بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الروممكية
قوله تعالى: ﴿الم * غُلِبَتِ الروم * في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ إلى قوله ﴿بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾ قد ذكر تقدم ذكر " ألَمَ ".
قال الفراء: في قوله " غَلَبِهِمْ ": الأصل غَلَبَتِهِم ثم حذفت التاء كما حذفت من " وإِقَامِ الصّلوَاتِ " والأصل وإقامة الصلاة وهذا غلط عند البصريين لأن التاء في وإقامة عوض من الحذف الذي وقع في المصدر لأن أصله إِقْوَام مثل إكرام ثم أُعِلَّ وحذف، فدخلت التاء عوضاً من المحذوف. وليس في غلبهم حذف فيجب أن يكون أصله التاء، يقال غلبته غَلَباً حكاه الأصمعي وغيره. صفحة رقم 5651
وسنين جَمعٌ مُسَلّم أتى فيما لا يعقل على الشذوذ.
وقيل: جعل له الجمع المسلم عوضاً عن مما حذف منه.
ويجوز أن يجعل الإعراب في النون كالمُكَسَّر. والأول أكثر، وكسرت السين لتدل على أنه جمع على غير بابه وأصله.
والمحذوف من سنة واو، وقيل: المحذوف هاء.
والمعنى غلبت فارس الروم على بيت المقدس، والروم بعد غلب فارس لهم سيغلبون فارساً على بيت المقدس في بضع سنين. وأدنى الأرض، أي في أدنى الأرض من أرض الشام إلى فارس.
وقرأ ابن عمر وأبو سعيد الخدري " غلبت " الروم بفتح الغين. وسئل ابن عمر على أي: شيء غلبت؟ فقال: على ريف الشام.
والبِضْعُ عند قتادة أكثر من الثلاث ودون العشر.
وعند الأخفش/ والفراء من دون العشرة.
وعند أبي عبيد ما بين ثلاث إلى خمس.
وحكى أبو زيد فتح الباء فيه.
وهو مشتق من بَضَعه إذا قطعه، ومنه بَضْعةٌ من لحم. وهو يملك بُضعَ المرأة يريد أنه يملك قطع فرجها.
وقال ابن عباس: " كان المسلمون يحبون أن تغلِبَ الروم لأنهم أهل كتاب، وكان المشركون يحبون أن يغلب أهل فارس لأنهم أهل أوثانكَهُمْ، فذكر المشركون ذلك لأبي بكر رضي لله عنه، فذكره أبو بكر للنبي ﷺ، فقال النبي عليه السلام: أما إنهم سَيُهْزَمُون - يعني فارساً -، فذكر ذلك أبو بكر للمشركين فقالوا أفتجعل بيننا وبينك أجلاً فإن غلبوا كان لك كذا وكذا، وإن لم يغلبوا كان لك كذا وكذا، فجعلوا بينهم وبينه أجلاً خمس سنين، فمضت ولم يغلبوا، فذكر ذلك أبو بكر للنبي عليه السلام فقال له: أفلا جعلته دون العشرة " قال أبو سعد الخدري: التقينا مع مشركي العرب يوم بدر، والتقت
اليوم الروم فارساً فنصرنا الله على مشركي العرب ونصر الروم على فارس، فذلك قوله جل ذكره:
﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون * بِنَصْرِ الله﴾.
قال ابن عباس: لقي النبي ﷺ مشركي العرب يوم التقت الروم فارساً فنصر الله أهل الكتاب على العجم.
" وروي أنه جرى بين أبي بكر وبين أمية بن خلف في ذلك كلام حتى وقع بينهما رهان على ثلاث قلائص إلى أجل ثلاث سنين.
قال أبو بكر: إن الروم ستغلب فارساً إلى ثلاث سنين، وأنكر ذلك ابن خلف، فأتى أبو بكر النبي عليه السلام فأعلمه بما جرى بينهما فقال له النبي ﷺ: " ارجع واسْتَزِدْ في القَلائِصِ والسّنِين فَصَيّرِ الرّهَانَ إلى سَبع قلائِص وإلى سبع سنين ". فكان أول رهان في الإسلام وآخره ثم حرم الله الرهان "، فأخرج أبو بكر رضي الله عنهـ في حين
عقد الرهان ثم القلائص، وأخرج أمية بن خلف ثم القلائص فاشتروا قلائص بنصف المال فنحروها وقسموها جزورً وأخروا نصف المال حتى غلبت لروم فارساً فرجع ذلك إلى أبي بكر.
