
وقال مقاتل: حقه أن يُتصدق عليه (١).
وقوله: ﴿وَابْنَ السَّبِيلِ﴾ يعني: حق الضيف عليك أن تحسن إليه (٢).
﴿ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ يقول: إعطاء الحق أفضل من الإمساك ﴿لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ﴾ (٣) يطيعون بما يعلمون ثوابه. ثم نعتهم فقال: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (٤).
٣٩ - قوله تعالى: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ﴾ الآية، روى قتادة عن ابن عباس في هذه الآية قال: هي هدية الرجل يهدي الشيء يريد أن يثاب أفضل منه، فذلك الذي لا يربو عند الله، لا يؤجر فيه صاحبه، ولا إثم عليه فيه (٥). وعن مجاهد قال: هي الهدايا (٦).
وروى ابن أبي روَّاد عنه قال: هو الربا الحلال؛ يهدي الرجل الشيء ليُهدَى له أفضل منه، فهو حلال ليس فيه إثم ولا أجر (٧). وقوله: {وَلَا تَمْنُنْ
(٢) "تفسير مقاتل" ٧٩ ب. و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٨٧.
(٣) "تفسير مقاتل" ٧٩ ب.
(٤) "تفسير مقاتل" ٧٩ ب، من قوله: ثم نعتهم.
(٥) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ١٠٣، وأخرجه ابن جرير ٢١/ ٨٤، عن ابن عباس من طريق قتادة. وأخرجه ابن جرير ٢١/ ٤٦، من طريق محمد بن سعد بإسناده عن ابن عباس. وهو قول مقاتل ٧٩ ب.
(٦) أخرجه ابن جرير ٢١/ ٤٦.
(٧) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ١٠٤، عن الضحاك بن مزاحم، من طريق عبد العزيز بن أبي رواد.
- عبد العزيز بن أبي رواد، شيخ الحرم، واسم أبيه: ميمون، حدث عن سالم بن عبد الله، والضحاك بن مزاحم، وعكرمة، ونافع، وغيرهم، وحدث عنه: يحيى القطان، وعبد الرزاق، وابن المبارك، وغيرهم، صدوق عابد، وربما وهم، ورمي بالإرجاء، ت: ١٥٩ هـ. "سير أعلام النبلاء" ٧/ ١٨٤، و"تقريب التهذيب" ص ٦١٢.

تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: ٦] نزلت في النبي -صلى الله عليه وسلم- خاصة، نُهي أن يُهدِي هدية فيُهدَى له أفضل منها، وحَرُم ذلك عليه خاصة (١).
وقال السدي: الربا في هذا الموضع: الهدية يهديها الرجل لأخيه، طلبَ المكافأة، فإن ذلك لا يربو عند الله، ولا يؤجر عليه صاحبه. وقال سعيد بن جبير: هذا في الرجل يُعطِي ليثابَ عليه (٢). هذا قول المفسرين في هذه الآية.
وشرحها أهل المعاني؛ فقال أبو إسحاق: يعني به: دفعُ الإنسان الشيء ليعوض ما هو أكثر منه، فذلك ليس بحرام، ولكنه لا ثواب فيه؛ لأن الذي يهبه يستدعي به ما هو أكثر منه (٣).
وقال أبو علي الفارسي: ﴿مَا﴾ في قوله: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ﴾ يحتمل تقديرين؛ يجوز أن تكون للجزاء (٤)، ويجوز أن تكون موصولة؛ فإن قدرتها جزاء كانت في موضع نصب بـ: ﴿آتَيْتُمْ﴾ وقوله تعالى: ﴿فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ﴾ في موضع جزم بأنه جواب للجزاء، ويقوي هذا الوجه: قوله: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ﴾ ألا ترى أنه لو كان مبتدأً لعاد عليه ذكرٌ، وإن جعلتها موصولة كان موضع ﴿مَا﴾ رفعًا بالابتداء، و ﴿آتَيْتُمْ﴾ صلة، والعائد
(٢) أخرجه ابن جرير ٢١/ ٤٦.
(٣) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٨٧، بمعناه.
(٤) أي: اسم شرط جازم.

