
ولما تم بهذه القصة الدليل على حكمته، توقع السامع الدلالة على علمه سبحانه، فقال مبتدئاً بحرف التوقع مشيراً إلى أنه لا نكير في فضل الآخر على الأول عاطفاً على ما تقديره: فلقد آتينا موسى وأخاه هارون عليهما السلام حكمة وهدى وعلماً ونصراً على من
صفحة رقم 138
خالفهما وعزاً: ﴿ولقد آتينا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿داود وسليمان﴾ أي ابن داود، وهما من أتباع موسى عليهم السلام وبعده بأزمان متطاولة ﴿علماً﴾ أي جزاء من العلم عظيماً من منطق الطير والدواب وغير ذلك لم نؤته لأحد قبلهما.
ولما كان التقدير: فعملا بمقتضاه، عطف عليه قوله: ﴿وقالا﴾ شكراً عليه، دلالة على شرف العلم وتنبيهاً لأهله على التواضع: ﴿الحمد﴾ أي الإحاطة بجميع أوصاف الكمال ﴿لله﴾ أي الذي لا مثل له وله الجلال والجمال ﴿الذي فضلنا﴾ أي بما آتانا من ذلك ﴿على كثير من عباده المؤمنين*﴾ أي الذين صار الإيمان لهم خلقاً.
ولما كان كل منهما عليهما السلام قد أوتي ما ذكر، أشار إلى فضل سليمان عليه السلام بأنه جمع إلى ما آتاه ما كان منح به أباه فقال: ﴿وورث سليمان داود﴾ أي أباه عليهما السلام دون إخوته في النبوة والعلم والملك الذي كان قد خصه الله دون قومه بجمعه له إلى النبوة، فشكر الله على ما أنعم به عليه أولاً وثانياً ﴿وقال﴾ أي سليمان عليه السلام محدثاً بنعمة ربه ومنبهاً على ما شرفه الله به، ليكون أجدر في قبول الناس ما يدعوهم إليه من الخير: ﴿يا أيها الناس﴾.

ولما كان من المعلوم أنه لا معلم له إلا الله، فإن لا يقدر على ذلك غيره، قال بانياً للمفعول: ﴿علمنا﴾ أي أنا وأبي بأيسر أمر وأسهله ممن لا يقدر على ما علمنا سواء ولو كان المقصود هو وحده لم يكن من التعاظم في شيء، بل هو كلام الواحد المطاع، تنبيهاً على تعظيم الله بما عظمه به مما يختص بالقدرة عليه أو بالأمر به كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل إذا كان هناك حال يحوج إليه كما قال في الزكاة: إنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا عز وجل، وكما كان يكتب لبعض الجبابرة ﴿منطق الطير﴾ أي فهم ما يريد كل طائر إذا صوت، والمنطق ما يصوت به من المفرد والمؤلف المفيد وغير المفيد، لا بدع في أن الذي آتى كل نفس هداها وعلمها تميز منافعها ومضارها يؤتيها قوة تدرك بها تخاطباً بينها يتفاهم كل نوع منها به فيما يريد، ويكون ذلك قاصراً عن إدراك الإنسان لخصوصه بالجزئيات الناشئة عن الحسيات ﴿وأوتينا﴾ ممن له العظمة بأيسر أمر من أمره ﴿من كل شيء﴾ أي يكمل به ذلك من اسباب الملك والنبوة وغيرهما، وعبر بأداة الاستغراق تعظيماً للنعمة كما يقال لمن يكثر تردد الناس إليه: فلان يقصده كل أحد.
صفحة رقم 140
ولما كان هذا أمراً باهراً، دل عليه بقوله مؤكداً بأنواع التأكيد وشاكراً حاثاً لنفسه على مزيد الشكر وهازاً لها إليه: ﴿إن هذا﴾ أي الذي أوتيناه ﴿لهو الفضل المبين*﴾ أي البين في نفسه لكل من ينظره، الموضح لعلو قدر صاحبه ووحدانية مفيضة مؤتية.
ولما كان هذا مجرد خبر، أتبعه ما يصدقه فقال: ﴿وحشر﴾ أي جمع جمعاً حتماً بقهر وسطوة وإكراه بأيسر سعي ﴿لسليمان جنوده﴾.
ولما دل ذلك على عظمه، زاد في الدلالة عليه بقوله: ﴿من الجن﴾ بدأ بهم لعسر جمعهم ﴿والإنس﴾ ثنى بهم لشرفهم ومشاركتهم لهم في ذلك من حيث تباعد أغراضهم وتناءي قصودهم.
ولما ذكر ما يعقل وبدأ به لشرفه، أتبعه ما لا يعقل فقال: ﴿والطير﴾ ولما كان الحشر معناه الجمع بكره، فكان لا يخلو عن انتشار، وكان التقدير: وسار بهم في بعض الغزوات، سبب عنه قوله تعظيماً للجيش وصاحبه: ﴿فهم يوزعون*﴾ أي يكفون بجيش أولهم على آخرهم بأدنى أمر وأسهله ليتلاحقوا، فيكون ذلك أجدر بالهيبة، وأعون على النصرة، وأقرب إلى السلامة؛ عن قتادة أنه كان على كل صنف من جنوده وزعة ترد أولاها على أخراها لئلا يتقدموا في المسير، قال: والوازع: الحابس وهو النقيب. وأصل الوزع الكف والمنع.