وروي: " أنهم جعلوا الأجل ست سنين، فمضت الستُّ، والفُرسُ ظَاهِرُونَ عَلَى الرُّوم، فأخذ المشركون رهان أبي بكر وارتاب ناس كثير وفَرِحَ بذلك المشركون. فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس فكَبَّرَ المسلمون تكبيرة واحدة بمكة فآمن عند ذلك خلقٌ كثيرٌ من المشركين ".
وإنما تعلق قريش بالفرس لأنهم مثلهم في التكذيب بالبعث، وتعلق المسلمون بالروم لأنهم مثلهم في الإيمان بالبعث.
وقيل: كان ذلك لأن الفرس لا كتاب لهم كالمشركين، والروم لهم كتاب كالمسلمين.
وروي: " أن النبي ﷺ أخبر أن الروم ستغلب فارساً، وأنكر ذلك المشركون فخاطرهم أبو بكر على ذلك، وكان الذي خاطره على ذلك أمية بن خلف الجمحي فأعلم النبي بذلك فقال النبي ﷺ لأبي بكر " ارجع فَزِد في الخَطِر وَالأَجَلِ " ففعل.
وضمن أبا بكر عن الخطر ولده عبد الرحمن وضمن أمية بن خلف صفوان ابن أمية، فغلبت الروم فارساً على بيت المقدس، وأخذ الخطر من قريش.
قال ابن مسعود " خَمس " قَد مَضَينَ: الدخان واللّزَام والبطشة والقمرُ والرومُ ".
قال عكرمة: " اقتتل الروم وفارس في أدنى الأرض، وأدنى الأرض يومئذ أذْرِعَات بها التقوا، فهزمت الروم فبلغ ذلك النبي ﷺ وأصحابه وهم بمكة فشق ذلك عليهم وكان النبي ﷺ يكره أن يظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم. وفرح الكفار بمكة فلقوا المؤمنين من أصحاب النبي فقالوا له: إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب، ونحن أميون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب، وإنكم إن واثبتمونا لنظهرن عليكم، فأنزل الله جل ذكره: ﴿الم * غُلِبَتِ الروم﴾ الآيات، فخرج أبو بكر إلى الكفار فقال: أفرحتم بظهرو إخوانكم الكفار على أخواننا، فلا تفرحوا ولا يقرن الله أعينكم، فوالله لتظهرن الروم على فارس، أخبرنا به نبينا ﷺ، فقال أبي بن خلف: كذبت يا أبا فضيل. فقال أبو بكر: أنت أكذب يا عدو الله، فقال: أنا حِبُكَ عشر قلائص مني وعشر قلائص منك، فإن ظهرت الروم على فارس غرمتُ، وإن ظهرت فارس على الروم غرمَت إلى ثلاث سنين، فجاء أبو بكر إلى النبي ﷺ فأخبره فقال: ما هكذا ذَكَرتُ إِنَّما البِضعُ مَا بَينَ
صفحة رقم 5658
الثَّلاثِ إلى التِّسعِ فَزَايِدْهُ في الخَطَرِ وَمَادَّهُ فِي الأَجَلِ " فخرج أبو بكر فلقي أُبَيَّا فقال: لعلك ندمت فقال: لا تعال - ازايدك في الخطر وأمادك في الأجل فأجعلها مائة قلوص بمائة قلوص إلى تسع سنين، فقال: قد فعلت ".
قال قتادة وذلك قبل أن ينهي عن القمار.
وقال قتادة: قغلبت الروم فارساً عند رأس التسع سنين.
وكان قد تم الأجل وطلب المشركون قمارهم فزايدهم المسلمون في القمار ومادوهم في الأجل، فغلبت الروم.
وكان ذلك من دلائل نبوة محمد ﷺ لأنه أخبرهم عما يكون قبل أن يكون بسنين على ما أوحى الله إليه وأعلمه فكان في ذلك دلالة على صدقه فيما يأتي به وما يقول في أمور الغيب وغيرها، وهذا إنما كان قبل أن تُحَرَّمَ المخاطرة، فأما الآن فقد
حَرَّمَ ذلك النبي ﷺ فلا تجوز المخاطرة لأنها من أكل الأموال بالباطل.
وقوله تعالى: ﴿لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ﴾.
