
وَقَرَأَ نَافِعٌ فِي أُذُنَيْهِ بِسُكُونِ الذَّالِ لِلتَّخْفِيفِ لِأَجْلِ ثِقَلِ الْمُثَنَّى، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الذَّالِ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَدْ تَرَتَّبَ عَلَى هَذِهِ الْأَعْمَالِ الَّتِي وُصِفَ بِهَا أَنْ أَمْرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُوعِدَهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. وَإِطْلَاقُ الْبِشَارَةِ هُنَا اسْتِعَارَةٌ تَهَكُّمِيَّةٌ، كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومَ:
فَعَجَّلْنَا الْقِرَى أَنْ تَشْتُمُونَا وَقَدْ عُذِّبَ النَّضْرُ بِالسَّيْفِ إِذْ قُتِلَ صَبْرًا يَوْمَ بَدْرٍ، فَذَلِكَ عَذَابُ الدُّنْيَا، وَعَذَابُ الْآخِرَة أَشد.
[٨- ٩]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : الْآيَات ٨ إِلَى ٩]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩)
لَمَّا ذَكَرَ عَذَابَ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَتْبَعَ بِبِشَارَةِ الْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ وَصِفُوا بِأَنَّهُمْ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ إِلَى قَوْلِهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [لُقْمَان: ٥].
وَانْتَصَبَ وَعْدَ اللَّهِ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ النَّائِبِ عَنْ فِعْلِهِ، وَانْتَصَبَ حَقًّا عَلَى الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ لِمَعْنَى عَامِلِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ سُورَةِ يُونُسَ. وَإِجْرَاءُ الِاسْمَيْنِ الْجَلِيلَيْنِ عَلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ لِتَحْقِيقِ وَعْدِهِ لِأَنَّهُ لِعِزَّتِهِ لَا يُعْجِزُهُ الْوَفَاءُ بِمَا وَعَدَ، ولحكمته لَا يخطىء وَلَا يَذْهَلُ عَمَّا وَعَدَ، فَمَوْقِعُ جُمْلَةِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ مَوْقِعُ التذييل بالأعم.
[١٠- ١١]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : الْآيَات ١٠ إِلَى ١١]
خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١)
اسْتِئْنَافٌ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى الَّذِينَ دَأْبُهُمُ الْإِعْرَاضُ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ الْمَخْلُوقَاتِ فَلَا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُ أَنْ تُثْبَتَ لَهُ الْإِلَهِيَّةُ فَكَانَ ادِّعَاءُ الْإِلَهِيَّةِ لِغَيْرِ اللَّهِ

هُوَ الْعِلَّةُ لِلْإِعْرَاضِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ، فَهُمْ لَمَّا أَثْبَتُوا الْإِلَهِيَّةَ لِمَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا كَانُوا كَمَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْأَصْنَام مماثلة الله تَعَالَى فِي أَوْصَافه فَذَلِك يَقْتَضِي انْتِفَاءُ وَصْفِ الْحِكْمَةِ عَنْهُ كَمَا هُوَ مُنْتَفٍ عَنْهَا. وَلِذَا فَإِنَّ مَوْقِعَ هَذِهِ الْآيَاتِ مُوقِعُ دَلِيلِ الدَّلِيلِ، وَهُوَ الْمَقَامُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي عِلْمِ الِاسْتِدْلَالِ بِالتَّدْقِيقِ، وَهُوَ ذِكْرُ الشَّيْءِ بِدَلِيلِهِ وَدَلِيلِ دَلِيلِهِ، فَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ تَرَوْنَها وبِكُمْ لِلْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٢] قَوْلُهُ: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّحْلِ [١٥] قَوْلُهُ وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَالْمَعْنَى خَوَفَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أَوْ لِئَلَّا تُمِيدَكُمْ كَمَا بَيَّنَ هُنَالِكَ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤] قَوْلُهُ: وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ.
وَقَوْلُهُ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤] وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [١٧] أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ.
وَالِالْتِفَاتُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ وَأَنْزَلْنا لِلِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي هِيَ أَكْثَرُ دَوَرَانًا عِنْدَ النَّاسِ. وَضَمِيرُ فِيها عَائِدٌ إِلَى الْأَرْضِ.
وَالزَّوْجُ: الصِّنْفُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى فِي طه [٥٣] وَقَوْلِهِ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [٥].
وَالْكَرِيمُ: النَّفِيسُ فِي نَوْعِهِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٢٩].
