
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (فَنَاظِرَةٌ) يقال: أنظرته نظرة، أي: أمهلته، والنظرة في الدَّين خاصة وهو الإنظار.
* * *
قوله تعالى: (فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (٣٧) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (٤١)
وقوله: (فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ): الرسول الذي بعثت معه بلقيس الهدية.
ويحتمل: (فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ) المال الذي بعثت إليه؛ يحتمل ذا أو ذا.
وقوله: (قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ) أي: أتعطونني بمال، وقال أهل الأدب: (أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ) من المدد، والمدد الزيادة كما يمد القوم، ويكون الإعطاء كقوله: (وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ)، ويحتمل هذه الزيادة، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ) أي: ما آتاني اللَّه من النبوة والعلم والحكمة خير مما آتاكم من الأموال.
ويحتمل: (فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ) فأوتيكم إذا أتيتموني مسلمين (خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ)؛ إذ لم تؤتوني وأوتيتم الإسلام، أو كلام نحو هذا.
وقال بعض أهل التأويل: فما آتاني اللَّه من الملك خير مما آتاكم من الملك؛ لأنه سخر له الجن والإنس والشياطين والطيور والرياح وجميع الأشياء، فذلك خير له وأعظم من ملكها.
والأول أشبه وأقرب؛ إذ لا يحتمل أن يفتخر سليمان بملكه على غيره، إنما يكون افتخاره بالدِّين والنبوة، واللَّه أعلم.
وقوله: (بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: بل أنتم بهديتكم تفرحون إذا ردت إليكم، لكن هذا بعيد: لا تفرح برد الهدية إذا ردت إليها، ولم تقبل بل تحزن على ذلك وتهتم، لكنه يقول - واللَّه أعلم - بل أنتم أولى بالفرح بالمال والهدايا منا؛ إذ مرادكم المال والدنيا، ومرادنا الدِّين ودار الآخرة، أو كلام نحو هذا، واللَّه أعلم بذلك.

الْكَاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢)
وقوله: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ... (٣٦) أي: جاء موسى فرعون وقومه بآياتنا، أي: أعلافا أنشأها موضحات، مظهرات يظهرن، ويوضحن رسالة موسى ونبوته، وقد أظهرن لهم ذلك وعرفوا أنها آيات من اللَّه نزلن؛ أفلا ترى أن موسى قال له يا فرعون: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ) لكنهم عاندوا وكابروا، وقالوا: (مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى)؛ هذا منهم تمويه وتلبيس على الأتباع والسفلة، ولم تزل عادتهم التمويه والتلبيس على أتباعهم أمر موسى.
وهّوله: (وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ) يقولون - واللَّه أعلم -: إن آباءنا قد عبدوا الأصنام على ما نعبد نحن، وقد ماتوا على ذلك من غير أن نزل بهم ما توعدنا من الهلاك والعذاب، فعلى ذلك نحن على دين آبائنا، وعلى ما هم عليه؛ فلا ينزل بنا شيء مما تذكر وتوعدنا به من العذاب.
ثم قال موسى: (رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) هذا - واللَّه أعلم - كأنه ليس بجواب لقولهم: (مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ) ويكون جواب هذا إن كان هو قوله: (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) كنى بالظلم عن السحر؛ يقول - واللَّه أعلم - ليس بسحر؛ لأني قد غلبتكم وقهرتكم، وقد أفلحت أنا، ولو كان سحرًا ما أتيتكم به لم أفلح؛ إذ اللَّه - تعالى - أخبر أن الساحر لا يفلح بقوله: (إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى)، وقال -أيضًا-: (مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ...) الآية، وقد أصلح عملي؛ فظهر أنه ليس بفساد، ولكنه صلاح.
ويكون جواب قوله: (رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ) ما ذكر في سورة (المص)، حيث قالوا: (أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ)، فقال عند ذلك: (رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ) أنتم أو نحن؛ يقول: ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده جوابًا لقوله: (وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ)، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي (٣٨) كأنه قال للملأ