أي: من قبل غلبة الروم فارس ومن بعد غلبة فارس اليوم، يقضي ما شاء في خلقه.
وقوله: ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون * بِنَصْرِ الله﴾ أي: يوم ستغلب الروم فارساً يفرح المؤمنون بنصر الله، لأن في ذلك، دليلاً على صحة نبوة من أخبرهم بغلبة الروم فارساً في بضع سنين، ولأن فيه ظفراً بالمشركين إذا كان يكرهون أن تغلب الروم فارساً.
ثم قال: ﴿وَهُوَ العزيز﴾ أي: الشديد في انتقامه من أعدائه.
﴿الرحيم﴾ بمن ناب من خلقه وراجع طاعته.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ﴾ أي: وعد الله المؤمنين وعداً أن تغلب الروم فارساً، فلا يخلف الله وعده.
﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي: أكثر قريش لا يعلمون أن الله سينجز المؤمنين ما وعدهم من غلبة الروم فارساً وأنه لا خلف في وعده.
ثم قال تعالى: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا﴾ أي: يعلم هؤلاء المشركون أمر معاشهم وما يصلحهم في الدنيا وتدبير ذلك، وهم في غفلة عن امر آخرتهم وما فيه النجاة من عذاب الله.
قال ابن عبس: المعنى يعلمون متى يحصدون، ومتى يدرسون، ومتى يزرعون. وقال الحسن.
وقال عكرمة: هم الخرازون والسراجون.
وقيل: ما يزيدهم من الكذب على متأتيهم به الشياطين من استراق السمع.
وقيل الظاهر هنا الباطل قال تعالى ﴿أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ القول﴾ [الرعد: ٣٣] أي: باطل وقيل:
الظاهر البادي. ثم قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ في أَنفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ الله السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق﴾.
أي: أولم يتفكر هؤلاء المكذبون بالبعث في (خلق) أنفسهم وأنهم لم يكونوا شيئاً ثم صاروا رجالاً، وينظروا في لطف الصنع وإحكام تدبير خلقهم فيدل ذلك على توحيد الله، وعلى أنه ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق، فيعلموا أن الذي فعل ذلك يقدر على أن يعيدهم بعد إفنائهم خلقاً جديداً، فيجازيهم بأعمالهم.
وقوله ﴿إِلاَّ بالحق﴾ أي: بالعدل وإقامة الحق. ﴿وَأَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ أي: مؤقت معلوم عنده، فإذا بلغ آخره أفنى ما أراد منه، وبدل الأرض غير الأرض والسماوات، وبعث الأموات فبرزوا لله جميعاً.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾.
أي: الجاحدون منكرون البعث بعد الموت والجزاء على الأعمال، غفلة منهم وتفريطاً في أمر معادهم.
قوله تعالى ذكره: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ في أَنفُسِهِمْ﴾. " في أنفسهم " ظرف للتفكر، وليس بمفعول به للتفكر تعدى إليه بحرف جر.
فالمعنى: أولم يتفكروا في أنفسهم فيعلموا أن ما تقدم ذكره حق.
أي: يُسِرُّوا التَّفَكُّر في أنفسهم فهما معنيان.
وفي أنفسهم: تمام الكلام.
وقيل: بل ما بعده متصل به أي: يُسِرُّوا التفكر في أنفسهم أن ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق.
فأن مضمرة كما قال: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البرق﴾ [الروم: ٢٤] أي: أن يريكم، وكما قال: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات﴾ [الروم: ٢٢] أي: أن خلق السماوات.
قوله تعالى ذكره: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا) [٨] إلى قوله: (وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) [١٨].
أي: أولم يسير هؤلاء المكذبون بالبعث في الأرض/ فينظروا إلى آثار الله فيمن كان قبلهم من الأمم المكذبة رسلها، كيف كان عاقبة أمرها، فقد كانوا أشد من هؤلاء قوة، (وَأَثَارُوا الْأَرْضَ) أي: استخرجوها وحدثوها وعمروها أكثر مدة مما عمر هؤلاء الأرض، (وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) فكذبوهم، فأهلكهم الله وما كان الله ليظلمهم بعقابه إياهم على تكذيبهم رسله، (وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بمعصيتهم ربهم.
ثم قا ل تعالى: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ).