وَقَدْ أُدْمِجَ فِي أَثْنَاءِ دَلَائِلِ صِفَةِ الْحِكْمَةِ الِامْتِنَانُ بِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَنَافِعٍ لِلْخَلْقِ بِقَوْلِهِ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ فَإِنَّ مِنَ الدَّوَابِّ الْمَبْثُوثَةِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ مَنْ أَكْلِ لُحُومِ أَوَانِسِهَا وَوُحُوشِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِأَلْبَانِهَا وَأَصْوَافِهَا وَجُلُودِهَا وَقُرُونِهَا وَأَسْنَانِهَا وَالْحَمْلِ عَلَيْهَا وَالتَّجَمُّلِ بِهَا فِي مُرَابِطِهَا وَغُدُوِّهَا وَرَوَاحِهَا، ثُمَّ مِنْ نِعْمَةِ مَنَافِعِ النَّبَاتِ مِنَ الْحَبِّ وَالثَّمَرِ وَالْكَلَأِ وَالْكَمْأَةِ. وَإِذْ كَانَتِ الْبِحَارُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَرْضِ فَقَدْ شَمِلَ الِانْتِفَاعُ بِدَوَابَّ الْبَحْرِ فَاللَّهُ كَمَا أَبْدَعَ الصُّنْعَ أَسْبَغَ النِّعْمَةَ فَأَرَانَا آثَارَ الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ.

وَجُمْلَةُ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ إِلَى آخِرِهَا نَتِيجَةُ الِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ وَالدَّوَابِّ وَإِنْزَالِ الْمَطَرِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ خَلَقَ السَّماواتِ إِلَى قَوْلِهِ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ. وَالْإِتْيَانُ بِهِ مُفْرَدًا بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ. وَالِانْتِقَالُ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ خَلْقُ اللَّهِ الْتِفَاتًا لِزِيَادَةِ التَّصْرِيحِ بِأَنَّ الْخِطَابَ وَارِدٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ وَكَذَلِكَ يَكُونُ الِانْتِقَالُ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ الْتِفَاتًا لِمُرَاعَاةِ الْعَوْدِ إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ خَلْقُ اللَّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ مِنْ قَوْلِهِ فَأَرُونِي عَلَمِيَّةً، أَيْ فَأَنْبِئُونِي، وَالْفِعْلُ مُعَلَّقًا عَنِ الْعَمَلِ بِالِاسْتِفْهَامِ بِ مَاذَا.
فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ فَأَرُونِي تَهَكُّمًا لِأَنَّهُمْ لَا يُمْكِنُ لَهُمْ أَنْ يُكَافِحُوا اللَّهَ زِيَادَةً عَلَى كَوْنِ الْأَمْرِ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّعْجِيزِ، لَكِنَّ التَّهَكُّمَ أَسْبَقُ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُمْ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ مُكَافَحَةِ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ يُقْطَعُوا بِعَجْزِهِمْ عَنْ تَعْيِينِ مَخْلُوقٍ خَلَقَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَطْعًا نَظَرِيًّا.
وَصَوْغُ أَمْرِ التَّعْجِيزِ مِنْ مَادَّةِ الرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ أَشَدُّ فِي التَّعْجِيزِ لِاقْتِضَائِهَا الِاقْتِنَاعَ مِنْهُمْ بِأَنْ يُحْضِرُوا شَيْئًا يَدَّعُونَ أَنَّ آلِهَتَهُمْ خَلَقَتْهُ. وَهَذَا كَقَوْلِ حُطَائِطِ بْنِ يَعْفُرَ النَّهْشَلِيِّ (١) وَقِيلِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ:
أَرِينِي جَوَادًا مَاتَ هَزْلًا (٢) لَعَلَّنِي | أَرَى مَا تُزَيِّنُ أَوْ بَخِيلًا مُخَلَّدًا |
وَالْعَرَبُ يَقْصِدُونَ فِي مِثْلِ هَذَا الْغَرَضِ الرُّؤْيَةَ الْبَصَرِيَّةَ، وَلِذَلِكَ يَكْثُرُ أَنْ يَقُولَ: مَا
رَأَتْ عَيْنِي، وَانْظُرْ هَلْ تَرَى. وَقَالَ امْرِؤُ الْقَيْسِ:
فَلِلَّهِ عَيْنَا مَنْ رَأَى مِنْ تَفَرُّقٍ | أَشَتَّ وَأَنْأَى مِنْ فِرَاقِ الْمُحَصَّبِ |
_________
(١) حطائط بِضَم الْحَاء: الْقصير.
(٢) هزلا بِفَتْح الْهَاء: الهزال. صفحة رقم 147