طال الحصار واشتدت الأزمة واستبد الخوف بالرجال قال المنافقون وضعفاء الإيمان ﴿مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً﴾ إذ قال معتب (٢) بن قشير يعدنا محمد بفتح فارس والروم وأحدنا لا يقدر أن يتبرز فرقاً وخوفاً ما هذا الوعد إلا وعد غرور!!
وقوله ﴿وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ (٣) ﴾ أي من المنافقين؛ وهو أُويس بن قيظي أحد رؤساء المنافقين ﴿يَا أَهْلَ يَثْرِبَ (٤) ﴾ أي المدينة قبل أن يبطل الرسول هذا الاسم لها ويسميها بالمدينة ﴿لا مُقَامَ لَكُمْ﴾ أي في سفح سلع عند الخندق ﴿فَارْجِعُوا﴾ إلى منازلكم داخل المدينة بحجة أنه لا فائدة في البقاء هنا دون قتال، وما قال ذلك إلا فراراً من القتال وهروباً من المواجهة، وقوله تعالى ﴿وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ﴾ أي يطلبون الإذن بالعودة إلى منازلهم بالمدينة بدعوى أن بيوتهم عورة أي مكشوفة أمام العدو وهم لا يأمنون عليها
٢ - لفظ الطائفة يطلق على الواحد فأكثر والمعنى أوس بن قيظي والد عرابة بن أوس الذي يقول فيه لشماخ:
إذا ما راية رفعت لمجد
تلقاها عرابة باليمين
٣ - يثرب هي المدينة وسماها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طيبة وطابة قال السهيلي سمى العرب في الجاهلية المدينة يثرب، لأن الذي نزلها من العماليق اسمه يثرب بن عميل بن قهلائيل بن عوض بن عملاق بن لاوذ بن آم.
٤ - قرأ نافع والجمهور لا مقام بفتح الميم وهو اسم لمكان القيام، وقرأ حفص بضم الميم المقام وهو اسم لمحل الإقامة.

وأكذبهم الله تعالى في قولهم فقال ﴿وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً﴾ أي ما يريدون بهذا الاعتذار إلا الفرار من وجه العدو، وقال تعالى فيهم ومن أصدق من الله قيلاً: ﴿وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ﴾ المدينة ﴿مِنْ أَقْطَارِهَا﴾ أي من جميع نواحيها من شرق وغرب وشمال وجنوب (١) ﴿ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ﴾ أي طلب منهم العدو الغازي الذي حل عليهم المدينة الردة أي العودة إلى الشرك ﴿لَآتَوْهَا﴾ أعطوها فوراً ﴿وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرا﴾ حتى يرتدوا عن الإسلام ويصبحوا كما كانوا مشركين والعياذ بالله من النفاق والمنافقين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- مشروعية التذكير بالنعم ليشكرها المذكَّرون بها فتزداد طاعتهم لله ورسوله.
٢- عرض غزوة الأحزاب أو الخندق عرضاً صادقاً لا أمثل منه في عرض الأحداث للعبرة.
٣- بيان أن غزوة الخندق كانت من أشد الغزوات وأكثرها ألماً وتعباً على المسلمين.
٤- بيان أن حسن الظن بالله ممدوح، وأن سوء الظن به تعالى كفر ونفاق.
٥- بيان مواقف المنافقين الداعية إلى الهزيمة ليكون ذلك درساً للمؤمنين.
٦- تقرير النبوة المحمدية بإخبار الغيب التي أخبر بها رسول الله فكانت كما أخبر من فتح فارس والروم واليمن.
وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُولاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً (١٦)
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