أي: ثم كان آخر من كفر من هؤلاء الذين أثاروا الأرض السوأى: أي الخلة التي هي أسوأ من فعلهم: البوار والهلاك في الدنيا، والنار في الآخرة خالدين فيها.
قال ابن عباس: السوأى جهنم والحسنى الجنة.
قال قتادة: كان عاقبة الذين أشركوا النار.
والسوآى اسم. وقيل مصدر كالتقوى.
قال مجاهد: السوآى: الإساءة.
ثم قال: (أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ) أي: عاقبتهم النار لأن كذبوا ومن أجل أن كذبوا بحجج الله ورسله.
(وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ) أي: بحجج الله وأنبيائه يسخرون.
ثم قال تعالى: (اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي: ينفرد بإنشاء جميع خلقه من قدرته، ثم يعيده بعد إفنائه له خلقا جديدا.
(ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي: يردون فيجازيهم بأعمالهم.
ثم قال تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) أي: واذكر يا محمد يوم تقوم الساعة ييأس الكافرون من كل خير.
وأصل الإبلاس: انقطاع الحجة والسكوت والحيرة.
قال قتادة: "يبلس المجرمون" أي: في النار.
وقال ابن زيد: المبلس الذي قد نزل به الشر.
وقال مجاهد: الإبلاس الفضيحة.
(ولَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ).
أي: ولم يكن للمجرمين من شركائهم في الكفر والمعصية وأذى الرسل شُفَعَاء ينقذونهم من عذاب الله.
وقيل: شركاؤهم هنا الأصنام والأوثان التي عبدوها من دون الله، أضيفت إليهم لأنهم هم اخترعوها وابتدعوا عبادتها.
(وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ)
أي: جاحدون ولا يتهم متبرئين منهم وهو معنى قوله (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) الآية.
ثم قال تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) أي: يتفرق المؤمنون من
الكافرين.
قال قتادة: فرقة والله لا اجتماع بعدها.
ثم بين تعالى ما يؤول إليه الافتراق.
فقال: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ).
أي: هم في الرياض والنبات الملتف بين أنواع الزهر في الجنات يسرون ويلذذون بطيب العيش والسماع.
وذكر الله جل ذكره الروضة لأنهم لم يكن عند العرب شيء أحسن منظراً ولا أطيب نشراً من الرياض وعبقها.
"أما" عند سيبويه: مهما يكن من شيء فالذين آمنوا.
وقال أبو إسحاق: معناها دع ما كنا (فيه) وخذ في غيره.
وقال أبو عبيدة: الروضة ما كان في سفل، وإن كان مرتفعاً فهي ترعة.
وقال الضحاك: "في روضة" في جنة، والرياض الجنان. والحبرة في اللغة كل نعمة حسنة، والتحبير التحسين وقال ابن عباس: يحبرون: يكرمون.
وقال مجاهد: ينعمون.
قال الكسائي: حبرته: أكرمته ونعمته.
ثم قال تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) أي: جحدوا توحيد الله وكذبوا وسله، وأنكروا البعث.
(فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ) أي: في عذاب الله مجموعون، قد أحضرهم الله إياه.
ثم قال تعالى ذكره: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) سبحان مصدر يؤدي عن معنى سبحوا الله تسبيحاً في هذه الأوقات الأربعة، أي: نزهوه من السوء.
وقيل: سبحان مأخوذ من السبحة، والسبحة الصلاة، وسبحة الضحى: صلاة الضحى.
وقرأ عكرمة: "حيناً تمسُون وَحِيناً تُصْبِحُون" بتنوين حين ونصبه في الوجهين على الظرف. والتسبيح هنا الصلاة، فالمعنى صلوا أيها المؤمنون حين تمسون
صلاة المغرب والعشاء الآخرة، وحين تصبحون صلاة الصبح، وعشياً صلاة العصر، وحين تظهرون صلاة الظهر.
وقوله: (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). أي: له الحمد من جميع خلقه دون غيره من سكان السماوات والأرض.
قال ابن عباس: هذه الآية في الصلوات الأربع: الظهر والعصر والصبح والمغرب، وصلاة العشاء في قوله تعالى/ (وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ) هذا معنى قوله.
روي عنه: وعشياً: المغرب والعشاء.
وقال زِرٌّ: "خاصم نافع بن الأزرق ابن عباس في شيء، ثم قال نافع لابن عباس: هل تجد الصلوات الخمس في كتاب الله؟ قال ابن عباس: نعم ثم قرأ عليه: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ): المغرب، (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) الفجر، (وَعَشِيًّا): العصر (وَحِينَ تُظْهِرُونَ): الظهر، "ومن بعد صلاة العشاء": العشاء.
