
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ اللُّقِيِّ لِسَمَاعِ أَلْفَاظِ التَّحِيَّةِ وَالسَّلَامِ لِأَجْلِ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ التَّحِيَّةَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَلْقَوْنَهُمْ بِهَا، فَهُوَ مَجَازٌ بِالْحَذْفِ قَالَ تَعَالَى: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [١٠٣].
وَقَوْلُهُ: حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً هُوَ ضِدُّ مَا قِيلَ فِي الْمُشْرِكِينَ إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً [الْفرْقَان: ٦٦]. وَالتَّحِيَّةُ تَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٨٦]، وَفِي قَوْلِهِ: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ فِي سُورَةِ يُونُسَ [١٠]، وَقَوْلِهِ: تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً فِي آخر النُّور [٦١].
[٧٧]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٧٧]
قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧)
لَمَّا اسْتَوْعَبَتِ السُّورَةُ أَغْرَاضَ التَّنْوِيهِ بِالرِّسَالَةِ وَالْقُرْآنِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَمِنْ صِفَةِ كِبْرِيَاءِ الْمُعَانِدِينَ وَتَعَلُّلَاتِهِمْ، وَأَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأُقِيمَتِ الْحُجَجُ الدَّامِغَةُ لِلْمُعْرِضِينَ، خُتِمَتْ بِأَمْرِ اللَّهِ رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُخَاطِبَ الْمُشْرِكِينَ بِكَلِمَةٍ جَامِعَةٍ يُزَالُ بِهَا غُرُورُهُمْ وَإِعْجَابُهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَحُسْبَانُهُمْ أَنَّهُمْ قَدْ شَفَوْا غَلِيلَهُمْ مِنَ الرَّسُولِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ دَعْوَتِهِ وَتَوَرُّكِهِمْ فِي مُجَادَلَتِهِ فَبَيَّنَ لَهُمْ حَقَارَتَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ مَا بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولَهُ وَخَاطَبَهُمْ بِكِتَابِهِ إِلَّا رَحْمَةً مِنْهُ بِهِمْ لِإِصْلَاحِ حَالِهِمْ وَقَطْعًا لِعُذْرِهِمْ فَإِذْ كَذَّبُوا فَسَوْفَ يَحِلُّ بِهِمُ الْعَذَابُ.
وَمَا مِنْ قَوْله: مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ نَافِيَةٌ. وَتَرْكِيبُ: مَا يَعْبَأُ بِهِ، يَدُلُّ عَلَى التَّحْقِيرِ، وَضِدُّهُ عَبَأَ بِهِ يُفِيدُ الْحَفَاوَةَ.
وَمعنى مَا يَعْبَؤُا: مَا يُبَالِي وَمَا يَهْتَمُّ، وَهُوَ مُضَارِعُ عَبَأَ مِثْلَ: مَلَأَ يَمْلَأُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعِبْءِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَهُوَ الْحِمْلُ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ، أَيِ الشَّيْءُ الثَّقِيلُ الَّذِي يُحْمَلُ عَلَى الْبَعِيرِ وَلِذَلِكَ يُطْلَقُ الْعِبْءُ عَلَى الْعِدْلِ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ، ثُمَّ تَشَعَّبَتْ عَنْ هَذَا إِطْلَاقَاتٌ كَثِيرَةٌ. فَأصل مَا يَعْبَؤُا: مَا يَحْمِلُ عِبْئًا، تَمْثِيلًا بِحَالَةِ الْمُتْعَبِ مِنَ الشَّيْءِ، فَصَارَ الْمَقْصُودُ: مَا يَهْتَمُّ وَمَا يَكْتَرِثُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ قِلَّةِ الْعِنَايَةِ.

وَالْبَاءُ فِيهِ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ بِسَبَبِكُمْ وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَقَامُ الْكَلَامِ.
فَالتَّقْدِيرُ هُنَا: مَا يَعْبَأُ بِخِطَابِكُمْ.
وَالدُّعَاءُ: الدَّعْوَةُ إِلَى شَيْءٍ، وَهُوَ هُنَا مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ، وَالْفَاعِلُ يَدُلُّ عَلَيْهِ رَبِّي أَيْ لَوْلَا دُعَاؤُهُ إِيَّاكُمْ، أَيْ لَوْلَا أَنَّهُ يَدْعُوكُمْ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ الدُّعَاءِ لِظُهُورِهِ مِنْ قَوْلِهِ: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ، أَيِ الدَّاعِيَ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الدُّعَاءَ الدَّعْوَةُ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ لَا يَلْحَقُهُ مِنْ ذَلِكَ انْتِفَاعٌ وَلَا اعْتِزَازٌ بِكُمْ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات: ٥٦، ٥٧].
وَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: دُعاؤُكُمْ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِدَلِيلِ تَفْرِيعِ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ عَلَيْهِ وَهُوَ تَهْدِيدٌ لَهُمْ، أَيْ فَقَدْ كَذَّبْتُمُ الدَّاعِيَ وَهُوَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَهَذَا التَّفْسِيرُ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَعْنَى، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالْكَلْبِيِّ وَالْفَرَّاءِ. وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الدُّعَاءَ بِالْعِبَادَةِ فَجَعَلُوا الْخِطَابَ مُوَجَّهًا إِلَى الْمُسْلِمِينَ فَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ التَّفْسِيرِ تَكَلُّفَاتٌ وَقَدْ أَغْنَى عَنِ التَّعَرُّضِ إِلَيْهَا اعْتِمَادُ الْمَعْنَى الصَّحِيحِ فَمَنْ شَاءَ فَلْيَنْظُرْهَا بِتَأَمُّلٍ لِيَعْلَمَ أَنَّهَا لَا دَاعِيَ إِلَيْهَا.
وَتَفْرِيعُ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ عَلَى قَوْلِهِ: لَوْلا دُعاؤُكُمْ، وَالتَّقْدِيرُ: فَقَدْ دَعَاكُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَكَذَّبْتُمُ الَّذِي دَعَاكُمْ عَلَى لِسَانِهِ.
وَالضَّمِيرُ فِي يَكُونُ عَائِدٌ إِلَى التَّكْذِيبِ الْمَأْخُوذِ مِنْ كَذَّبْتُمْ، أَيْ سَوْفَ يَكُونُ تَكْذِيبُهُمْ لِزَامًا لَكُمْ، أَيْ لَازِما لكم لَا انْفِكَاكَ لَكُمْ مِنْهُ. وَهَذَا تَهْدِيدٌ بِعَوَاقِبِ التَّكْذِيبِ تَهْدِيدًا مُهَوَّلًا بِمَا فِيهِ مِنَ الْإِبْهَامِ كَمَا تَقُولُ لِلْجَانِي: قد فعلت كَذَا فَسَوْفَ تَتَحَمَّلُ مَا فَعَلْتَ.
وَدَخَلَ فِي هَذَا الْوَعِيدِ مَا يَحِلُّ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ قَتْلٍ وَأَسْرٍ وَهَزِيمَةٍ وَمَا يَحِلُّ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ.
وَاللِّزَامُ: مَصْدَرُ لَازَمَ، وَقَدْ صِيغَ عَلَى زِنَةِ الْمُفَاعَلَةِ لِإِفَادَةِ اللُّزُومِ، أَيْ عَدَمِ الْمُفَارَقَةِ،
قَالَ تَعَالَى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً فِي سُورَةِ طه [١٢٩]. وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي (كَانَ) عَائِدٌ إِلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى [طه:
١٢٧]، فَالْإِخْبَارُ بِاللِّزَامِ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ

مُبَالَغَتَانِ: مُبَالَغَةٌ فِي صِيغَتِهِ تُفِيدُ قُوَّةَ لُزُومِهِ، وَمُبَالَغَةٌ فِي الْإِخْبَارِ بِهِ تُفِيدُ تَحْقِيقَ ثُبُوتِ الْوَصْفِ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: اللِّزَامُ: عَذَابُ يَوْمِ بَدْرٍ. وَمُرَادُهُمَا بِذَلِكَ أَنَّهُ جزئيّ من جزئيات اللِّزَامِ الْمَوْعُودِ لَهُمْ. وَلَعَلَّ ذَلِكَ شَاعَ حَتَّى صَارَ اللِّزَامُ كَالْعَلَمِ بِالْغَلَبَةِ عَلَى يَوْمِ بَدْرٍ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ: الدُّخَانُ وَالْقَمَرُ، وَالرُّومُ، وَالْبَطْشَةُ، وَاللِّزَامُ، يَعْنِي أَنَّ اللِّزَامَ غَيْرُ عَذَابِ الْآخِرَةِ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
٢٦- سُورَةُ الشُّعَرَاءِاشْتُهِرَتْ عِنْدَ السَّلَفِ بِسُورَةِ الشُّعَرَاءِ لِأَنَّهَا تَفَرَّدَتْ مِنْ بَين سُورَة الْقُرْآنِ بِذِكْرِ كَلِمَةِ الشُّعَرَاءِ. وَكَذَلِكَ جَاءَتْ تَسْمِيَتُهَا فِي كُتُبِ السُّنَّةِ. وَتُسَمَّى أَيْضًا سُورَةَ طسم.