ولما كان التقدير: فساروا، لأن الوزع لا يكون إلا عن سير، غياه بقوله: ﴿حتى إذا أتوا﴾ أي أشرفوا. ولما كان على بساطه فوق متن الريح بين السماء والأرض. عبر بأداة الاستعلاء فقال: ﴿على واد النمل﴾ وهو واد بالطائف - كما نقله البغوي عن كعب، وهو الذي تميل إليه النفس فإنه معروف إلى الآن عندهم بهذا الاسم، ويسمى أيضاً نخب وزن كتف، وقد رأيته لما قصدت تلك الديار لرؤية مشاهدها، والتطواف في معابدها ومعاهدها. والتبرك بآثار الهادي، في الانتهاء والمبادىء، ووقفت بمسجد فيه قرب سدرة تسمى الصادرة مشهور عندهم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى به، وهذه السدرة مذكورة في غزوة الطائف من السيرة الهشامية واقتصر في تسمية الوادي على نخب، وأنشدت فيه يوم وقوفي ببابه، وتضرعي في أعتابه:
مررت بوادي النمل يا صاح بكرة | فصحت وأجريت الدموع على خدي |
وتممت منه موقف الهاشمي الذي | ملأ الأرض توحيداً يزيد على العد |
وكم موقف أفرشته حر جبهتي | وأبديت في أرجائه ذلة العبد |
من لم يذق ظلم الحبيب كظلمه | حلواً فقد جهل المحبة وادعى |

فإذا وردت عليه النعمة أو الشدة كان مستغرقاً في الفناء فلم يحس بشيء منهما.
ولما علم من هذا كله أن الشاكر هو المستغرق في الثناء على المنعم بما يجب عليه من العمل من فناء أو غيره بحسب ما يقدر عليه، وكان ذلك عمل مما يجوز أن يكون زين لذلك العبد كونه حسناً وهو ليس كذلك، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشيراً إلى هذا المعنى: ﴿وأن أعمل صالحاً﴾ أي في نفس الأمر. ولما كان العمل الصالح قد لا يرضي المنعم لنقص في العمل كما قيل في معنى ذلك:
إذا كان المحب قليل حظ | فما حسناته إلا ذنوب |
ولما كان العمل الصالح المرضي قد لا يعلى إلى درجة المرضي عنهم، لكون العامل منظوراً إليه بعين السخط، لكونه ممن سبق عليه الكتاب بالشقاء، لأن الملك المنعم تام الملك عظيم الملك فهو بحيث لا يسأل عما يفعل، قال معرضاً عن عمله معترفاً بعجزه، معلماً بأن المنعم غني عن العمل وعن غيره، لا تضره معصية ولا ينفعه طاعة: ﴿وأدخلني برحمتك﴾ أي لا بعملي ﴿في عبادك الصالحين*﴾ أي لما أردتهم له من تمام النعمة بالقرب والنظر إليهم بعين العفو صفحة رقم 148