وعن ابن عباس قال: جمعت هذه الآية الصلوات الخمس وقال "حين تمسون":
المغرب والعشاء.
وقال مجاهد: "حين تمسون": المغرب والعشاء، "وحين تصبحون": الفجر، "وعشياً": العصر، "وحين تظهرون": الظهر.
وروي عن النبي - ﷺ - أنه قرأ هذه الآية وقال: "هذا حين افترض وقت الصلاة". وأول وقت الظهر زوال الشمس إجماعاً.
وآخر وقتها عند مالك: إذا كان ظل كل شيء مثله بعد الزوال وهو قول الثوري والشافعي وأبي ثور.
وقال يعقوب ومحمد بن الحسن: آخر وقتها أن يكون الظل قامة.
وقال عطاء: آخر وقتها إلى أن تصفر الشمس.
وقال طاوس: لا يفوت الظهر والعصر حتى الليل.
وقال النعمان: آخر وقتها ما لم يصر الظل قامتين.
وأول وقت العصر: إذا كان ظل كل شيء مثله. هذا قول مالك والثوري والشافعي وإسحاق وأبي ثور.
وقال النعمان: أول وقتها أن يصير الظل قامتين بعد الزوال.
وآخر وقتها أن يصير [ظل] كل شيء مثليه على الاختيار، فإن صلى بعد ذلك فقد فاته الاختيار ولم يفته وقت الصلاة، قاله الثوري والشافعي وقال أحمد وأبو ثور: آخر وقتها ما لم تصفر الشمس.
وقال إسحاق بن راهويه: آخر وقتها غروب الشمس قبل أن يصلي المرء منها ركعة.
وعن ابن عباس وعكرمة: أن آخر وقتها غروب الشمس على الإطلاق.
ووقت المغرب غروب الشمس وقتاً واحداً، هذا مذهب مالك والأوزاعي والشافعي.
وقال الثوري وأصحاب الرأي: وأحمد وإسحاق: آخر وقتها الشفق.
وأول وقت العشاء إذا غاب الشفق إجماعاً.
والشفق الحمرة في قول مالك والثوري وابن أبي ليلى والشافعي وأحمد وأبي ثور ويعقوب ومحمد. وهو قول أهل اللغة، يقال ثوب مشفق أي: محمر.
وروي عن أنس وابن عباس وأبي هريرة أن الشفق: البياض وهو قول النعمان وزفر.
وقال النخعي: آخر وقتها إلى ربع الليل.
وعن عمر وأبي هريرة وعمر بن عبد العزيز: أن آخر وقتها ثلث الليل.
وبه قال الشافعي وقد كان يقول آخر وقتها نصف الليل ولا يفوت إلى الفجر.
وعن عمر أيضاً أن آخر وقتها نصف الليل، وبه قال الثوري وابن المبارك.
وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي:
وعن ابن عباس وعطاء وعكرمة وطاوس: أن آخر وقتها إلى طلوع الفجر.
وأول وقت صلاة الصبح طلوع الفجر إجماعاً.
وأجمعوا على أن من صلى بعد الفجر وقبل طلوع الشمس أنه قد صلى الصبح في وقتها.
ثم قال تعالى: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) أي: صلوا ما أمرتم به لله الذي يفعل هذا لا يقدر على فعله أحد غيره، يخرج الإنسان الحي من الماء الميت، ويخرج الماء الميت من الإنسان الحي، ويحيي الأرض بالماء فينبتها ويخرج زرعها بعد موتها.
(وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) أيها الناس من قبوركم للبعث والمجازاة.
وقال الحسن: معناه يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن.
وذكر أبو عبيد أن سهل بن معاذ بن أنس روي عن أبيه رفعه إلى النبي - ﷺ -
قوله تعالى ذكره: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ﴾ إلى قوله: ﴿كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ﴾.
أي: ومن علاماته وحججه على وحدانيته وأنه لا شريك له وأنه يحييكم بعد موتكم، أنه خلقكم من تراب، أي: خلق أصلكم وهو آدم من تراب.
﴿إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ﴾ أي: من ذرية من خلق من تراب.
﴿تَنتَشِرُونَ﴾ أي: تنصرفون وتنبسطون في الدنيا.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض﴾.