وَفِي «أَحْكَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ» أَنَّهَا تُسَمَّى أَيْضًا الْجَامِعَةَ، وَنَسَبَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَالسُّيُوطِيُّ فِي «الْإِتْقَانِ» إِلَى تَفْسِيرِ مَالِكٍ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ (١). وَلَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ وَصْفِهَا بِهَذَا الْوَصْفِ. وَلَعَلَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ جَمَعَتْ ذِكْرَ الرُّسُلِ أَصْحَابِ الشَّرَائِعِ الْمَعْلُومَةِ إِلَى الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ، فَقِيلَ جَمِيعُهَا مَكِّيٌّ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ. وَرِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنَسَبَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى الْجُمْهُورِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ [الشُّعَرَاء: ٢٢٤] إِلَى آخَرِ السُّورَةِ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ لِذِكْرِ شُعَرَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ رَوَاحَةَ وَكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَهُمُ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الشُّعَرَاء: ٢٢٧] الْآيَةَ. وَلَعَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ هِيَ الَّتِي أَقْدَمَتْ هَؤُلَاءِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ مَدَنِيَّةٌ. وَعَنِ الدَّانِي قَالَ: نَزَلَتْ وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ [الشُّعَرَاء: ٢٢٤] فِي شَاعِرَيْنِ تَهَاجَيَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَأَقُولُ: كَانَ شُعَرَاءُ بِمَكَّةَ يَهْجُونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمُ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَالْعَوْرَاءُ بِنْتُ حَرْبٍ زَوْجُ أَبِي لَهَبٍ وَنَحْوُهُمَا، وَهُمُ الْمُرَادُ بِآيَاتِ وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ. وَكَانَ شُعَرَاءُ الْمَدِينَةِ قَدْ أَسْلَمُوا قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ فِي مَكَّةَ شُعَرَاءُ مُسْلِمُونَ مِنَ الَّذِينَ هَاجَرُوا إِلَى الْحَبَشَةِ كَمَا سَيَأْتِي.
_________
(١) تَفْسِير مَالك بن أنس، ذكره عِيَاض فِي «المدارك» والداودي فِي «طَبَقَات الْمُفَسّرين». صفحة رقم 89

وَعَنْ مُقَاتِلٍ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ
[الشُّعَرَاء: ١٩٧] نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ. وَكَانَ الَّذِي دَعَاهُ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ مُخَالَطَةَ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْحُجَّةُ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى وُقُوعِ مُخَالَطَةِ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَدْ ذَكَرَ الْقُرْآنُ مِثْلَ هَذِهِ الْحُجَّةِ فِي آيَاتٍ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٤٣] وَهِيَ مَكِّيَّةٌ، وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [٥٢] وَهِيَ مَكِّيَّةٌ، وَقَوْلُهُ:
وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [٤٧] وَهِيَ مَكِّيَّةٌ. وَشَأْنُ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَشْهُورٌ بِمَكَّةَ وَكَانَ لِأَهْلِ مَكَّةَ صِلَاتٌ مَعَ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ وَمُرَاجَعَةٌ بَيْنَهُمْ فِي شَأْنِ بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٨٥]، وَلِذَا فَالَّذِي نُوقِنُ بِهِ أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ.
وَهِيَ السُّورَةُ السَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ وَقَبْلَ سُورَةِ النَّمْلِ. وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشُّعَرَاء: ٢١٤] مَا يَقْتَضِي أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ نُزُولِ سُورَةِ أَبِي لَهَبٍ وَتَعَرَّضْنَا لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَقْوَالِ.
وَقَدْ جَعَلَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ مَكَّةَ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ عَدَدَ آيِهَا مِائَتَيْنِ وَسِتًّا وَعِشْرِينَ، وَجَعَلَهُ أَهْلُ الشَّامِ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ مِائَتَيْنِ وَسَبْعًا وَعِشْرِينَ.
الْأَغْرَاضُ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا
أَوَّلُهَا التَّنْوِيهُ بِالْقُرْآنِ، وَالتَّعْرِيضُ بِعَجْزِهِمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ، وَتَسْلِيَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ مِنْ إِعْرَاضِ قَوْمِهِ عَنِ التَّوْحِيدِ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ.
وَفِي ضِمْنِهِ تَهْدِيدُهُمْ عَلَى تَعَرُّضِهِمْ لِغَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى، وَضَرْبُ الْمَثَلِ لَهُمْ بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ رُسُلَهَا وَالْمُعْرِضَةِ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ.
وَأَحْسَبُ أَنَّهَا نَزَلَتْ إِثْرَ طَلَبِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَأْتِيَهُمُ الرَّسُولُ بِخَوَارِقَ، فَافْتُتِحَتْ بِتَسْلِيَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَثْبِيتٍ لَهُ وَرِبَاطَةٍ لِجَأْشِهِ بِأَنَّ مَا يُلَاقِيهِ مِنْ قَوْمِهِ هُوَ سُنَّةُ