إلى الموصول: الذكر المحذوف من ﴿آتَيْتُمْ﴾ (١) وقوله: ﴿فَلَا يَرْبُو﴾ في موضع رفع بأنه خبر الابتداء، والفاء دخلت في الخبر على حد بما دخلت في قوله: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ [النحل: ٥٣].
وقوله: ﴿آتَيْتُمْ﴾ أكثر القراء قرأ: ﴿آتَيْتُمْ﴾ بالمد (٢)، (٣) إلى قول: من مد كأنه قيل: ما جئتم من ربًا، ومجيئهم ذلك على وجه الإعطاء له كما قال (٤): أتيت الخطأَ، وأتيت الصوابَ، وأتيت قبيحًا، قال الشاعر:
أتيتُ الذي يأتي السفيه لِغرتي | إلى أن علا وَخْطٌ من الشيبِ مَفْرِقي |
وقوله: ﴿مِنْ رِبًا﴾ على ضربين؛ أحدهما: متوعد عليه محرم بقوله: ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ [البقرة: ٢٧٨] والآخرُ غير محرم: وهو أن يُهدِي
(٢) قرأ ابن كثير: ﴿أَتَيْتُمْ﴾ مقصورة، والباقون: ﴿آتَيْتُمْ﴾ بالمد، في قوله تعالي: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا﴾ وأما قوله تعالى: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ﴾ فلم يختلفوا في مدها. "السبعة في القراءات" ص ٥٠٧، "والحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٤٦، و"إعراب القراءات السبع وعللَّها" ٢/ ١٩٦، و"النشر في القراءات العشر" ٢/ ٣٤٤.
(٣) يوجد هنا سقط في النسختين؛ ولا يتم المعنى بدونه، وتمام الكلام كما هو عند أبي علي في "الحجة" ٥/ ٤٤٦: "وأما قصر ابن كثير فإنه يؤول في المعنى إلى قول من مد.. ".
(٤) في "الحجة" ٥/ ٤٤٦: كما تقول.
(٥) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٤٦، وأنشد البيت كاملًا، ولم ينسبه. الغِزُّ: الصغير الذي لم يجرب الأمور، يقال: كان ذلك في غرارتي وحداثتي. "تهذيب اللغة" ١٦/ ٧١ (غرر). والمفرق: وسط الرأس. "لسان العرب" ١٠/ ٣٠١ (فرق).

شيئًا، أو يهبه فيستثيب أكثر منه. وسمي بهذا المدفوع على وجه اجتلاب الزيادة: ربًا، لَمَّا كان الغرض فيه الاستزادة على ما أَعطى، فسمي باسم الزيادة، لمكان الزيادة المقصودة في المكافأة، والربا هو: الزيادة، فبذلك سُمِّي المحرم ربًا، لزيادة ما يأخذ على ما دَفع (١).
وقوله: ﴿لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ﴾ فاعل (يَرْبُوَا) الربا المذكور في قوله: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا﴾ وقُدِّر المضاف فحذفه، كأنه: في اجتلاب أموال الناس، أو اجتذابه، ونحو ذلك (٢).
وقرأ نافع: (لِتُربوا) بالتاء وضمها (٣)، أي: لتصيروا ذوي زيادة من
(٢) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٤٧، ولفظه: "وقدر المضاف وحذف كأنه: اجتلاب أموال الناس، واجتذابها، ونحو ذلك".
(٣) قرأ نافع: ﴿لِتُربوْا﴾ بضم التاء، ساكنة الواو، وقرأ الباقون: ﴿لِيَربوَا﴾ بالياء، مفتوحة الواو. "السبعة في القراءات" ص ٥٠٧، و"الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٤٧. و"إعراب القراءات السبع وعللها" ٢/ ١٩٦، و"النشر في القراءات العشر" ٢/ ٣٤٤. وقد ضبط محقق كتاب "الحجة" قراءة نافع هكذا. ﴿لِترْبُوَ﴾ وقال بعدها: بالتاء ساكنة الواو. وهذا خطأ من وجهين؛ الأول: قراءة نافع بالتاء مضمومة، وليست مفتوحة كما ضبطها المحقق في ص ٤٤٨، الثاني: الواو في قراءة نافع: ساكنة، وليست مفتوحة، مع أن المحقق قد أحال في الحاشية على كتاب "السبعة".

أموال الناس بما آتيتم، أي: تستدعونها وتجلبونها، وكأنه من: أربى إذا صار ذا زيادة، مثل: أقطف وأجدب (١).
وقوله: ﴿فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ﴾ أي: لأنكم إنما قصدتم إلى زيادة العِوض، ولم تقصدوا وجه البر والقربة، ولو قصدتم به وجه الله لكان كقوله: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ﴾ وفي (مَا) هذه الوجهان ذكرناهما في (مَا) في أول الآية؛ فإن جعلتها: الموصولة فهي في موضع رفع، و (ءَاتَيْتُم) صلة، والراجع إلى الموصول محذوف، على تقدير: آتيتموه.
قال: (وَمَاءَاتَيْتُم) ثم قال: (فَأُولَئِكَ) فانتقل من الخطاب إلى الغيبة (٢)، كما جاء في ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ﴾ [يونس: ٢٢] (٣). والفاء دخلت على: (فَأُولَئِكَ) لذكر الفعل في الصلة، والجملة في موضع خبر المبتدأ الذي هو: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ﴾ ويقدر راجعًا محذوفًا، التقدير: فأنتم المضعفون به. أي: ذوو الضعف بما آتيتم من زكاة، فحذفت العائد على حد ما حذفته من قولك: السمن منوان بدرهم (٤).
(٢) "المسائل الحلبيات" ص ٨٥.
(٣) ذكر هذا ابن قتيبة، "تأويل مشكل القرآن" ص ٢٨٩.
(٤) ساق هذا المثال للتدليل على حذف العائد المجرور، وتقديره: السمن منوان منه بدرهم، فحذف منه لدلالة السياق عيه، كما قدر في الآية: فأنتم المضعفون به. والله أعلم. والمَنَّ: معيار قديم يكال به أو يوزن. "لسان العرب" ١٣/ ٤١٨ (منن)، و"المعجم الوسيط" ٢/ ٨٨٨.