أي: ومن أدلته وحجته/ في قدرته على إحيائكم بعد موتكم أنه خلق السماوات والأرض، وهن أعظم خلقاً منكم فاخترعها وأنشأها، وجعل ألسنتكم مختلفة في الأصوات واللغات، وجعل ألوانكم مختلفة على كثرتكم، وهذا ألطف خلقا من خلق أجسامكم، فأتى تعالى ذكره بتمثيل الخلق العظيم واللطيف.
﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ﴾ أي: لعلامات وأدلة في قدرة الله تعالى ووحدانيته، يعني: الجن والإنس.
وهذا على قراءة من فتح اللام.
ومن كسرها فمعناه لم علم قدرة الله وأيقن بها.
وقوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا﴾.
أي: خلق لأبيكم آدم من ضلعه زوجة ليسكن إليها.
وقيل: خلق الزوجة من نطفة الرجل.
﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ أي: بالمصاهرة والختونة يعطف بعضهم على بعض.
قال ابن عباس: المودة حب الرجل امرأته، والرحمة رحمته إياها أن لا يمسها بسوء.
وقال مجاهد: المودة الجماع، والرحمة الولد.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ أي: لمن تفكر في الله ووحدانيته، أي: من قدر
على هذا فهو قادر على إحياء الموتى، وأنه واحد لا شريك له.
ثم قال: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم باليل والنهار وابتغآؤكم مِّن فَضْلِهِ﴾ أي: ومن حججه وأدلته على توحيده وقدرته على إحياء الموتى، أنه يقدر الساعات والأوقات، ويخالف بين الليل والنهار، فجعل النهار تبتغون فيه الرزق والمعاش، وجعل الليل سكناً لتسكنوا فيه وتناموا.
وقيل: في الآية تقديم وتأخير، والتقدير: ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله بالنهار، وحذف حرف الجر من النهار لا تصاله بالليل وعطفه عليه. والواو تقوم مقام حرف الجر إذا اتصلت بالمعطوف عليه في الاسم الظاهر خاصة.
ومثله في التقديم والتأخير قوله: ﴿وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ﴾ [القصص: ٧٣].
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ أي: فيما نص من قدرته لدلالة وحججاً وعبرة وعظة لمن سمع مواعظ الله فيتعظ بها ويعتبر.
ثم قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً﴾ أي: ومن آياته أنه يريكم البرق. " وخوفاً وطمعاً " مفعولان من أجلهما.
وقيل التقدير: ويريكم البرق خوفاً وطمعاً من آياته.
والمعنى: من حججه وأدلته على توحيده وإحياء الموتى أنه يريكم البرق خوفاً للمسافر أن يؤذيه المطر، وطمعاً للمقيم أن يسقي زرعه وتخصب أرضه.
﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مَآءً فَيُحْيِي بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ أي: وينزل من السحاب مطراً فيحيي بذلك الماء الأرض الميتة التي قد يبست ولم تنبت نبتاً، فتنبت بعد جدوبها.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ أي: يعقلونَ عن الله حججه وأدلته.
ثم قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض بِأَمْرِهِ﴾ أي: ومن حججه وأدلته على توحيده وقدرته قيام السماوات والأرض بأمره خضوعاً له بالطاعة بغير عمد.
﴿ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأرض إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ﴾ أي: إذا دعاكم للبعث خرجتم من بطن الأرض مستجيبين لدعائه إياكم.
روي عن نافع أنه وقف " دعاكم دعوة ". وكذلك قال يعقوب.
ثم يتبدئ " من الأرض ".
﴿إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ﴾ أي: إذا أنتم تخرجون من الأرض.
والوقف عند أبي حاتم: من الأرض ". أي: دعاكم وأنتم في الأرض، كما تقول دعوت فلاناً من بيته. أي: وهو في بيته.
والأحسن عند أهل النظر أن على " تخرجون "، لأن إذا الثانية جواب للأولى على قول الخليل وسيبويه، كأنه قال: إذا دعاكم خرجتم.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض﴾ أي: هم عبيد له ومُلك له، لا إله إلا هو.
﴿كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ﴾ أي: مطيعون. وطاعة الكفار منهم انقيادهم على ما شاء من صحة وسقم وفقر وغنى، روى الخدري عن النبي ﷺ قال: " كُلُّ قُنُوتٍ فِي الْقُرآنِ